«قل لي ما هو برنامجك للضرائب، أقول لك ما هي قِيَمك»
اليزابيت وارن



في كتابه «إعادة اختراع الرأسمالية في عصر المعطيات الكبرى»، يقول فكتور ماير شونبرغر إن الإنسانية استنبطت عبر التاريخ مؤسسات من أجل حلّ معضلة التنسيق من أجل تحقيق الأهداف: من الأسواق إلى الشركات، وقد كان لهذه المؤسسات على اختلاف كفاءتها دور أساسيّ في تقدّم البشرية. اليوم الرأسمالية في زمن صعود المعطيات الكبرى والتكنولوجيا الرقمية، ستضطر إلى إعادة ترتيب نفسها، بحيث تنتفي الحاجة إلى مؤسسات وتظهر أخرى. نحن في لبنان، بالطبع، لا زلنا بعيدين جداً عن رأسمالية كهذه يُعاد اختراعها، فالرأسمالية اللبنانية بالكاد تستطيع إعادة إنتاج نفسها، بل إنها تتخلف وتعود إلى الوراء يوماً بعد يوم. واليوم، أظهرت الحرائق التي نشبت في العديد من المناطق اللبنانية أننا نعيش في وطن بدون دولة تستطيع أن تقوم بأمور أساسية من صلب عملها في التنسيق والفعالية، الذي أساسه حشد الموارد نحو هدف معيّن. ففي هذه الحالة كان الهدف هو: حماية المجتمع والطبيعة، والموارد كانت: إمكانيات منع حصول الكوارث وإمكانيات السيطرة عليها في حال حدوثها. وهنا فشلت الدولة فشلاً ذريعاً، فعلى مرّ السنين لم تستطع الدولة الاستثمار في حراسة الأحراج والإطفاء، بل أخضعتها للمنطق التسوّلي نفسه في الحصول على المساعدات والمنطق المذهبي نفسه في التعيينات. وحتى في خضم الحرائق، خرج «سياسيان» ليصرّحا، فأظهرا الأزمة بأبشع صورها. الأول، تصريح النائب عن التيار الوطني الحر ماريو عون، والثاني تصريح وزيرة الداخلية، بكل استهزاء، حول طائرات الإطفاء، ما مفاده «هل نحن قادرون على إنفاق بضعة ملايين من الدولارات لشرائها»!

أنجل بوليغان ــ المكسيك

في موضوع الإطفاء، السؤال الأساسي كيف لدولة الدخل الفردي فيها يبلغ حوالى 14,000 دولار، ولديها أكثر من نصف مليون عامل في الخارج دخلهم مرتفع، كذلك فيها طبقة 1% تملك ثروات كبرى، أن لا يكون لديها بضع طائرات لإطفاء الحرائق وتضطر لأن تستعين بطائرات من دول الجوار؟ الجواب يكمن في عدم إمكانية الدولة حشد الموارد في الكثير من أوجه عملها، وهذا ينطبق أيضاً على الكهرباء والطرقات والتعليم والصحة وبناء القدرات الدفاعية. السبب في كلّ هذا النقص الكبير هو في عدم ملائمة النظام الضريبي مستوى الدخل والثروة في لبنان، أي أننا نعيش في حالة عدم تناظر كبير بين القدرات الاقتصادية اللبنانية، وبين بناء مقدرات الدولة.

السويد أم الصومال؟
إن المدخل الأساسي لبناء الدولة الحديثة، أو دولة الديمقراطية الاجتماعية، أو ما أسماها بول كوليير «الدولة الأخلاقية»، هو في النظام الضريبي. فعلى الشعب اللبناني ألّا ينظر إلى الضرائب كما صوّرها له أيديولوجيو اليمين، الذين يريدون أن تبقى الضرائب على الرأسمال متدنيّة، وأن يبقوا على لبنان ملجأ ضريبياً، على أنه قصاص من الدولة ضد الشعب، بل أن يراها كجزء أساسي من الاقتصاد السياسي لبناء دولة حديثة. فما قالته وارن عن الأشخاص، نستطيع أن نقوله عن الدول: «قل لي أي نظام ضريبي لديك، أقول لك أية دولة عندك». فالضريبة الصفر تعني مجتمع البداوة، أي من دون دولة. وهناك من يحلم بإعادة إنتاج هذه اليوتوبيا الفوضوية بشقّيها اليساري واليميني. فالبعض من الرأسماليين الفوضويين يقدمون الصومال اليوم مثالاً على المجتمع الذي استطاع تنظيم نفسه من دون الدولة ومن دون الضرائب. أما الضريبة العالية فهي مترافقة مع المجتمعات المتقدمة، مثل الدول في شمال أوروبا. فليس من المصادفة أن تترافق الضرائب العالية مع السعادة والتقدم وحقوق المرأة وغيرها من المؤشرات على رفاه الشعوب هناك. وهنا على الشعب اللبناني أن يقرر هل علينا أن نعمل لنضع الاقتصاد اللبناني على سكة بناء دولة على طريقة النموذج النوردي، أم أننا نريد أن نتّجه على سكة تدمير الدولة على طريقة النموذج الصومالي، وإن كان بغلاف أكثر حداثة وبريقاً؟

