لا يأبه «غولدمان ساكس» للسمعة السيّئة التي تلاحقه في أماكن عدّة في العالم، فهذا المصرف الاستثماري الشهير وصاحب النفوذ الكبير في الأسواق والسياسة، لا يدّعي مسؤولية اجتماعية ولا أخلاقاً ولا نزاهة، بل يفتخر بمهارته العالية في اصطياد الأرباح الطائلة ولو عبر نصب الأفخاخ وهندسة ضروب التحايل والخداع. هذا ما يجذب الأثرياء إليه لتعظيم ثرواتهم. وهذه طريقة عمله. ولها يُجنِّد الكثير من السماسرة والخبراء والاقتصاديين والقانونيين. لذلك ليس مستغرَباً أن يبحث هؤلاء عن صيدهم الوفير في الأزمة اللبنانية، حيث اقتصاد الكازينو وألعاب القمار. وهم وجدوه بالفعل في مصرف لبنان، الذي أعلن أنه حصل في النصف الثاني من آب/ أغسطس الماضي على «ودائع» من الخارج بقيمة 1.4 مليار دولار، تبيّن أنها تدفّقت عبر «غولدمان ساكس».
ما الذي تمّ توريط لبنان به؟ وهل ما حصل عليه مصرف لبنان هو «ودائع» أم ديون خارجية، مُنح مقابلها ربح كبير على مدى قصير ورهون وضمانات وأفضلية في السداد وأولوية في الهروب؟


أنجل بوليغان ــ المكسيك


لنعِد ترتيب الأحداث:
في تشرين الأول/ أكتوبر من عام 2018، قام فريق من «غولدمان ساكس» بزيارة بيروت، وهي ليست الزيارة الأولى بالتأكيد، باعتبار أن هذا المصرف الاستثماري العالمي يتولّى إدارة قسم مهمّ من الأصول الأجنبية للمصارف اللبنانية والتوظيفات الخارجية في سندات الدَّيْن اللبنانية بالعملات الأجنبية (يوروبوندز). إلّا أن هذه الزيارة تحديداً حظيت بتغطية إعلامية واسعة غير معهودة، وتخلّلها تسريبات عن مهمّة الفريق واتصالاته، وتمّ نشر تقريره الذي قال فيه إن قلقه الرئيس يكمن في عدم كفاية تدفّقات الودائع كي يقوم مصرف لبنان بعمليّات هندسة مالية إضافية.
من ثمّ أصدر «غولدمن ساكس»، في مطلع العام الحالي، تقريره الشهير بعنوان «تحليل لقيمة الديون اللبنانية المُمكن استردادها»، وتناول فيه قدرة الحكومة اللبنانية على تسديد ديونها والقيمة التي يمكن إعادتها. وفي هذا السياق، طرح سيناريو يقضي بشطب 65% من قيمة سندات اليوروبوندز، أي إعادة 35 سنتاً فقط من كلّ دولار اقترضته الدولة اللبنانية، للتمكّن من وضع الدَّيْن العام على سكّة الاستدامة وخفضه إلى مستوى يُمكن تحمّل كلفته.
وبعد أقل من سنة على زيارة فريق «غولدمان ساكس» ونشره سيناريو «قصّ الشعر»، ظهر مجدّداً، لكن هذه المرّة بصورة متناقضة تماماً مع الصورة التي رسمها بنفسه على مدى سنة ماضية. ففي الوقت الذي كان يُعمّم مذكّرة على زبائنه (صادرة في أواخر آب/ أغسطس الماضي)، يحذّرهم فيها من «تراجع نموّ الودائع الذي أصبح سالباً في أيّار/ مايو الماضي، وبات يؤثّر على قدرة لبنان على الوفاء بالتزاماته الخارجية»، كان هو نفسه يلعب دور «السمسار» الرئيس في العملية التي سُمّيت «وديعة الـ1.4 مليار دولار»، وحصل عليها مصرف لبنان في أواخر الشهر الماضي بطريقة مفاجأة.
تطرح هذه الأحداث المتتالية والمتناقضة شكوكاً حول طبيعة هذه العملية. فما الذي يدفع «غولدمان ساكس» إلى توظيف مثل هذا المبلغ في مصرف لبنان إذا كان مُقتنعاً بوجود مخاطر عالية قد تؤدّي إلى التوقّف عن الدفع واللجوء إلى «قصّ الشعر»؟

