«في النهاية رئيس البنك الدولي أخذ وظيفة رئيس صندوق النقد، الذي أخذ بدوره رئاسة البنك المركزي الأوروبي. ألا يشعرون بالخزي؟»
يانيس فاروفاكيس


في بعض الأحيان في الاقتصاد، إذا كنت محظوظاً بالطبع، عندما تظن أنك ستكتب عن التاريخ، قد يحصل التاريخ أمامك. تاريخياً، كانت اتفاقيات «بريتون وودز» بالنسبة إلى كينز، الطريقة الوحيدة، وإن لم تكن المثلى، لإنقاذ الرأسمالية العالمية من الصراعات التي أدّت إلى الحرب العالمية الأولى، وكذلك إنقاذها من الصراعات التي شابت العالم بين الحربين. فبتثبيت سعر صرف العملات انتهت الحاجة للعودة إلى «معيار الذهب» الذي يؤلِّب الدول على الدول، وكذلك منع هذا التثبيت استعمال العملات في الحروب التجارية مثل تلك التي سادت بعد الكساد العظيم. أخيراً، بوجود مؤسّسة عالمية، أرادها كينز غير صندوق النقد، استُنبط حلّ لعدم التوازنات من دون ردود وردود فعل مضادة بين الدول. كل هذا الأمور، حققت الاستقرار الاقتصادي والسياسي لرأسمالية واجهت الانهيار والانزلاق إلى حروب وإمبرياليات متصارعة. في هذا الإطار، قال روبرت سكيدلسكي، مؤرّخ حياة كينز في 2005، إن كينز بعد أن عايش الموجة الأولى من العولمة وعاصر التدمير الذي حصل خلال الحربين العالميتين، أراد إصلاح النظام نحو الاستقرار، وأضاف: «اعتقد كينز أنه في أفضل النظم العالمية، سيكون هناك رابحون وخاسرون، وبالتالي إن الاعتدال يجب أن يرافق أي توجّه نحو الاندماج الاقتصادي... وتحذيره من أن سياسة دفع الصادرات سيجعل الدول، عاجلاً أو آجلاً، تمسك بخناق بعضها البعض، لا يزال ماثلاً اليوم».

أنجل بوليغان ــ المكسيك

ذلك «اليوم» أتى الآن. وشكّل الأسبوعان الماضيان الذروة في سياق تصاعد التوتّر الاقتصادي العالمي نحو «الحرب». ففي استقصاء لجريدة «وول ستريت جورنال» في 6 آب/ أغسطس، قال 87% من الاقتصاديين الأميركيين إن العلاقات بين الولايات المتّحدة والصين انتقلت من «التوتّر التجاري» إلى «الحرب التجارية»، أي إن الصين وأميركا بدأتا «تمسكان بخناق بعضهما». هذا التطوّر هو نتاج سنوات من عودة معضلة التوازنات، وخصوصاً بين الصين والولايات المتّحدة، ففائض الصين الخارجي يقابله عجز في الولايات المتّحدة، لم تعرف هذه الأخيرة حتّى الآن كيف تتعامل معه. فكانت، في بعض الأحيان، تحتجّ على خفض الصين قيمة عملتها، لكنّها لم تفعل الكثير لمحاربة ذلك. ويعدو أحد الأسباب إلى تأمّل الولايات المتّحدة وغيرها أن الصين ستصبح رأسمالية، وأنها ستتحوّل عاجلاً أو آجلاً إلى جزء من منظومة الدول الرأسمالية. هذا كلّه انتهى مع مجيء ترامب إلى سدّة الرئاسة. وعلى الصعيد الفكري، كانت المقالة «الاعترافية» في الـ«فايننشال تايمز» في 10 تموز/ يوليو الماضي للاقتصادي الهنغاري جانوس كورناي الذي شارك في مؤتمر بيشان، أو الرحلة النهرية الشهيرة، في عام 1985، التي عُدَّت الدفعة الفكرية لتحرير الاقتصاد الصيني، بمثابة الإشارة إلى انتهاء هذا الحلم. فبدأ ترامب الحرب الفعلية بشكل لم يتوقّعه الوسطيون والليبراليون، واستكمل بذلك الجزء الثاني من الأحجية التي حيّرت الليبراليين: فمن جهة، لم تتحوّل الصين إلى رأسمالية، وخصوصاً رأسمالية هامشية على شاكلة الهند. والآن، أعلنت أميركا أنها لم تعد في ظلال وسطية كلينتون/ أوباما. فاليوم ترامب، مع اليمين الأوروبي، يقول "لا" لكلّ النظام الذي نشأ بعد قيام العولمة وانتهاء الاتحاد السوفياتي وقيام منظّمة التجارة العالمية في 1995، والذي كان مقدّراً له أن يعيش «بسعادة بعد ذلك إلى الأبد».
وتبرز ثلاثة أمور في هذا الإطار:

