طبعاً، لا يمكن تفسير كل شيء بالاقتصاد، ولكن إغفاله في أي تحليل موضوعي لما يحدث الآن في لبنان قد يدفع إلى استنتاجات خاطئة كلّياً. ففي ذروة المخاطر الماثلة، التي تهدّد فئات اجتماعية واسعة بانهيار قدراتها الشرائية وتبخُّر مدّخراتها بالعملة المحلّية وانزلاقها إلى الفقر، يتصاعد خطاب شعبوي يميني باطّراد، يرمي المسؤولية على «المتطفّل الخارجي» ويركب «نظرية المؤامرة» ويؤجِّج «الهواجس الطائفية» ومشاعر «الوطنية المفرطة» ويشنّ حروبه المقدّسة ذوداً عن الأخلاق والإيمان والعائلة والأبوية المهدّدة... وفي الوقت نفسه، يزداد التوتّر بين أطراف «السلطة الائتلافية» إلى حدّ التهديد بفرطها أو تعديل ميزان القوّة التي تقوم عليه. وتظهر الاستعدادات في «الشارع»، وهو المصطلح اللبناني المرادف للتهديد بالعنف الأهلي، بالتزامن مع لحظة «تضارب» واضحة بين المصالح المالية والتجارية والعقارية، ومصالح «السياسيين»، الذين يجدون أنفسهم اليوم مضطرين إلى البحث عن طريقة ما (تبدو مستحيلة في الظروف الحاضرة) تسمح لهم بالمحافظة على النظام السياسي وآلياته التوزيعية، بصفتهم ممثّلين للطوائف (الشعب) وحرّاساً على المجتمع، وتسمح لهم أيضاً بالمحافظة على النموذج الاقتصادي وآلياته التمويلية، التي صُمِّمَت بغرض تمكين هؤلاء «السياسيين» تحديداً من «الترسمل» وتشكيل «طبقة أوليغارشية حاكمة»، تضمّهم إلى جانب المصرفيين وكبار المودعين والمستوردين وملّاك الأراضي والمقاولين، التي نجحت على مدى ربع القرن الماضي بعد توقّف الحرب بالسيطرة على الدولة ورأس المال والاستحواذ على الثروة والملكية العامّة والخاصّة، وتحكّمت بالدخل ومصادره وعظّمت الريع وتقاسمته وأعادت توزيعه.باختصار، تخبرنا المؤشّرات المتداولة أننا نعبر في مرحلة ركود اقتصادي طويل المدى، مستمرّة منذ عام 2011، فالناتج المحلّي الإجمالي اللبناني (الذي يقيس مجموع الأرباح والأجور) لم يسجّل أي نموّ حقيقي في السنوات التسع الماضية إلّا بنسبة 1% كمعدّل سنوي، فيما ازداد عدد سكّان لبنان في هذه الفترة بنسبة 38% تقريباً، وفق قاعدة بيانات البنك الدولي، ومعظم هذه الزيادة نتج من تدفّق اللاجئين السوريين.
في هذه الفترة، أي منذ عام 2011، رضخ الاقتصاد العالمي برمّته لتداعيات أزمة الرأسمالية، التي انفجرت في عام 2008 وبلغت حالياً مرحلة «الحروب التجارية» وسباقات «العسكرة»، وبات هناك إقرار واسع بين التيّارات المختلفة بأنّ العالم مقبل على صراعات حادّة بهدف السيطرة على حركة رأس المال والأفراد عبر الحدود على عكس «التحرير» الذي ساد في الموجة النيوليبرالية الآفلة. وفي هذه الفترة أيضاً، وفي ظل الأزمة الاقتصادية العالمية، تراجع الطلب على المواد الأوّلية وانخفضت أسعار النفط والغاز وشحّت السيولة وتوقّفت مشاريع المقاولات الضخمة... وانفجرت «الانتفاضات العربية» و«الثورات المضادة» و«الصراعات الدموية»، ووقعت المنطقة العربية كلّها في «فم التنين» وتقطّعت أوصالها وسدّت دروبها.
