«إن التعامل مع اقتصاد يقوم على الدولار أمر ليس سهلاً، حيث نسبة 73.5% من الأرصدة هي في العملة الأجنبية، والعجز في الميزانية عالٍ، وحماية العملة المحلّية معركة يومية».
رياض سلامة


ماذا سيحصل في حال فتحت المصارف أبوابها؟
يتردّد هذا السؤال كثيراً بين المشاركات والمشاركين في اللقاءات الحوارية مع بعض الاقتصاديين على هامش أنشطة الانتفاضة. يعبّرون من خلاله عن قلق عميق من سحب الودائع بكثافة واحتمالات توقّف المصارف عن الدفع. يلحّون بطلب أفكار أو أمثلة عن الإجراءات المُمكن اتخاذها لتفادي ذلك، طلباً للمعلومات وصياغة المطالب أحياناً، أو رغبة في الاطمئنان أحياناً كثيرة.
مع أن المسألة ليست تقنية فقط، بل سياسية بالدرجة الأولى، أي إنها تتعلّق بالنموذج الاقتصادي البديل الذي يؤمّن استقراراً لسعر الليرة على المدى البعيد، مدعوماً بالإنتاج والعمل لا بالديون الخارجية والتحويلات وتدفّقات رأس المال وأسعار الفائدة السخيّة. كما أنها عملية صراعية على السلطة والثروة والدخل، تنطوي على تعديل كبير وعميق في ترتيب سلم المصالح الاقتصادية والاجتماعية... إلّا أن هناك مروحة واسعة من الإجراءات التي يمكن اتخاذها بسرعة وحزم لحماية أجور ومدّخرات وتعويضات الطبقات المتوسّطة والعاملة، ولكنّها ليست إجراءات بسيطة أو سهلة وستواجه، من دون شكّ، مقاومة شرسة جدّاً وعنيفة من الأوليغارشية المالية المُهيمنة التي ترفض حتّى الآن التنازل عن أي من مكاسبها الضخمة.
أوّلاً، ممّا تخاف المصارف؟
منذ بدء الانتفاضة في 17 تشرين الأوّل/ أكتوبر، تعمد جمعيّة مصارف لبنان إلى إصدار بيانات يومية تعلن فيها «أن أبواب المصارف ستبقى مقفلة في انتظار استقرار الأوضاع العامّة في البلاد!». لا يتعلّق قرار الإقفال بالإضراب العام أو بمزاعم وجود تهديد لأمن العملاء والموظّفين وسلامتهم، وفق ما ورد في بعض هذه البيانات، بل يتعلّق بوجود نقصٍ فادحٍ في السيولة بالليرة وبالدولار، وبعدم قدرة البنك المركزي والبنوك التجارية على تأمينها في مواجهة أي موجة سحوبات كبيرة للودائع من قبل المودعين على اختلاف شرائحهم، لأن جزءاً مهمّاً من هذه الودائع، ولا سيّما بالدولار، لم يعد موجوداً في الواقع، ولكن على الدفاتر فقط. طبعاً، يحتاج تفسير هذا الأمر إلى شرحٍ مستفيض يتّسم بالكثير من التعقيد، ولكن يمكن تبسيطه عبر مؤشّر واضح هو أن البنك المركزي استخدم جزءاً مهمّاً من هذه الودائع، ولا سيّما عبر الهندسات المالية التي أجراها مع المصارف، لتمويل عجز ميزان المدفوعات الخارجية والتدخّل في سوق القطع للدفاع عن سعر صرف الليرة الثابت إزاء الدولار، ما أدّى إلى استنزاف كلّ الاحتياطي الصافي بالعملات الأجنبية ليصبح سلبياً (عجز) بقيمة تقدّر بما بين 30 ملياراً و40 مليار دولار.
على الرغم من أن النقص في السيولة يشمل الليرة، إلّا أن المخاوف تتركّز على سحوبات الودائع بالدولار التي تشكّل أكثر من 73% من مجمل الودائع. ووفق إحصاءات حزيران/ يونيو الماضي، تقدّر قيمة الودائع تحت الطلب بالدولار بنحو 20.3 مليار دولار، وهناك 50% من الودائع بالدولار مجمّدة لمدّة شهر واحد فقط، أي إنها تستحقّ دفعة واحدة عند فتح المصارف أبوابها والعودة إلى إجراء عمليّاتها مع الزبائن كالمعتاد. أي إن قيمة الودائع التي يمكن سحبها نظرياً في اللحظة نفسها تتجاوز ما هو مُتاح في هذه اللحظة لدى البنك المركزي والبنوك التجارية معاً، وحتّى لو تمّ سحب نصف أو ربع أو أي جزء من هذه الودائع المستحقّة فسيتسبّب في أزمة يمكن أن تؤدّي إلى إفلاسات وتصيب رأس المال بخسائر كبيرة من الصعب تعويضها.
ما هي الإجراءات التي يمكن اتخاذها لمنع حصول أزمة مصرفية شاملة، أو بالأحرى لمنع تحميل الخسائر للمجتمع بدلاً من رأس المال. توجد مروحة واسعة من الإجراءات، وهي بمثابة خيارات سياسية بامتياز، وهذا بعضها (على سبيل المثال لا الحصر):
1- فرض ضوابط رأس المال (capital control):
في مواجهة أزمات شبيهة، لجأت دول عديدة إلى فرض ضوابط أو قيود على حركة رأس المال عبر الحدود. في الحالة اللبنانية، قد يعمد كبار المودعين إلى نقل ودائعهم المستحقّة إلى خارج لبنان لحمايتها، وبالتالي يُفترض في هذه الحالة أن تلجأ السلطات إلى اتخاذ قرار يمنع خروج الودائع كلّياً لفترة زمنية مُحدّدة (وفق ما تقتضيه الحاجة)، إلّا أن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة يرفض اتخاذ مثل هذا الإجراء حتّى الآن بحجّة أنه يؤدّي إلى توقّف تدفّق الودائع من الخارج إلى لبنان، وبالتالي يعمّق أزمة «نقص الدولار» ويزيد الضغوط التمويلية والضغوط على سعر الصرف، علماً بأن تدفّق الودائع من الخارج متوقّف بالفعل.