سلاح العملات وحروبها
أوّلاً، بعد استخدام سلاح التعريفات الجمركية، وبدلاً من أن تتراجع عنها، بدأت إدارة ترامب الأسبوع الماضي باتهام الصين باستعمال سلاح عملتها ضدّها، بعدما سمحت الصين في 5 آب/ أغسطس بأن يتجاوز سعر الدولار حدّ الـ7 يوان، وذلك للمرّة الأولى منذ 2008. وبهذا الاتهام، الذي رفضه الكثير من الاقتصاديين الأميركيين، دخلت الولايات المتّحدة الحرب التجارية من الباب الذي حاول «بريتون وودز» إقفاله إلى الأبد. استحضرت مجلّة الـ«إيكونوميست» منظِّر الحرب البروسي كارل فون كلاوسفيتش قائلة إنه «لم يكتب بتاتاً عن حروب العملات. لكن بعض صانعي السياسات يرون أنها "استمرار السياسة التجارية بطرق أخرى"». طبعاً، الدول الكبرى مثل الصين والولايات المتّحدة وألمانيا عندما تتغيّر أسعار عملتها ستؤثّر كثيراً بتدفّقات التجارة العالمية، وبالتوازنات فيما بينها. فالأميركيون عندما يتّهمون الصين بأنها تتلاعب بعملتها، فإنهم يتّهمونها فعلياً بأنها تحاول أن تجعل من سلعها أكثر تنافسية، ما سيزيد من عدم التوازن التجاري بينهما. وبالتالي، إن الصين، بـ«سياستها» هذه، ستؤدّي إلى تعطيل أثر التعريفات الجمركية التي تستمرّ إدارة ترامب بإصدار موجاتها ضدّها. إذاً، هذه هي الحرب: الفعل وردّ الفعل. وهذه الحرب، إذا استمرّت، فقد تعمّ العالم كلّه، وتدخله في حلقة جهنمية من رفع التعريفات الجمركية وخفض قيمة العملات، ما سيؤدّي إلى نهاية ما بقي من «بريتون وودز»، وإلى انقسام العالم إلى بلوكات اقتصادية متنافسة، كما ذكرت الـ«إيكونوميست» أيضاً.

الدول الكبرى في مواجهة النظام العالمي
ثانياً، اليوم، تواجه الصين والولايات المتّحدة، كلتاهما على حدة، إلى حدّ ما، ما واجهه الاتحاد السوفياتي من حيث «القرار»، أو عدمه، بالانضمام أو الخضوع لنظام اقتصادي عالمي قد لا يعمل لمصلحته. فالاتحاد السوفياتي الذي شارك في اجتماعات «بريتون وودز» بفعالية، لم ينضمّ إليها ولا إلى مؤسّساتها. وعلى الرغم من أن بعض الخلافات ظهرت خلال المفاوضات، مثل حصّة الاتحاد السوفياتي من الذهب وغيرها، إلّا أنه لم يُعرف في النهاية، ولا حتّى الآن، لماذا رفض الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين، الاتفاقية في 1946، على الرغم من التوصيات الإيجابية للوفد السوفياتي المُشارك. ربّما لأمرين: الأوّل، هو السياق الذي أتت به. فبين 1944 و1946، كان العالم يتشكّل من جديد، والاتحاد السوفياتي الذي كان إلى حدّ ما «فضولاً فكرياً» في العشرينيات، أصبح في قلب أوروبا وقوّة كبرى وقوّة صناعية عظمى. طبعاً، لم تكن الحرب الباردة قد تبلورت بعد، لكن التوترات الأولى بدأت تطفو بين «العمّ جو» والدول الرأسمالية الغربية. والثاني، يتعلّق برغبة الاتحاد السوفياتي في الحفاظ على استقلاليته الاقتصادية، وعدم إخضاع التجارة الخارجية والروبل السوفياتي لأي اتفاقية خارجية، بل لمتطلّبات التخطيط الاقتصادي الداخلي الذي كان سيأخذ أبعاداً جديدة من أجل إعادة الإعمار بعد التدمير الكبير الذي حصل في الحرب العالمية الثانية.
يكمن التحدّي لمواجهة الحرب التجارية في العودة إلى أفكار كينز حول العملة العالمية واتحاد التخليص الدولي، وتغيير الرأسمالية مرّة أخرى من الداخل، والقضاء على الثورة المضادة للكينزية


