تحتوي الأخبار المتداولة على بعض المفارقات التي يجدر التوقّف عندها. ففي الوقت الذي يتعرّض فيه معظم عملاء المصارف والتجّار لقيود غير نظامية وغير مُعلنة، تقوّض قدرتهم على التحويل من الليرة إلى الدولار، وتجبرهم على شراء الدولار من الصرّافين بسعر أعلى من سعر الصرف الرسمي الثابت، وتضعهم في مزاحمة شديدة وخطيرة للاستحواذ على ما تبقّى من دولارات مُتاحة في السوق خارج مصرف لبنان... في هذا الوقت تحديداً، لا يجد كبار المودعين في المصارف التجارية صعوبة كبيرة في تحويل ودائعهم بالسعر الرسمي (1514 ليرة للدولار) وتهريبها من لبنان إلى الخارج. على سبيل المثال لا الحصر، تفيد الأخبار المتداولة بين المصرفيين أن «زعيماً» مترسملاً، ثرياً أباً عن جد وأحد أبرز رموز الطبقة الأوليغارشية الحاكمة، تمكّن منذ أيام قليلة من تحويل وديعة له في أحد المصارف المحلّية من الليرة إلى الدولار (بقيمة 30 مليون دولار)، وقد جرى تمويل هذه العملية عبر شراء الدولارات من مصرف لبنان، وهو ما ينطبق على عمليّات تحويل أخرى يقوم بها كبار المودعين وتستنزف موجودات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية. وكذلك تفيد الأخبار أن مصرفاً تجارياً، يعاني من نقصٍ فادح في رساميله ويحظى بدعم خاصّ من مصرف لبنان منذ سنوات طويلة، حَظِي في الأيّام القليلة الماضية بقرضٍ جديد من مصرف لبنان بقيمة 60 مليون دولار لمدّه بالسيولة التي يحتاج إليها، وهذا القرض يُضاف إلى قروض كثيرة وكبيرة يمنحها مصرف لبنان للمصارف لمنع توقّف أي منها عن الدفع!طبعاً لا تقتصر الأخبار على هذين المثالين، إلّا أنهما يعكسان صورة مُختصرة عمّا يجري الآن على صعيد الترتيبات الرامية إلى تمكين بعض الأثرياء جدّاً من حماية ثرواتهم والنفاد بريشهم أمام تعاظم مخاطر سعر الصرف والتضخّم الفوضوي غير المنظّم وانهيار قدرة الدولة على التمويل بالعملات الأجنبية. تكفي الإشارة في هذا السياق إلى أن مصرف لبنان لم يتوقّف عن التدخّل في سوق القطع الأجنبي، وباع في الأسبوع الماضي وحده نحو 350 مليون دولار للمصارف لتتسنّى لها تلبية طلبات زبائنها وتسديد التزاماتها بالدولار، إلّا أن معظم هؤلاء الزبائن لم يستفيدوا من هذا الضخّ المستمرّ والمرتفع للدولار، وهذا ما يفسّر بعض جوانب الضغوط التي تمارسها كارتيلات التجّار، ولا سيّما المستوردين، الذين يريدون أن يحظوا بالأفضلية، كالعادة، للاستحواذ على الدولار، ليس لتمويل الاستيراد فحسب، بل لتحويل أرباحهم أيضاً إلى الدولار وحمايتها، وهو ما لا يغطّيه التعميم الأخير الصادر عن مصرف لبنان، الذي لم يضمن لهم بيعهم الدولار بالسعر الرسمي إلّا لتغطية القيمة الفعلية لاستيراد السلع الحيوية (القمح والدواء والنفط)، وعبر الاعتمادات المستندية حصراً ووفق شروط مُحدّدة وكلفة إضافية. ولذلك يرفض هؤلاء التجّار التعميم المذكور، ويضغطون عبر ممارساتهم الاحتكارية ويقومون بقطع البنزين والتهديد بقطع الخبز والدواء (وسلع أساسية أخرى).
في خِضَم هذا السباق المحموم، يردِّد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة تطميناته أن «الدولار في السوق متوفر والوضع النقدي مستقرّ»، ولكن ما يحصل على أرض الواقع يقول عكس ذلك، أو بمعنى أدقّ يقول إن الدولار بالسعر الرسمي الثابت متوفّر للبعض فقط، أمّا الآخرون فعليهم شراؤه بسعر أعلى من السعر الرسمي متى استطاعوا إليه سبيلاً. وهذا ينطوي على إعادة ترتيب ضمني لمنازل اللاهثين خلف الدولار، كما ينطوي على مُقامرة خطيرة تأخذ أكثرية الفئات الاجتماعية رهينة المصالح الخاصّة المُهيمنة على الاقتصاد السياسي، وفي مقدّمها المصالح المالية والتجارية، أي كبار المودعين والمُحتكرين.
