«في الطريقة التي تحصل فيها الأرستقراطية المالية على الثروة وتستمتع بها، تصبح هي البروليتاريا الرثّة المولودة من جديد على قمّة المجتمع البورجوازي»
كارل ماركس


في كلّ مرّة يُتَّخَذ فيها قرار اقتصادي في هذه الحكومة، أو في سلطاتها النقدية، تبدو الأمور كأنها تذهب إلى أبعد ممّا يمكن أن نتصوّره. الآن، يتّجه لبنان، ليس فقط، إلى أن يكون السبّاق في الأسواق المالية العالمية من ناحية الفائدة العالية على سندات دَيْنِه، التي ارتفعت إلى 14.7 بالمئة على سندات الدولار الأميركي، بل أيضاً السبّاق في العودة إلى منتصف القرن التاسع عشر حيث زمن الأرستقراطية المالية، التي قال عنها ماركس في علاقتها مع الدَّيْن العام «إن الاستدانة العمومية مبنية على الثقة بأن الدولة ستسمح بأن تكون مُستغَلّة من قِبَل أسماك القرش».
ففي الأسبوع الماضي كتبت بلومبرغ أنه بسبب ما حصل في أسواق اليوروبوندز اللبنانية وارتفاع الفائدة 500 نقطة (أي 5 بالمئة)، فإن الإصدار الجديد الذي تتداوله وزارة المالية ويراوح بين 1.5 مليار و2 مليار دولار، ستكون الفائدة عليه 14.3 بالمئة، وهي الفائدة الأعلى على السندات السيادية بالدولار الأميركي التي أصدرتها أي دولة في التاريخ! بالمناسبة، لم تتجاوز الفائدة بشكل مستمرّ على السندات الحكومية في فرنسا وبريطانيا التي افترستها «أسماك القرش» في القرن التاسع عشر حدود الـ4 إلى 5 بالمئة، وحتّى فنزويلا التي يعدّ وضعها الاقتصادي سيئاً، بل سيئاً جدّاً، وينظر البعض إليها على أنها نموذج فشل «الاشتراكية»، أصدرت سندات بالدولار في عام 2010 بفائدة 12.8 بالمئة. إذاً، بنظر الأسواق الرأسمالية العالمية، وضع لبنان الرأسمالي في 2019 أسوأ من فنزويلا «الاشتراكية» في عام 2010! وهو مستمرّ في تحدّي الجاذبية والهروب من إعادة الهيكلة أو فرض الضرائب على الأرباح والثروات العالية، ويحاول على الرغم من كلّ شيء أن يستمرّ بالاستعانة بالفوائد العالية من دون أن يعلم أن هذه الفائدة العالية تحمل في طيّاتها احتمال، ليس إعادة الهيكلة المنظّمة، بل عدم الدفع الفوضوي، أي أن يأتي يوم ينفجر فيه الدَّيْن في وجه وزارة المالية ومصرف لبنان والمصارف والترويكا التي أوصلت لبنان إلى هذا الدرك. في نهاية الأمر أيضاً، إن احتمال حصول هذا الإصدار بمثابة إعلان للاستسلام من وزارة المالية أمام مصرف لبنان والمصارف.