«الفريسة» اليونانية
تذخر المحاكم والصحافة بكمّ هائل من الادّعاءات ضدّ «غولدمان ساكس» وعمليّاته، إلّا أن اليونان تبقى المثال الأبرز على العمليّات المُعقّدة والأدوات المالية المركّبة التي نفّذها «غولدمان ساكس» في البلدان الغارقة في ديونها. فقد نشأ نزاع على خلفية قرض بقيمة 2.8 مليار يورو، حصلت عليه اليونان في عام 2001 عبر هذا المصرف الاستثماري، وقد أخفيت طبيعة هذا الدَّيْن عبر تسميته بـ«عملية تبادل عملات من خارج الموازنة»، وهي عملية معقّدة قضت بتحويل ديون بالعملة الأجنبية إلى ديون بالعملة المحلّية عبر استخدام سعر صرف وهمي.

29.8 مليار دولار

قيمة سندات الدَّيْن بالعملات الأجنبية في نهاية تمّوز الماضي تحمل المصارف اللبنانية نحو 15 مليار منها، ومصرف لبنان 2.9 مليار، وغير المقيمين 4.8 مليار، ما يبقي نحو 7 مليار لا تُعرف هوية حامليها، ويرجّح أن يكون «غولدمان ساكس» يدير في محفظته نحو 4 أو 5 مليارات منها

وبنتيجتها، اختفى 2% من مجمل الديون اليونانية بطريقة سحرية، فيما حصل «غولدمان ساكس» على 793 مليون دولار لقاء خدماته، ما شكّل نحو 12% من إيراداته المُحقّقة في «وحدة الاستثمارات» في ذلك العام. ولكن بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر انخفض العائد على السندات اليونانية، وتضاعفت قيمة الدَّيْن إلى 5.1 مليار يورو. وانكشفت حينها طبيعة الصفقة التي ربطت نسبة العائد على قرض «غولدمان ساكس» بأسعار السندات الحكومية كضمانة لاسترداده بالكامل.
ليست اليونان الضحية الوحيدة لهذه العمليّات المالية المركّبة، فقد استعملها «غولدمان ساكس» في ولايات أميركية، مثل ديترويت وكاليفورنيا وأوكلاند، التي لا تزال حتّى اليوم تفرض ضرائب عالية على المقيمين فيها وتقطع عنهم الخدمات الأساسية لتتمكّن من تسديد الديون المترتبة عليها لصالح البنك الاستثماري.

«غولدمن ساكس» في لبنان
نما نشاط «غولدمن ساكس» في الديون اللبنانية عام 2016، مع بدء هندسات مصرف لبنان المُكلفة، وهذا وحده يجب أن يثير القلق، لا سيّما أن المعلومات عن هذا النشاط نادرة بشكل لافت.
ويُرجِّح أحد المدراء في صندوق استثماري يدير محفظة يوروبوندز لبنانية (رفض ذكر اسمه) أن يكون «غولدمان ساكس» قد «قام بتركيب هيكليّات لأدوات مالية جديدة مشروطة ومرتبطة بالتزامات وضمانات، تتيح له الحصول على أرباح مضمونة في كلّ السيناريوهات، أي في حال تعثّرت الدولة وتخلّفت عن سداد ديونها أو خرجت من أزمتها».
يشرح المدير نفسه كيف ساهم «غولدمان ساكس» في مواصلة الهندسات المالية منذ عام 2016، فهو مدّ بعض المصارف اللبنانية بالعملات الأجنبية لإعادة توظيفها في مصرف لبنان بفوائد مرتفعة جدّاً. يقول إن العمليّات التي جرت بين «غولدمان ساكس» والمصارف اللبنانية تُعرف باسم الـREPO، وهي عبارة عن قروض أعطاها المصرف الاستثماري لمصارف لبنانية في مقابل رهن سندات يوروبوندز كضمانة لإيفاء المبالغ المتوجّبة على هذه المصارف والفوائد عليها. وتخضع هذه العمليّات لما يسمّى Margin Call، أي أنه في حال انخفاض قيمة سندات اليوروبوندز، يكون المصرف مُجبراً على تغطية فارق السعر وإلّا يعمد «غولدمان ساكس» إلى بيع السندات المرهونة. وهو ما حصل فعلاً منذ أشهر، وأدّى إلى خروج أكثر من مليار دولار من المصارف اللبنانية لصالح «غولدمان ساكس» (ومصارف خارجية أخرى) لاسترداد السندات».