إن إنكار الأزمة لا يعني أنها غير موجودة، كما أن ردّها إلى «شائعات» أو «مؤامرات» وحصار خارجي أو ظروف استثنائية لا يعني أن مخاطرها ستزول من تلقاء نفسها لتعود الأمور إلى مجاريها كما كانت طيلة ربع القرن الأخير. فالجميع، مهما اختلفوا في التشخيص والوصفات، باتوا يدركون حقيقة ثابتة مفادها: أن كمّية الدولارات التي بإمكان المقيمين في لبنان الحصول عليها من الخارج، بأي طريقة أو وسيلة ومهما بلغت الكلفة، لم تعد تكفي لسدّ مدفوعاتهم إلى الخارج، وبالتالي لم تعد تنفع «الهندسات المالية» وكل ألعاب السحر والشعوذة في قلب ميزان المدفوعات الخارجية، الذي بقي يسجِّل عجوزات سنوية مُتراكمة منذ عام 2011، حتّى بلغت مستوى قياسياً جديداً في الأشهر السبعة الأولى من هذا العام (ناقص 5.3 مليارات دولار)، وبالتالي استنزف تمويل هذا العجز المتنامي احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية، التي تعدّ الشرط الرئيس للدفاع عن سعر صرف الليرة الثابت إزاء الدولار.
في مثل هذه الحالات، يتصرّف جميع اللاعبين أن تخفيض سعر الصرف آتٍ لا محالة، وهو مسألة وقت لا أكثر ولا أقل، لذلك يتسابقون للاستحواذ على الدولار والهروب من الليرة ومن القطاع المالي المحلّي، خشية أن يتعرّضوا لأي خسائر. في المقابل، لا تقوم «السلطة» بأي عمل سوى إدارة هذه الأزمة وإدارة عمليّة هروب «الأقوياء» وترك «الضعفاء» فريسة لنموذجٍ اقتصادي مُفلِس ومُنهار وعاجز عن توفير أدنى حاجات الأمن الغذائي والصحّي والطاقوي.
إلى جانب تحريم أي حديث عن سعر الصرف الثابت، هناك ثلاثة أمور لن تسمح هذه «السلطة» بالحديث عنها على الرغم من ارتفاع حدّة المخاطر: (1) إعادة هيكلة الدَّيْن (أو قصّ الديون والودائع وتخفيض الفوائد وموجودات القطاع المالي)، (2) فرض ضوابط نظامية ومُعلنة على حركة رأس المال عبر الحدود (ولا سيّما هروب الودائع والاستثمارات إلى الخارج)، و(3) تغيير النظام الضريبي والسياسات المالية والنقدية باتجاه نقل الموارد من الريع إلى الإنتاج وتوفير الأجر الاجتماعي لأكثرية السكّان والقيام باستثمارات عامّة لتوفير البنى التحتية اللازمة والخدمات الأساسية وكسر الاحتكارات التجارية كشروط أساسية للنموّ الاقتصادي وإحلال السلع والخدمات المُنتجة محلّياً محل المستوردة.
تجري محاولة قمع كلّ حديث من هذا النوع، وصولاً إلى التهديد بالقمع الأمني، وتقود الطبقة الأوليغارشية الجميع إلى حيث تريد، أي إلى استنزاف النموذج القائم على تركّز الثروة والدخل والقسر حتّى الرمق الأخير. وبانتظار إعلان موت هذا النموذج تتّجه الحكومة ومصرف لبنان إلى زيادة الدَّيْن الخارجي بوتيرة مخيفة وكلفة باهظة، وهي بذلك لا تؤمّن الخروج الآمن لأفراد هذه الطبقة فحسب، بل تجعلهم يكسبون المزيد من خلال تمكينهم من شراء الملكيّات العامّة (مؤسّسات وشركات ومرافق وعقارات) بأبخس الأثمان، بما في ذلك ضرائب وعائدات للدولة يتمّ تحويلها إلى أرباح احتكارية إضافية، وفيما يشعر أكثرية الناس بالقلق الشديد تحظى هذه القلّة بضمانات إضافية أن الدولة ستواصل الدفع لها، حتى ولو اضطرت إلى شراء المزيد من الوقت عبر فرض برنامج تقشّف قاسٍ يتضمّن تخفيضاً للأجور ومعاشات التقاعد وإلغاءً لدعم الكهرباء والحدّ من الاستهلاك وإغراق السكّان بأزمات الخبز والبنزين والدواء واللهاث المضني خلف الدولار.