إضافة إلى استحالة استمرار النموذج المصرفي اللبناني الذي ساد خلال العقود الثلاثة الماضية وضرورة إعادة هيكلة المصارف، يجب إعادة النظر بدورها التمويلي في خدمة الاقتصاد عبر تحويل ما تبقّى من الودائع القابلة للإقراض إلى تمويل القطاعات الإنتاجية الدافعة للنمو والمولّدة لفرص عمل والمساعدة على تخفيف عجزَي الميزان التجاري وميزان المدفوعات من خلال زيادة الصادرات و/أو خفض الواردات.لا شكّ في أن سياسات الائتمان والتمويل التي اعتمدتها المصارف اللبنانية خلال العقود الثلاثة الماضية لا تنطبق عليها أسس الوساطة المالية التي نشأت من أجلها. يفترض أن تكون المصارف قناة لتحويل المدّخرات إلى تمويل للاقتصاد، وبشكل أساسي تمويل للاستثمار، لا أن يكون يكون تمويلاً مفرطاً لعجز الموازنة وتمويل الاستهلاك والقطاعات الريعية. تشير البيانات المجمعة للقطاع المصرفي إلى أن المصارف اللبنانية استثمرت في نهاية عام 2019 نحو 43000 مليار ليرة في سندات الخزينة، وأودعت لدى مصرف لبنان 179870 مليار ليرة. وبحسب بيانات أيلول 2019 (هذه آخر البيانات المتوافرة) فإنّ مجمل الائتمان للقطاع الخاص بلغ 98610 مليار ليرة توزّع على النحو الآتي: 23090 مليار ليرة لقطاع التجارة، 29970 مليار ليرة للأفراد (منها 18780 مليار ليرة قروض سكنية والباقي قروض استهلاكية)، 15910 مليارات ليرة لقطاع البناء، 10870 مليار ليرة لقطاع الخدمات (منها 2340 مليار ليرة للفنادق والمطاعم)، 10520 مليار ليرة لقطاع الصناعة، 4060 مليار ليرة للوساطة المالية، 1240 مليار ليرة للزراعة، و2940 مليار ليرة لقطاعات أخرى.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

هكذا، يظهر أن المصارف موّلت استهلاك الأفراد بمبلغ 11200 مليار ليرة، مقابل 11760 مليار ليرة لقطاعَي الصناعة والزراعة مجتمعَين. هذا هو النموذج التمويلي الذي اعتمدته المصارف اللبنانية منذ ثلاثين عاماً، والذي سخى في تمويل عجز الموازنة، وفي تمويل الاستهلاك (المستند بشكل كبير إلى الاستيراد). تنافست المصارف على ابتكار وتقديم قروض استهلاكية (ومنها قروض السفر وقروض التجميل!) بدلاً من التنافس على تمويل الاقتصاد الحقيقي. كما أدّى عدم التزامها بتعاميم مصرف لبنان، بالنسبة إلى التمويل العقاري، إلى انكشافها على هذا القطاع بشكل كبير بلغ 34690 مليار ليرة، أي 35.2% من مجمل محفظة القروض، وهذا الرقم يشمل قروض الإسكان والقروض للمطورين العقاريين وهو ما أدّى إلى تركّز قطاع كبير في المحفظة التمويلية للمصارف.
توجد مشكلة ثانية في توزّع الائتمان للقطاع الخاص، تتمثّل في الانحراف بالنسبة إلى حجم القروض وتركّز جزء كبير منها في القروض الكبيرة. بحسب البيانات المتوافرة، فإن: 0.23% من القروض هي بمبالغ أقل من 5 ملايين ليرة، 3.6% قروض بين 5 و25 مليون ليرة، 5.7% قروض بين 25 و100 مليون ليرة، 16.6% قروض بين 100 و500 مليون ليرة، 4.8% قروض بين 500 و1000 مليون ليرة، 11.7% قروض بين 1000 و5000 مليون ليرة، 7.6% قروض بين 5000 و10000 مليون ليرة، و47.9% قروض فوق 10000 مليون ليرة. نحو نصف محفظة قروض المصارف اللبنانية يتركّز في قروض تفوق قيمة كل منها 10 مليارات ليرة. ومن خلال ربط هذه المبالغ بالتوزّع القطاعي، يمكن الاستنتاج بأن جزءاً كبيراً من القروض فوق 10 مليارات ليرة استحوذ عليها قطاع البناء والمطورون العقاريون، كما يمكن الاستنتاج بأن الجزء الأكبر من القروض ما بين 100 و500 مليون ليرة هي مخصّصة للقروض السكنية، ما يشير مجدداً إلى الانكشاف الكبير للمصارف على القطاع العقاري، وتعرضها الكبير لمخاطر التركز (Concentration risk) الذي يزيده سوءاً مخاطر توظيف الأموال الهائل في الدين السيادي.
في الدول التي تعتمد اقتصاد السوق، يُفترض بالمصارف أن تلعب الدور الأهم في تمويل مؤسّسات الأعمال على مختلف أنواعها (وخصوصاً مع غياب سوق رأس المال كما هي الحال في لبنان).