«وديعة» الـ1.4 مليار دولار
هناك روايات عدّة من مصادر مختلفة حول حقيقة ما سمّي «وديعة» الـ1.4 مليار دولار:
تقول الرواية الأولى إنها ناجمة عن تسييل SGBL سندات يوروبوندز يحملها في محفظته بأقل بنسبة 20-25% من قيمتها الأساسية لصالح «غولدمان ساكس»، وإعادة توظيف المبلغ لدى مصرف لبنان في الهندسات المالية بفوائد مرتفعة لتعويض خسائره، في حين يستفيد «غولدمان ساكس» من الفوائد العالية على هذه السندات، التي اشتراها بأقلّ من قيمتها، مع إمكانية بيعها بسعر أفضل لاحقّاً أو استردادها من الدولة عند استحقاقها بقيمتها الأساسية وبالتالي تحقيق عائد إضافي بنسبة 20-25% عن السعر الذي اشتراها به.
أمّا الرواية الثانية التي نشرها المصرفي دان قزي في صحيفة «النهار» نقلاً عن مصادر في «غولدمن ساكس» ومصرف لبنان وSGBL، فتشير إلى حصول مصرف لبنان على المبلغ من صندوق استثماري أوروبي مملوك من عائلة أجنبية، عبر «غولدمان ساكس»، وقد تمّ إيداعه لمدّة خمس سنوات بفائدة 11.5%، أمّا قبول المستثمر بفائدة أقلّ من المعدّلات المتداولة في السوق التي تزيد عن 14%، كانت لقاء الحصول على ضمانات من مصرف لبنان تسمح له بسحب المبلغ قبل استحقاقه من دون دفع أي غرامة وذلك تبعاً لمعدّل مُحدّد قد يصل إليه سعر سند اليوروبوند أو غيره من المؤشّرات المرتبطة بالصفقة، وكذلك لقاء إصدار شهادات إيداع مقابل هذا المبلغ من خلال «يوروكلير»، ما يعطي المستثمر ضمانة إضافية شبيهة بضمانة اليوروبوندز، أي الاحتكام لقانون أجنبي في حال حصول أي نزاع مع مصرف لبنان على استرداد المبلغ.
وتقول رواية ثالثة إن المبلغ هو نتيجة عملية مركّبة من بيع سندات يوروبوندز يحملها SGBL بقيمة 300 مليون دولار، ومن توظيفات صندوق استثمارات مقرّه أوروبا بقيمة 1.1 مليار دولار جرت عبر «غولدمان ساكس»، وصدرت عن «يوروكلير» لصالح مصرف لبنان، في مقابل فائدة لا تقل عن 12% مع منح ضمانات بسحب المبلغ قبل استحقاقه وتزويده ببيانات حول أصول مصرف لبنان الخارجية بما فيها احتياطي الذهب والموجودات المودعة في مصارف خارجية.