الثروة والضرائب
في المناسبة يدور نقاش واسع في أميركا حول النظام الضريبي. فالآن، يدفع أغنى 400 شخص معدّل ضريبة أقل من المتوسط الأميركي. في كتابه «انتصار اللاعدالة» الذي صدر في 15 أكتوبر، يقول غابرييل زوكمان، والذي يقود الآن حملة في الولايات المتّحدة لوضع ضرائب على الثروة وتغيير النظام الضريبي الأميركي، أنّ متوسط معدل الضريبة يبلغ 28% بينما يبلغ معدل الضريبة التي يدفعها الأكثر غنى 23%. طبعاً في لبنان، الأمر أسوأ بكثير. لنأخذ بعض المحاكاة: غنيّ لديه 100 مليون دولار موضوعة بفائدة عشرة بالمئة ما يجعل دخله السنوي عشرة ملايين دولار. ولنفترض أنه يستهلك بمليون دولار وكل استهلاكه يخضع للضريبة على القيمة المضافة، ينتهي إلى أن يدفع 11 بالمئة من دخله. في المقابل موظف أجره 120 مليون ليرة لبنانية (من الطبقة الوسطى العالية) يدفع ضريبة الأجور، ولنفترض أنه ينفق باقي دخله على الاستهلاك الذي نصفه فقط خاضع للضريبة على القيمة المضافة، ينتهي إلى أن يدفع 16.4% من دخله. يمكننا أن نقيم مقارنات كثيرة، مع أشخاص أعلى دخلاً من الموظف، أو أشخاص يملكون سندات خزينة بالدولار الأميركي، أو أشخاص يملكون عقارات بعشرات الملايين من الدولارات من دون أن يدفعوا ضريبة ثروة عليها وهكذا دواليك. فمن الواضح، على الأقل، أن معدل الضريبة هو أعلى على الموظفين من الطبقات الوسطى من معدلات الضرائب على الطبقات الغنية.

الرأسمال ضد الطبيعة... وضد المجتمع
في السياق الأوسع، عندما يعارض الرأسماليون وضع الضرائب عليهم، سيكون لهذه المعارضة تأثير على الشأن العام. لو كان الأمر غير ذلك، لكانت عملية الصراع الطبقي بين الرأسمال والعمل هي أمر «خاص» يدور في «المجتمع المدني». لكن لهذا الصراع، أو بالأحرى، الحرب التي تشنها الطبقات العليا ضد الطبقات الوسطى والعاملة في لبنان، تأثيرات على الدولة. ففي لبنان اليوم عندما يلوث الرأسمال الطبيعة، من دون حساب ولا رقيب، وعندما يرفض الرأسمال وضع الضرائب عليه ما يؤدي إلى استنزاف مقدرات الدولة، فهو ليس يدافع عن مصالحه ومواقعه الاقتصادية فقط، بل هو يصبح ضد الطبيعة أيضاً.
ولزيادة الطين بلة، حاولت الحكومة مباشرة بعد الحرائق، فرض الضرائب على المجتمع كافة من دون الرأسمال، وكانت الضريبة - الرمز، هي «ضريبة الرأس» على استخدام الواتساب. وهنا لمرة أخرى، دليل آخر على اندماج الرأسمال بالدولة الطائفية. فالحكومة تغاضت بالكامل عن وضع الضرائب على الأرباح والريع والثروات وحاولت، بكل صلافة شبه - إقطاعية، وضع ضريبة الرأس هذه بذريعة، كما أعلن وزير الإعلام، أن الدولة تتكلف على إيصال هذه الخدمة إلى الشعب! وهنا لا بد لمرة أخرى من طرح موضوع الاتصالات والكهرباء. ففي كل النقاشات حول لبنان، يتم التطرق إلى العجز في قطاع الكهرباء ومدى تأثيره على عجز الخزينة وبالتالي تراكم الدين العام. كما أن وزارة المالية تصدر نشرات دورية عن هذا العجز، إلا أنه لا يُذكر البتة، أن القطاع الآخر في الخدمات العامة، أي الاتصالات، يحقق فوائض للدولة. وهذا الفائض في أكثر السنوات يكاد يوازي العجز في الكهرباء الذي يشهد تقلبات ناتجة عن تأثره بأسعار النفط العالمية. في هذا الإطار، النظرية الاقتصادية للتسعير في الخدمات العامة تعتمد أساساً على سياسة «لا ربح لا خسارة»، أي أنها يجب فقط أن تغطي كلفة إنتاجها مع كلفة الاستثمار فيها، وليس هدفها تحقيق ربح للدولة. بالتالي، علينا في لبنان عند الحديث عن العجز في قطاع الكهرباء ألا نفصله عن الفائض في قطاع الاتصالات. إن التركيز على الكهرباء فقط هو خطأ اقتصادي وينمّ عن حملة أيديولوجية مركزة، كما فعل الرئيس الحريري في خطابه الجمعة، لوضع اللائمة عليه في تراكم الدين العام والتعمية على دور النظام الضريبي الذي هو الأساس في تراكم هذا الدين، كما التعمية على خدمة الدين العام وارتفاع الفوائد التي لديها الحصة الكبرى في عجز الخزينة وتراكم الدين.
عندما يرفض الرأسمال وضع الضرائب عليه ما يؤدي إلى استنزاف مقدرات الدولة، فهو ليس يدافع عن مصالحه ومواقعه الاقتصادية فقط، بل هو يصبح ضد الطبيعة أيضاً


