تساوي الرساميل المكدّسة في المصارف اللبنانية حالياً نحو 4 مرّات ونصف المرّة مجمل الناتج المحلّي. وهذا لا يُعدّ مؤشّراً جيّداً سوى للقلّة القليلة التي تستحوذ على هذه الرساميل «الوهمية» وتجني منها الفوائد السخيّة على حساب مستوى معيشة الفئات الاجتماعية المختلفة، ولا سيّما ما يسمّى «الطبقات الوسطى». ففي السنوات العشر الماضية (2009-2018)، اضطر المجتمع اللبناني إلى تسديد نحو 93.6 مليار دولار كفوائد إلى المصارف، سواء عبر خدمة ديون الدولة (الحكومة ومصرف لبنان والمؤسّسات العامّة) أو عبر خدمة ديون الشركات والأسر والأفراد. ووفق إحصاءات جمعيّة مصارف لبنان، تضاعفت قيمة الفوائد التي قبضتها هذه المصارف على توظيفاتها في الديون العامّة والخاصّة من 6.5 مليار دولار في عام 2009، أي ما يمثّل 18.3% من مجمل الناتج المحلّي، إلى 14.9 مليار دولار في عام 2018، أي نحو 26.4% من مجمل الناتج المحلّي. ما يعني أن المساهمين في المصارف والمودعين لديها، ولا سيّما الأثرياء جدّاً، استأثروا وحدهم بأكثر من ربع الدخل المُتاح لجميع الأسر المقيمة في لبنان، على افتراض أن مجمل الناتج المحلّي يُعبّر في الحصيلة (ولو بشكل غير دقيق وغير كافٍ) عن قيمة الدخل المُحقّق في الاقتصاد، على شكل أرباح وأجور وفوائد وريوع.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

لا تقتصر كتلة الفوائد المدفوعة في الاقتصاد على الفوائد المقبوضة من المصارف المحلّية، كما لا تعكس كلّ حركة دورانها، ولا توزّعها بين المقيمين وغير المقيمين أو بين شرائح المودعين والدائنين. إلّا أن هيمنة المصارف على القطاع المالي في لبنان واحتكارها التمويل وارتكاز النموذج الاقتصادي اللبناني على نموّ الودائع المصرفية باطراد ومن دون سقف وإعادة اقتراضها وتعقيمها بأسعار فائدة مرتفعة بكلّ المقاييس... كلّها عناصر تجعل من قيمة الفوائد التي تقبضها المصارف سنوياً بمثابة مُعطى إحصائي متين لتقدير عبء مدفوعات الفائدة على الاقتصاد ومساهمتها في زيادة العجز المالي والعجز الجاري ودورها في كبح الإنتاج وتخفيض مستوى المعيشة وإعادة توزيع الثروة والدخل بالمقلوب، أي من الأفقر إلى الأغنى.
تُبيّن التقارير السنوية الصادرة عن جمعيّة مصارف لبنان أن المصارف قبضت نحو 93.6 مليار دولار كفوائد على توظيفاتها بين عامي 2009 و2018. ودفعت نحو 63 مليار دولار منها إلى المودعين، وبالتالي حقّقت هامش ربح بين الفوائد المقبوضة والفوائد المدفوعة بقيمة 30.4 مليار دولار، وهو ما سمح لها بمراكمة أرباح مُعلنة (أي مُصرّح عنها لدى الأجهزة الضريبية) بقيمة بلغت 21.2 مليار دولار، علماً أن إيرادات المصارف تشمل أيضاً العمولات التي بلغت قيمتها الصافية 12.2 مليار دولار في الفترة نفسها، أي أنها قبضت فوائد وعمولات بقيمة 105.8 مليار دولار في السنوات العشر الماضية، بمعدّل 10.6 مليار دولار سنوياً، وهذا يسمح بتكوين انطباع مذهل عن حجم الأرباح الحقيقية التي يحقّقها رأس المال المصرفي والودائع والديون بعد حسم الضرائب والأجور والنفقات التشغيلية المختلفة.
ووفق قطع حسابات المالية العامّة للسنوات 2009 - 2017 وبيان وزارة المال لسنة 2018، بلغت مدفوعات الفائدة من الموازنة العامّة وحدها (من دون مدفوعات مصرف لبنان والمؤسّسات العامّة الأخرى) نحو 40.4 مليار دولار، أي بمعدّل يزيد عن 4 مليارات دولار سنوياً، وقد استأثرت هذه المدفوعات بثلث إنفاق الحكومة ونصف إيراداتها، ما يعني أن كلّ دولار سدَّده السكّان كضريبة أو رسم وثمن خدمة ذهبَ نصفه إلى الدَّائنين، ولا سيّما المصارف، وأن دولاراً من كلّ 3 دولارات أنفقتها الحكومة ذهب إلى هؤلاء الدائنين.
تفيد التوقّعات أن معدّل النموّ الاقتصادي الحقيقي في لبنان لن يتجاوز هذا العام نسبة 0.1%، في حين أن معدّل الفائدة المرجعية كما حدّدته جمعيّة المصارف اعتباراً من أيلول/ سبتمبر الجاري بلغ 10.14% على الدولار و13.49% على الليرة. يعني ذلك ببساطة أن دخل الفائدة يزداد بوتيرة سريعة في الوقت الذي يتقلّص الدخل الذي يحقّقه جميع السكّان (بمعزل عن توزيعه).
هذا ما حصل على مدى ربع القرن الماضي، ولا سيّما في العقد الأخير، ففي حين تضاعف حجم الناتج المحلّي مرّة ونصف المرّة، تضاعفت مدفوعات الفائدة وأرباح المصارف مرّتين وربع المرّة، أي أن المصارف ومودعيها ازداد دخلها ضعف الزيادة التي طرأت على دخل جميع السكّان.