وعليه، فإن حرمان قطاعات الاقتصاد الحقيقي من الاستفادة من المدّخرات تتحمل مسؤليته المصارف – إلى جانب صانعي السياسات المالية والنقدية – سواء بسبب إحجامها عن تمويل مؤسسات الأعمال (وخاصة الصغيرة والمتوسطة)، أو بسبب الفوائد المرتفعة المُحبطة للاستثمار والتي منعت المؤسسات من الاقتراض بهدف التوسّع والنمو. وفي هذا المجال نشير إلى أن الإهمال الرسمي ومحدوديّة الإقراض لقطاعات الاقتصاد الحقيقي أدّيا إلى تدنّي معدّلات الاستثمار في لبنان، ومنها مثلاً مؤشر Gross Capital Formation (وهو مؤشر أساسي لقياس حجم الاستثمار) والذي شكّل 19.5% من الناتج المحلي الإجمالي للبنان في نهاية 2018 فاحتلّ به المرتبة 116 عالمياً بين 158 دولة. وللمقارنة نشير إلى أن المتوسط العربي لهذا المؤشر بلغ 25.9%، وجاء لبنان بعد عدد كبير من الدول العربية من ضمنها على سبيل المثال، الضفة الغربية وقطاع غزة التي سجلت نسبة 24.2%.
انعكست هذه السياسات التمويلية حرماناً من تطوير القطاعات الاقتصادية الأساسية كالصناعة والزراعة ما أدّى إلى تراجعهما وضمورهما وانخفاض مساهمتهما في الاقتصاد الوطني. كذلك اضطر لبنان إلى أن يستورد حاجاته من المواد الغذائية والصناعية بشكل متزايد. إن زيادة التمويل لهذين القطاعَين، سيزيد قدرة المنشآت الزراعية والصناعية على زيادة الاستثمار والتوسع وزيادة الإنتاج، ما سيؤدي إلى خفض الاستيراد وزيادة التصدير وتحسين وضعية ميزانَي التجارة والمدفوعات، وخلق المزيد من فرص العمل، هذا عدا عن تخفيف مخاطر التركّز بالنسبة إلى المصارف نفسها.
لا يمكن مطلقاً الاستمرار بنموذج يستورد معدّات صناعية بقيمة 250 مليون دولار مقابل استيراد سيارات سياحية بقيمة 772 مليوناً


وبالاستناد إلى بيانات الاستيراد والتصدير، يمكننا إعطاء بضعة أمثلة عن قطاعات اقتصادية واعدة كان لبنان متميزاً فيها، قبل أن تنحسر أهميتها نتيجة للإهمال الرسمي وعدم الحصول على الاستثمار الكافي، أي يمكن أن تؤدي زيادة تمويلها إلى الإسهام في انعاش الاقتصاد وخلق فرص عمل وتحسين وضعية ميزان المدفوعات.
أولاً: قطاع الزراعة
تُظهر بيانات الجمارك، أن لبنان استورد خلال عام 2019 منتجات غذائية بقيمة 3112 مليون دولار من ضمنها منتجات نباتية بقيمة 932 مليون دولار تشمل 311 مليون دولار حبوب. كما بلغت قيمة مستوردات الألبان ومنتجاتها والبيض 299 مليون دولار. وقد بلغ العجز بين صادرات وواردات المنتجات الغذائية نحو 2484 مليون دولار، أي ما نسبته 16% من مجمل عجز الميزان التجاري البالغ 15508 ملايين دولار. وتحديداً، مثّل العجز بين صادرات وواردات الحبوب ومنتجات الألبان والبيض 4% من مجمل العجز التجاري في عام 2019.
ثانياً: قطاع الصناعة
الصناعة الصيدلية: استورد لبنان خلال 2019 بما قيمته 1242 مليون دولار من منتجات الصيدلة، منها 795 مليون دولار أدوية. وشكّل العجز بين صادرات واردات منتجات الصيدلة ما نسبته 7.6% من مجمل العجز التجاري، والعجز بين صادرات وواردات الأدوية نسبة 4.8% من مجمل عجز الميزان التجاري.

المصارف وصانعو السياسات النقدية والمالية حرموا قطاعات الاقتصاد الحقيقي من الاستفادة من المدّخرات


صناعة الثياب: استورد لبنان خلال 2019 ألبسة وأحذية بقيمة 519 مليون دولار. وقد شكل العجز بين صادرات وواردات الألبسة نسبة 3.1% من مجمل العجز التجاري لعام 2019.
صناعة المجوهرات: استورد لبنان خلال 2019 معادن ثمينة بقيمة 931 مليون دولار، وصدّر ما قيمته 1455 مليون دولار، محققاً فائضاً بقيمة 524 مليون دولار. وقد مثلت صادرات المعادن الثمينة 39% من مجمل صادرات لبنان، وهو ما يدل على القدرة التنافسية الكبيرة للبنان في هذا القطاع والآفاق الهائلة له.
لا يمكن مطلقاً الاستمرار بالنموذجين الاقتصادي والتمويلي الذين أدّيا مثلاً إلى استيراد معدات صناعية بنحو 250 مليون دولار خلال عام 2019 مقابل استيراد سيارات سياحية بقيمة 772 مليون دولار. فالاقتصاد اللبناني ليس بحاجة إلى مزيد من القروض للقطاع الخاص (المُقيم)، إذ بلغ مجمل القروض المقدمة له 66200 مليار ليرة أي 83% من حجم الاقتصاد، بل يجب على المصارف إعادة توزيع ائتمانها والتركيز على إقراض القطاعات المنتجة الداعمة للنمو والتي تخلق فرص العمل وتُدخل عملات أجنبية. وفي حال لم يتحقق هذا الأمر، يتوجب على الحكومة ومصرف لبنان فرض تخصيص جزء مهم من محافظ المصارف الائتمانية للقطاعات الإنتاجية، على غرار ما فعله البنك المركزي المصري بإجبار المصارف المصرية على تخصيص 20% من قروضها للمشاريع الصغيرة والمتوسطة.