عندما أعلن وارن بافيت في 2006 «أنها بالفعل حرب طبقية، لكن طبقتي، الطبقة الغنية، هي التي تشنها وتربحها»، كانت فعلاً حرباً من جانب واحد. أما الآن، فقد بدأت الحرب المضادة في أميركا كتلك التي يقودها بيرني ساندرز. وفي لبنان أيضاً بدأت الحرب المضادة منذ عدة أيام بعد أن كانت لسنوات عديدة حرباً من جانب واحد. فهي الآن حرب ضد التباعد الهائل في الدخل والثروة وضد مفاعيله على المجتمع والطبيعة. ويصبح هذا الأمر أكثر ضرورة، عندما نعرف أن هذا التباعد في الدخل والثروة هو ليس نتيجة التكنولوجيا أو العولمة أو «المبادرة الفردية»، وإنما بسبب قوة الرأسمال تجاه العمل، كما يتأتى أيضاً إمّا عن احتكار أو ريع عقاري أو خارجي أو سياسي. بالتالي فإن وضع الضرائب العالية عليه لبناء الدولة لهو من الناحية الاقتصادية البحتة، أكفأ بكثير من تركه يتراكم بحرية من دون ضرائب خالقاً السلالات الريعية، ما يجعلنا نتراجع سياسياً وثقافياً واقتصادياً. اليوم الطرح الذي يتداول حول «مساهمة القطاع المصرفي» في الحل، يحاول أن يضفي طابع «العطاء» و«التضحية» الذي طالما اعتادت عليه هذه الأرستقراطية المالية في تعاملها مع الشعب اللبناني.
وهذا اليوم مرفوض رفضاً تاماً، فقد ولّى زمن المساعدات والهبات والتبرعات من الذين راكموا الثروة بواسطة الدين العام للدولة الطائفية. إن الطريق الوحيد للتغيير هو في استقالة الحكومة وقيام حكومة انتقالية خارج منظومة المحاصصة وانتخابات مبكرة وتغيير راديكالي في النظام الضريبي يرفع الضرائب على الأرباح ويضعها على الثروة المكدسة في العقارات وفي الأصول وفي المصارف في الداخل والخارج، ويضع ضريبة عالية على التوريث. اليوم بعد الانتفاضة الشعبية لن يقبل الشعب اللبناني المساهمات الفوقية والاستعلائية من أحد! من هنا يأتي بناء الدولة ليس فقط لمكافحة الحرائق أو لبناء الجيش أو الكهرباء أو السيطرة على عجز الخزينة، بل من أجل قيام دولة عصرية ديمقراطية اجتماعية، أو دولة أخلاقية، ومن أجل وقف مسار التوجه أكثر فأكثر إلى غياهب الظلم والفوضى والتخلف.