وفي هذا الإطار، بعض الأمور:
أوّلاً، كيف يغيب عن وزارة المالية أن الفوائد العالية كانت أحد الأسباب الرئيسية لتراكم الدَّيْن العام منذ عام 1993 وحتّى الآن؟ فمن جهة، تساهم الفوائد العالية مباشرة في هذا التراكم عبر معادلة تراكم الدَّيْن العام التي تشكل خدمته أساساً فيها، ولا سيّما أن كلّ ارتفاع بنسبة واحد بالمئة في معدّل الفائدة على مجمل الدَّيْن في لبنان، يؤدّي إلى ارتفاع خدمة هذا الدَّيْن بنحو 850 مليون دولار. ومن جهة أخرى، تؤدي الفائدة دوراً غير مباشراً في خفض النموّ عبر تأثيرها السلبي على الاستثمار، ما يزيد لاحقاً عبء الدَّيْن إلى الناتج المحلّي. وبالتالي، الخضوع لرغبات المصرف المركزي في رفع الفوائد من أجل جذب رؤوس الأموال من الخارج هو عملية خاسرة بذاتها، تؤدي إلى حلقة خبيثة من زيادة الفوائد وزيادة الدَّيْن العام. في هذا الإطار، يحتاج لبنان إلى تمويل بنسبة 25% من الناتج المحلّي في عام 2020 (10 بالمئة لدفع فوائد الدَّيْن العام و15% لدفع استحقاقات سندات دَيْن)، وبالتالي من غير الممكن أن تبقى هذه الفوائد العالية إلى العام المقبل، وإلّا واجهنا ديناميكية متفجّرة لنموّ الدَّيْن.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

ثانياً، بالإضافة إلى تأثير الفوائد العالية السلبي المباشر في الاستثمار، يعدّ الاستثمار في اليوروبوندز اللبنانية، إذا أخذنا أن التضخّم في الدول الرأسمالية متدنٍّ جدّاً ومعدّلات الفائدة فيها تكاد تكون سلبية، يُصبح بمعدّلات ربوية، ويؤدّي إلى تحقيق الثروات في مدّة قياسية، ونقل الدخل والثروة من دافعي الضرائب اللبنانيين ومن الأجيال المقبلة (التي لا يفكّر أحد فيها نظراً إلى قصر مدى التفكير حالياً)، إلى أصحاب الثروات الكبرى المحلّيين والدوليين. وكما ذكر توماس بيكيتي، إذا كانت الفوائد بحدود الـ4 إلى 5 بالمئة على السندات الحكومية في فرنسا وبريطانيا نهاية القرن الثامن عشر وفي التاسع عشر، أي في زمن بالزاك وجاين أوستن، أساسية في قيام الطبقة الريعية التي اعتبرت الدَّيْن العام كالأرض مصدراً للريع وتعيش عليه وتراكم الثروة لأجيال، يمكننا تصوّر ما تفعله اليوم فوائد تراوح بين 10 و14 بالمئة من تراكم في الثروة وقيام السلالات الغنية في لبنان. بالإضافة إلى تأثيرها بوضع المدينين داخلياً، في ظل معدّلات تضخّم متدنية في لبنان ذهبت إلى حدّ الانكماش في 2015، فإنها تضع الاقتصاد في حالة انكماش وتؤدّي إلى تدني الاستهلاك والاستثمار من قبل المدينين (بسبب ارتفاع عبء الدَّيْن عليهم) وتسهم في تراجع الناتج المحلّي أكثر وأكثر.
ثالثاً، إن تمويل عجوزات الخزينة عبر إصدار السندات الحكومية، سنة بعد سنة، يخضع لشروط مُحدّدة من أجل ضمان الاستقرار. فلا يمكن أن تُحدَّد الفائدة عشوائياً، أو أن يخضع تحديد المعدّلات باستمرار لأهداف أخرى مثل رغبة البنك المركزي بجذب رؤوس الأموال من الخارج ودعم احتياطاته من أجل الدفاع عن الليرة اللبنانية. فكما ذكرت، تؤدي الفائدة العالية دوراً أساسياً في معادلة نموّ الدَّيْن العام، وهناك شروط محدّدة لمعدّلاتها، وإلّا اتجهت الديناميكية الماكرو-اقتصادية إلى عدم الاستقرار. أحد هذه الشروط، ألّا يكون معدّل الفائدة الحقيقي (بعد احتساب التضخّم) أعلى من نسبة النموّ السكّاني (وهذه هي الحال في لبنان وتزداد مع زيادة الفائدة؛ ومع ازدياد معدّلات هجرة الشباب هرباً من المستقبل الاقتصادي القاتم، ما يجعله أكثر قتامة في هذه الحالة)، وإلّا أصبح العرض الحقيقي للسندات، نسبة إلى الفرد، ينمو من دون حدّ. وهنا تأتي أهمّية شراء المصرف المركزي للسندات مباشرة، أي طبع العملة (وهو إجراء جيّد في هذه الحالة لمنع الانفجار، فطبع العملة ليس سيئاً بالمطلق، كما يظنّ الكثيرون)، ولكن هذا يتطلّب تحويل السندات لدى مصرف لبنان إلى سندات أبدية بفائدة صفر بالمئة لوقف هذه الديناميكية غير المستقرّة.
