في الشهر الأول من عام 2020 استورد لبنان سلعاً بقيمة 1739 مليار ليرة مقارنة مع 2117 مليار ليرة في شهر كانون الثاني 2019، أي بانخفاض قيمته 378 مليار ليرة ونسبته 17.8%. يأتي هذا التراجع في ظل القيود المصرفية التي شدّدتها المصارف بعد 17 تشرين الثاني 2019 مانعة عمليات السحب والتحويل، وبعد ثلاثة أشهر على إصدار مصرف لبنان التعميم 530 الذي يحصر وجهة استعمال حتياطياته بالعملات الأجنبية بتمويل مستوردات المحروقات والدواء والقمح، وبالتالي تُرك تمويل باقي المستوردات للأموال الطازجة التي تأتي من الخارج أو تلك التي سحبت من النظام المصرفي نقداً أو حُوّلت إلى الخارج قبل بدء مفاعيل القيود الأخيرة.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

القيود على حركة الاستيراد كانت مرنة إلى حدّ ما، وهذا الأمر يظهر بوضوح في استيراد الشهر الأول من عام 2020.
كما كان متوقعاً، فإن الحصّة الأكبر من الاستيراد كانت للمحروقات التي استحوذت على 681.2 مليار ليرة، أو ما يوازي 39.2% من مجمل الاستيراد في شهر كانون الثاني 2020. ولم يكن مفاجئاً أن تكون هناك حصّة وازنة للواردات المموّلة بدولارات مصرف لبنان مثل الأدوية ومنتجات التعقيم المعدّة للبيع بالتجزئة التي بدأ يرتفع الطلب عليها عالمياً مع انتشار فيروس "كورونا" على نطاق أوسع في العالم وظهور إصابات في منطقة الشرق الأوسط. كذلك ارتفع استيراد القمح من 10 مليارات ليرة في كانون الثاني 2019 إلى 24 مليار ليرة في كانون الثاني 2020، ما يعكس استعمال مستوردي القمح للتمويل المتوافر من مصرف لبنان من أجل تخزين كميات أكبر من القمح لأسباب تجارية على الأرجح مرتبطة بالاحتكارات التي يمثّلها أصحاب المطاحن الذين يستوردون القمح وشعورهم بأن الأسعار قد تبدأ بالارتفاع مع بدء انتشار كورونا ولجوء الدول إلى الإغلاق الاقتصادي، كالذي شهدته الصين لمكافحة الانتشار.
المفاجئ، أن هناك سلعاً قد تبدو للوهلة الأولى هامشية أو غير ضرورية، لكن استيرادها استمرّ بالحدّ الأدنى أو ارتفع رغم أنها لم تكن مموّلة بدولارات مصرف لبنان. استيراد سبائك الذهب ازداد من 45.5 مليار ليرة إلى 76.6 مليار ليرة. صحيح أن استيراد الهواتف الخلوية انخفض من 26.1 مليار ليرة في كانون الثاني من السنة الماضية إلى 7.8 مليارات ليرة في كانون الثاني من 2020، إلا أن الأمر كان مستغرباً لجهة استمرار استيراد هذه السلعة التي قد لا تصنّف ضرورية في هذه الفترة الحرجة. بلغ عدد أجهزة الهاتف الخلوي المستوردة 38695 جهازاً بحسب الجمارك اللبنانية.
وتشير الإحصاءات إلى أن استيراد السيارات المستعملة والجديدة لم يتوقف. فقد استوردت شركات السيارات الجديدة 485 سيارة سياحية صغيرة بقيمة 14.8 مليار ليرة مقارنة مع 26.8 مليار ليرة في الشهر نفسه من السنة الماضية، كما استورد لبنان 366 سيارة مستعملة كبيرة بقيمة 9.5 مليارات ليرة مقارنة مع 25 ملياراً في الفترة نفسها من السنة الماضية.
والمفاجئ ايضاً أن بعض انواع السلع الاستهلاكية لم يزد استيرادها، علماً بأن أسعارها العالمية لم تطرأ عليها تغيرات كبيرة في السعر. فالأرز على سبيل المثال، كانت قيمة مستورداته في السنة الماضية 7.4 مليارات ليرة، وأصبحت هذه السنة 8.2 مليارات ليرة. الزيوت كانت قيمتها 6 مليارات وأصبحت 10 مليارات. لكن تغيّراً ما طرأ على مستوردي المواشي، إذ ازدادت مستوردات الأبقار الحية من 14.6 مليار ليرة إلى 60 مليار ليرة.
كل سلعة استوردها لبنان كانت بهدف واضح ومحدّد. فالسبائك كانت لتهريب الودائع التي تحجزها المصارف، والمواد الاستهلاكية الاساسية كانت بعقل تجاري احتكاري واستشراف أزمة "كورونا"...
لا مجال لترف الاستهلاك بعد اليوم. عندما ينقضي وباء "كورونا"، إذا انقضى بسهولة، سينكشف حجم الكارثة التي سيخلفها الإغلاق الاقتصادي. التوقعات حتى الآن بخسارة ما لا يقل عن 10 نقاط مئوية من الناتج المحلي الإجمالي، وانه لا مجال لفتح الأبواب خلال شهرين على الأقل. هذا يعني إفلاس المؤسّسات وصرف العمال... أما تلك الـ400 ألف ليرة التي ستوزّعها الدولة عبر قنواتها الزبائنية، فهي ليست مجدية إلا لبضعة أيام. هي لا تكفي قسط إيجار سكني لشهر واحد في منطقة فقيرة. أما الإجراءات التي اتّخذها مصرف لبنان، فهي تهدف إلى دعم الطلب الاستهلاكي كما اعتاد حاكم مصرف لبنان سلامة الذي يجهل أساسيات الاقتصاد. أي دعم استهلاكي في ظل فقدان السلع من السوق؟ ألا يفاقم ذلك التضخّم؟ وزارة المال تقدّر التضخم هذه السنة بنحو 27%. لا يمكن دعم الاستهلاك، بينما الإنتاج شبه معطّل. الصناعيون يطالبون منذ فترة بتمويل المواد الأولية، لكنهم يعيشون منذ 30 أيلول في حالة انتظار!