ما حصل في اليونان يحصل في لبنان
بمعزل عمّا إذ كان هذا المبلغ وديعة أو سند دَيْن أو شهادة إيداع، فهو يشكّل مطلوبات خارجية بذمّة مصرف لبنان، أي دَيْن بالعملات الأجنبية يحمله طرف خارجي مترتّب على مصرف لبنان، يضاف إلى الدَّيْن العام المترتّب على الدولة اللبنانية. وبالتالي، إن عدم الوضوح الفعلي هو حول شروط الصفقة المُبرمة بين «غولدمان ساكس» ومصرف لبنان والالتزامات المرتبطة بها.
يقول النائب السابق لحاكم مصرف لبنان ناصر السعيدي إن «ما حصل بين اليونان وغولدمان ساكس يمكن تطبيقه على حالة لبنان بكلّ بساطة. فنحن حالياً عاجزون عن معرفة موجودات مصرف لبنان والمطلوبات عليه نتيجة العملية التي أجراها مؤخّراً وأطلق عليها اسم Netting، والتي كانت طريقة تسمح بتقدير أرباحه وخسائره التي يمتنع عن نشر حساباتها منذ سنوات طويلة. وهو ما يسمح له الآن بالقيام بعمليّات مماثلة لتلك التي يتردّد أنه قام بها للحصول على مبلغ 1.4 مليار دولار، والاستدانة على موجوداته وأصوله الخارجية وسندات اليوروبوندز التي يحملها من دون أن يظهر ذلك في ميزانيته ومن دون أن يتمكّن أحد من تتبعها».
ويتابع السعيدي: «تحوم علامات استفهام كثيرة حول الشروط التي أفضت إلى حصول المصرف المركزي على 1.4 مليار دولار، وهي ليست إلّا ديناً إضافياً على مصرف لبنان وبالتالي على الدولة اللبنانية، ويفترض إدخاله ضمن إحصاءات الدَّيْن العام كما كلّ ديون مصرف لبنان الأخرى التي لا نعرف حجمها نظراً لامتناعه عن نشر حسابات الربح والخسارة. أمّا الأخطر فهو أنها مضمونة بموجب سند صادر عن «يوروكلير»، ما يجعل التخلّف عن دفعها عند الاستحقاق بمثابة تعثّر في السداد ويتمّ التعامل معها كأي سند يوروبوندز بموجب القوانين الأجنبية، مع إمكانية الحجز على موجودات المصرف المركزي والدولة في الخارج».

تراجعت محفظة المصارف اللبنانية من سندات اليوروبوندز من 17.6 مليار دولار في بداية 2016 إلى 15 مليار دولار في تمّوز الماضي


يشرح مدير عام أحد أكبر المصارف اللبنانية (رفض الكشف عن اسمه) أن «هذا المبلغ هو عبارة عن مطلوبات بالعملة الأجنبية لصالح طرف أجنبي مترتبة على مصرف لبنان بضمانة موجوداته الخارجية وقوانين «يوروكلير»، أي أننا دخلنا مرحلة تحويل الدَّيْن العام من دين يحمله لبنانيون إلى دَيْن يحمله غير مقيمين، وهو ما يزيد الانكشاف تجاه الخارج ويرفع نسبة التعرّض للمخاطر وحدّتها في حال التخلّف عن السداد. فهذا المبلغ هو أشبه بشهادة إيداع على مصرف لبنان صادرة في الخارج، وهو ما يجعلها أقوى من شهادة الإيداع المحلّية أو أي وديعة، وبقوّة سندات اليوروبوندز المحمية بقوانين أجنبية وتسمح لصاحب الدَّيْن باللجوء إلى المحاكم الدولية في حال تخلّف مصرف لبنان عن الدفع، وبالتالي وضع اليد على موجوداته الخارجية (عملات أجنبية لدى مصارف خارجية...)، وعلى موجودات الدولة اللبنانية في الخارج بما فيه الذهب المودع بعهدة مصرف لبنان. علماً أن إصدار شهادات إيداع في الخارج خضع لنقاش مع البنك المركزي منذ أكثر من سنتين للاتفاق على الآليات، ولكن يبدو أنه اضطر عليها من دون أن تكون آليات العملية واضحة لأنه بحاجة ماسّة إلى عملات أجنبية».