رابعاً، كثيرون أطلقوا على أزمة 2008، التي انفجرت أوّلاً في الأسواق المالية الأميركية وامتدت حول العالم، «لحظة مينسكي»، نسبة إلى الاقتصادي الأميركي الكينزي هايمان مينسكي، الذي كان من القلائل الذين بقوا على خطّ ما يمكن أن نسميه الأصولية الكينزية، أي العودة إلى كتابات كينز الأصلية في تشريحه للنظام الرأسمالي، بدلاً من الاعتماد على النماذج الرياضية المُنقّحة التي أصبحت أساس السياسات الاقتصادية في الدول الرأسمالية بعد الحرب العالمية الثانية. فهذه النماذج المُنقّحة تفتقر إلى العديد من تحليلات كينز حول عدم الاستقرار في الرأسمالية. هايمان مينسكي في كتاباته، التي بقيت إلى حدّ كبير على هامش علم الاقتصاد المُسيطر، ركّز على هذا الجانب وطوّره في ما خصّ عدم الاستقرار الناتج من العمليّات المالية الرأسمالية.
استمرار الدولة اللبنانية في رفع الفوائد، سيُدخِلها في مرحلة التمويل البونزي، أي الاستدانة لدفع الفائدة، وهي مرحلة تنتهي رياضياً إلى انهيار محتوم

ولذلك، في عام 2008 أصبح مينسكي بعد مماته مشهوراً. في أساس نظريته، ما سمّاه «أطروحة عدم الاستقرار الرأسمالي»، الذي يحدث بسبب حاجة المؤسّسات الرأسمالية إلى تمويل الاستثمارات، وكيفية تنقُّل هذا التمويل على ثلاثة مراحل: الأولى، التمويل التحوطي حيث يدفع المدين دورياً الفائدة وجزءاً من الرأسمال المُقتَرض. الثانية، التمويل المضاربي حيث يدفع المدين فقط الفائدة على الدَّيْن، وأخيراً، التمويل البونزي (Ponzi finance) حيث يدفع أقل من الفائدة، أي يستدين من أجل دفع الفائدة. اليوم في لبنان، الدولة كمدين، وباستمرارها في رفع الفوائد، ستدخل في مرحلة التمويل البونزي الذي يمثّل ما يعرف بالمخطّط الهرمي، التي تنتهي رياضياً إلى انهيار محتوم.
يقول الفيلسوف النمساوي كارل بوبر إن «ماركس قال بكل تأكيد وبوضوح، إن الرأسمالي مُعتقل في شبكة الأوضاع الاجتماعية (أو «النظام الاجتماعي») مثله مثل العامل... فهو كالعامل غير حرّ ونتائج أفعاله غير مقصودة بشكل كبير». هل صحيح ما يقوله كارل بوبر؟ في لبنان، الرأسمالية الريعية والأرستقراطية المالية مرتبطتان ارتباطاً وثيقاً بمالية الدولة، والرأسماليون اللبنانيون ليسوا كما يدّعون أنّهم ضدّ الدولة ومع القطاع الخاصّ، وما إلى هناك من أساطير تُرَوّج. ففي لبنان، كما في فرنسا في منتصف القرن التاسع عشر، وكما وصفها ببراعة كارل ماركس في الثامن عشر من برومير، «الأرستقراطية المالية ليست فقط الذين يروِّجون للقروض المرتفعة والمضاربين بمالية الدولة، والذين تتلاقى مصالحهم بوضوح مع سلطة الدولة. كل الأسواق النقدية الحديثة وكل أعمال المصارف مترابطة ومنسوجة بشكل حميم مع الدَّيْن العام... وودائعهم، أي الرأسمال الموضوع في تصرّفهم من قِبَل التجّار والصناعيين وموزّعة من قِبَلهم على الأشخاص نفسهم، تنساب جزئياً من عوائد حملة السندات الحكومية». إذاً، الرأسماليون اللبنانيون بكلّ أجنحتهم، وخصوصاً الرأسماليون الصناعيون الذين يجب أن تصطدم مصالحهم مع مصالح الأرستقراطية المالية، يطيحون، عن وعي وليس عن عدم وعي، دورهم التاريخي في تقدّم الرأسمالية وتطوّر القوى المُنتجة، وبالتالي ليسوا كما استنتج كارل بوبر، فهم يعلمون ماذا يفعلون، لا بل يتسابقون إلى أخذ موقعهم الرثّ في قمة مجتمع البورجوازية اللبنانية.