اليوم، تواجه الولايات المتّحدة بقيادة ترامب التحديات نفسها نوعاً ما. فكيف يقوم ترامب بـ«جعل أميركا عظيمة مرّة أخرى» بينما أميركا تخضع لقيود دولية منها مكتوب (كقوانين منظّمة التجارة العالمية) ومنها غير مكتوب (من حيث عدم جواز شنّ حروب عملات، أو اتّهام الصين بذلك ورفع منسوب التوتّر العالمي)؟ من هنا، قد تتّجه أميركا إلى طريق صدامي مع صندوق النقد الدولي، خصوصاً بعد أن أعلنت رئيسة اقتصاديي الصندوق أن الحسابات الخارجية للصين في 2018 عكست الأسس الاقتصادية، وأن سياسات التعرفة الجمركية لإدارة ترامب خاطئة وغير مؤثّرة.

الاشتراكية ضدّ الرأسمالية
ثالثاً، إحدى خلفيات الصراع العالمي ليست فقط عدم التوازن بين دول شبيه بعضها ببعض كما كان الأمر بين الحربين، بل التنافس بين الرأسمالية والاشتراكية. بعد الحرب الثانية، كانت التغيّرات التي حصلت في الرأسمالية داخلياً وخارجياً كثيراً ما تستجيب للتهديد الشيوعي الآتي من الاتحاد السوفياتي. واليوم أيضاً، سياسات ترامب ليست فقط قومية بحتة، بل هي مبنية على ردّ فعل على الشيوعية الصينية. في مقابلة في 10 آب/ أغسطس الجاري، قال «منظِّر اليمين العالمي» ستيف بانون: «إننا نستطيع أن ندمّر كلّ شيء. وإن كل النظام مبني على بيت من رمل» في إشارة إلى الصين. وهذا يعكس الخوف من التهديد الصيني والحاجة إلى إنهائه. وفي هذا الإطار، يمكننا القول إن «الصراع الطبقي» الذي مثّله الاتحاد السوفياتي الاشتراكي بين عامي 1917 و1991 كان يهدّد أميركا، أمّا اليوم فإن «تطوّر القوى المنتجة» الذي تمثّله الصين الاشتراكية هو الذي يهدّدها.
بعد الحرب العالمية الثانية، كانت الولايات المتّحدة دولة ذات فائض خارجي، ومن ثمّ تحوّلت تدريجاً إلى دولة مَدينة، فانهار «بريتون وودز». اليوم، نعود إلى عالم حيث الصين هي ذات فائض خارجي، والولايات المتّحدة مَدينة في عالم تحاول أن تستعيد موقعها فيه، فبدأت حربها على الصين.
السؤال الأساسي: ماذا ستفعل الصين الآن؟ هل ستبقى على حذرها ترسل رسائل مُبطّنة إلى أميركا بأنها تستطيع «أن تدمّر المزارع الأميركي وتجعل أسواق الأسهم الأميركية تنهار»، كما قال بول كروغمان؟
وفق روبن بروكس من المعهد المالي العالمي، فإن الصين لم تُصَعّد ضدّ أميركا بعد. إذ يتطلّب من اليوان أن ينخفض إلى 7.30 مقابل الدولار لإلغاء مفاعيل وضع تعرفات جمركية إضافية على الـ300 مليار دولار من الصادرات الصينية. إذاً، العالم على أبواب حرب تجارية، بينما تبقى مؤسّسات «بريتون وودز» هشّة في مواجهتها، ويتداول الوسطيون السلطة فيها. ويكمن التحدّي هنا في تحويل صندوق النقد إلى مؤسّسة أكثر «كثافة»، أي العودة إلى أفكار كينز الأساسية في العملة العالمية واتحاد التخليص الدولي، بالإضافة إلى تغيير الرأسمالية، مرّة أخرى، من الداخل والقضاء على الثورة المضادة المعادية للكينزية. فهل سيحصل هذا ليعود كينز منقذاً مرّة أخرى؟
الدرس من التاريخ: تطلّب النظام الجديد حرباً عالمية وهزيمة اليمين الفاشي آنذاك. اليوم، يتطلّب الأمر، على الأقل، هزيمة سياسية كبرى لليمين العالمي الصاعد من أميركا إلى أوروبا. لكن حتّى الآن، يبدو أن الوسطيين في أميركا (مؤسّسة الحزب الديموقراطي) وبريطانيا (الليبراليون الديموقراطيون مؤقّتاً) وفي المؤسّسات الدولية يمنعونه، عن وعي أو من دون وعي. وبالتالي، قد يتّجه الإنقاذ، أكثر وأكثر، إلى الانتقال من حلّ كينز المؤقّت إلى حلّ ماركس النهائي، لكن هذه المرّة ليس في «الحلقة الأضعف»، بل في قلب الرأسمالية المتقدّمة.