يتكرّر ظهور المؤشرات الاقتصاديّة التي تعكس تراجع الثقة لدى اللبنانيين بنظامهم المالي ومستقبله، في ظل الأزمة الماليّة القائمة اليوم. ولعلّ أبرز الظواهر التي انتشرت خلال الفترة الماضيّة كان تزايد الطلب على الخزنات الحديديّة، مع انتقال جزء كبير من اللبنانيّين إلى سحب الودائع المجمّدة في المصارف، والادخار في المنازل، خوفاً من آثار الأزمة على النظام المالي وسلامة ودائعهم، بينما قام جزء آخر من المودعين الذين يملكون ودائع أكبر حجماً بتحويل الودائع إلى الخارج للأسباب نفسها. ويبدو أن هذه التطوّرات سرعان ما وجدت طريقها إلى التأثير بشكل كبير على بنية الكتلة النقديّة في الأسواق وتوزيعها، بحسب ما تظهر المؤشّرات النقديّة المختلفة. منذ بداية السنة، تراجع الحجم الإجمالي للودائع المجمّدة في القطاع المصرفي من 136.56 مليار دولار في نهاية كانون الأوّل، إلى 135.48 مليار دولار في نهاية شهر تموز الماضي. وتربط معظم التحليلات هذا التراجع بحجم التحويلات الكبير إلى الخارج، وخصوصاً مع بلوغ عجز ميزان المدفوعات اللبناني حدود الـ5.32 مليارات دولار حتّى نهاية شهر تمّوز الماضي. لكن قراءة تطوّرات الكتلة النقديّة وتحوّلاتها تظهر أن جزءاً آخر من هذا التراجع في حجم الودائع يعود تحديداً إلى سحب جزء من الودائع المصرفيّة، وتحويلها إلى مدّخرات على شكل نقود ورقيّة.
عند قراءة الكتلة النقديّة، يتم التمييز بين عدّة مستويات وأشكال منها، وذلك بحسب درجة سيولتها وتوفّرها للاستعمال عند الحاجة. فالمستوى الأول من الكتلة النقدية ــ والذي يشار اليه برمز M1 ــ يشمل مثلاً الأموال السائلة على شكل نقود ورقيّة وحسابات جارية قابلة للسحب في أي لحظة، بينما يشمل المستوى الثاني من الكتلة النقديّة ــ والذي يشار إليه برمز M2 ــ المستوى الأوّل نفسه إضافة إلى أشكال أخرى من الأموال موجودة على شكل ودائع وتوظيفات في الأوراق الماليّة السائلة وغيرها من أشكال الادخار.


وتقوم البيانات النقديّة المتوفّرة عادة باحتساب مستوى النقد المتوفّر لكل من المستويين على حدة، وتحتسب الهامش (أو الفارق) لتحديد قيمة المدخرات المتوفّرة على شكل ودائع مجمّدة في المصارف أو موجودة على شكل توظيفات في الأوراق الماليّة. وبمعنى آخر، كلما زاد هذا الهامش، فذلك يعني أن نسبة أكبر من هذه الكتلة النقديّة متوفّرة على شكل توظيفات وودائع، بينما يدل تناقص الهامش على انخفاض هذه النسبة مقابل تحوّل جزء أكبر من الكتلة النقديّة إمّا إلى نقد ورقي أو حسابات جارية قابلة للسحب في أي لحظة. وفي الوقت نفسه، يؤدّي تحويل الودائع المجمّدة في المصارف إلى الخارج إلى تقليص نسبة الودائع المجمّدة من إجمالي الكتلة النقديّة المتوفّرة في الأسواق، وبالتالي تقليص هذا الهامش نفسه.
خلال الأزمة الماليّة التي يمر بها لبنان، شهد هذا الهامش خلال فترة من الفترات توسّعاً ملحوظاً، مع ارتفاعه من حدود 40.56 مليار دولار سنة 2013 إلى 47.95 مليار دولار سنة 2016. وخلال هذه الفترة، كان هذا الارتفاع مدفوعاً بالزيادة الكبيرة في نسب الفوائد التي تمنحها المصارف، وهو ما أدّى إلى امتصاص جزء كبير من الكتلة النقديّة المتوفّرة في الأسواق وتحويلها إلى حسابات مجمّدة.
لكنّ تأزم الأوضاع لاحقاً على المستوى المالي، وتزايد الضغوط الناتجة عن الأزمة القائمة، خلقا مع الوقت أزمة ثقة كانت تدفع جزءاً من المودعين إلى الإحجام عن تجميد أموالهم على شكل ودائع مصرفيّة. وتحوّل جزء من هذه المدخرات إلى نقود ورقيّة، بينما قام جزء آخر من المودعين الذين يملكون ودائع أكبر حجماً بتحويل هذه الودائع إلى الخارج. وفي النتيجة، كان هذا الهامش بين الكتلتين يتقلّص تدريجيّاً من 47.95 مليار دولار سنة 2016 إلى 39.38 مليار دولار في شهر أيلول الماضي.
في النتيجة، تظهر هذه المؤشّرات مجدداً أن حجم الأزمة وآثارها أصبحا أكبر من الاحتواء عبر التصريحات التقليديّة، التي تشدد عادةً على سلامة الوضع المالي والنقدي، ويبدو أنّ هناك إقراراً عاماً بوجود ضغوط كبيرة على النظام المالي تهدد قدرته على الاستمرار وفق النموذج القائم اليوم نفسه.