ولا تقتصر ضوابط رأس المال على تقييد خروج الودائع، بل يمكن أن تشمل التحويلات من لبنان واستثمارات المقيمين في الخارج، وكذلك يمكن أن تشمل تخفيض الاستيراد للحدّ من نزف الدولارات، كأن يجري تعليق استيراد سلع أو خدمات غير مُلحّة أو ضرورية (كالسيّارات على سبيل المثال) لفترة محدّدة.
تُعتبر مثل هذه الإجراءات ضرورية، إذ إن لبنان يعاني من عجز كبير في حسابه الجاري (صافي العمليات بين المقيمين وغير المقيمين)، الذي يقدّر بنحو 25% من مجمل الناتج المحلّي، وهذا العجز ناتج عن عجز تجاري ضخم (الصادرات ناقص المستوردات) ومدفوعات الفائدة على الدَّيْن الخارجي بما فيه ودائع غير المقيمين.
2- قصّ الودائع (haircut):
سيكون ضرورياً في فترة فرض ضوابط رأس المال اتخاذ إجراءات أكثر راديكالية لضمان النتائج، ولا سيّما لجهة تقليص موجودات المصارف وودائعها وإعادة تكوين احتياطيات مصرف لبنان وتمويل الدولة، عبر فرض ما يشبه ضريبة استثنائية لمرّة واحدة على الودائع فوق سقف معيّن (مثلاً فوق 100 ألف دولار أو 200 ألف أو أي سقف مناسب).
من المفيد أن نعرف أن أكثر من 92% من الحسابات المصرفية هي دون 100 ألف دولار، وأكثر من 95% منها دون 200 ألف دولار، وهناك 24 ألف حساب فقط من أصل 2.9 مليون حساب هي فوق مليون دولار، ما يعني أن أي عملية قصّ للودائع للحسابات فوق 100 ألف دولار لن تصيب إلّا قسماً ضئيلاً جدّاً من المودعين يستحوذون على أكثر من 85.5% من مجمل ودائع الزبائن (أكثر من 90 مليار دولار). ويجب أن تكون الضريبة تصاعدية، بمعنى أن تتدرّج معدّلاتها وفق الشرائح لتصيب أكثر كبار المودعين، إذ إن هناك 1200 حساب فقط يوجد في كلّ منه وديعة تتجاوز قيمتها 20 مليون دولار (مجموعها نحو 30.3 مليار دولار)، علماً بأن 92 حساباً فقط منها يوجد فيه ما مجموعه 10.8 مليارات دولار.
3- استرداد أرباح الهندسات المالية:
منح مصرف لبنان البنوك التجارية أرباحاً استثنائية فورية بمليارات الدولارات، منها نحو 5.7 مليارات دولار في عام 2016 وحده، وذلك خلافاً لقانون النقد والتسليف وعبر عمليّات مثيرة للشكوك ومن دون أي مقابل أو رهن أو شروط لاستردادها. وهناك توافق واسع بين المسؤولين الحاليين في الدولة على أن هذه الأرباح غير مشروعة، وقد طرح وزير الاقتصاد والتجارة منصور بطيش استردادها من المصارف عبر تقسيطها لمدة 5 سنوات، منعاً لأي تأثيرات على ملاءتها، إلّا أن رئيس الحكومة سعد الحريري رفض هذا الطرح.
4- إعادة هيكلة الديون:
يقدر الدَّيْن الحكومي هذا العام بنحو 85 مليار دولار، منه نحو 32 مليار دولار بالعملات الأجنبية، ويرتّب هذا الدَّيْن مدفوعات فائدة في الموازنة بقيمة 5.5 مليارات دولار، أي إنها تستنزف أكثر من ثلث الإنفاق العام ونحو نصف الإيرادات.
إن كلّ تخفيض 1% من سعر الفائدة على هذا الدَّيْن القائم سيوفّر نحو 900 مليون دولار سنوياً. توجد طرق كثيرة للتخلّص من الجزء الأكبر من الدَّيْن وفوائده، ولا سيّما عبر طريقة شطب الديون التي اعتمدتها دول عديدة، أو شطب الفائدة أو أجزاء منها، ومن المفيد التذكير بأن 55% من الدَّيْن الحكومي بالليرة يحمله مصرف لبنان، وقد طرحت ورقة الاقتصاديين الأخيرة تحويل هذا الدَّيْن إلى سندات أبدية بفائدة صفر في المئة، وهذا يمكن أن يطبّق على جزء مهمّ من الدَّيْن الذي تحمله المصارف.
تكشف هذه الإجراءات ــ الأمثلة طبيعة الصراع الدائر الآن، فإمكانية إنقاذ المجتمع اللبناني وحمايته مُمكنة ومُتاحة، ولكن شرطها أن تتمّ عبر مصادرة جزء من ثروات طبقة الأوليغارشية المالية المُتراكمة، وهذا ما لا يمكن للسلطة القائمة أن تفكّر فيه. ولذلك يجري البحث دائماً عن إجراءات معكوسة، أي التي تؤدّي إلى إخضاع المجتمع أكثر فأكثر لمصالح هذه الطبقة ومنحها المزيد من الحماية كي تنفذ بريشها. لذلك على الانتفاضة أن توجّه سهامها إلى هذه الطبقة تحديداً دفاعاً عن المجتمع.