يؤدّي الركود حتماً إلى تراجع الدخل المُتاح ويقلّص الريوع ويرفع حدّة التزاحم عليهما، ولكن في حالة الاقتصاد اللبناني، قد لا نحتاج إلى أدلّة إحصائية (مفقودة أو مخفيّة)، لنفهم أن لا علاقة سببية واضحة تربط الركود بالزيادة السكّانية، كما يحاول أن يوحي الخطاب الشعبوي اليميني بتحريضه على اللاجئين السوريين والفلسطينيين المقيمين في لبنان أباً عن جدّ، بل إن تزامنهما عبّر عن تلاقي ذروتين كان سيواجههما لبنان في كلّ الأحوال: ذروة الأزمة البنيوية الداخلية وذروة الأزمة الخارجية. فالأولى أظهرت مدى هشاشة المجتمع اللبناني وضعف بنيته الإنتاجية وارتهان نمط عيشه للخارج وعجز نظامه السياسي، والثانية أعلنت نهاية حقبة سمحت لهذا المجتمع بأن يعيش بمستوى أعلى من دخله وجعلته يرتضي شراء سِلمِه الأهلي بالمال العام.
الحروب تستعر ونحن جزء منها مهما أنكرنا وتلطّينا وراء مقولات ساذجة عن «النأي بالنفس»، ومنافذ الهجرة تضيق والمهاجرون في كلّ مكان، منهم اللبنانيون، يعانون ما يعانيه المهاجرون في لبنان، واقتصادات المهجر مأزومة كما الاقتصاد اللبناني، والتضييق مستمرّ على حركة رأس المال، ويعاني الجميع تقريباً، كما نعاني، من مستويات مديونية عامّة وخاصّة مرتفعة جدّاً خلّفتها الحقبة الماضية. العالم كلّه يواجه اليوم نتائج «أمولة الرأسمالية» وارتفاع اللامساواة وتدهور البيئة، والمجتمع اللبناني لا يواجه هذه النتائج فحسب، بل يواجهها من دون أي أمل، ولذلك (ربّما) تظهر دفاعاته على صورة الهياج الأخير ضدّ «الشياطين» و«المثليين والمثليّات» وضدّ «الفلسطينيين والسوريين»، بوصفهم من المخاطر التي تهدّد إيمانه الديني والأخلاقي والوطني.
منذ توقف الحرب الأهلية وإطلاق مشروع إعادة الإعمار في مطلع التسعينيات، انغمس لبنان أكثر فأكثر في خدمة اقتصاد إقليمي ريعي مرهون لأسعار النفط وفوراتها. وقد وفّرت هذه الوظيفة الظروف المواتية لدفع المزيد من العمالة الماهرة إلى الهجرة، وحُفِّزَت المضاربات العقارية لجذب المزيد من التدفّقات المالية الخارجية، وأيضاً دُفعَت فوائد سخيّة لجذب الودائع إلى الجهاز المصرفي واستعمالها بطريقة أو بأخرى في تمويل الاستهلاك. لقد نجحت هذه الآلية بجذب تدفّقات خارجية هائلة إلى لبنان، توازي قيمتها بأسعار عام 2010 ما حصلت عليه كلّ أوروبا الغربية من تدفّقات مشروع مارشال بعد الحرب العالمية الثانية، إلّا أنها أدت إلى تراجع مطّرد في عوامل الإنتاج والعمل، ولا سيّما في مجالات الزراعة والصناعة والعلوم والابتكار، وهي الأكثر توليداً للوظائف والأجور والقيم المضافة، وارتفاع مطّرد في الاستيراد والمديونية العامّة والخاصّة، إذ باتت فاتورة الاستيراد ومدفوعات الفائدة تقتطع أكثر من نصف الدخل المتاح. فما يحصل منذ عام 2011 ويتوقّع أن يتفاقم أكثر في كلّ يوم يمرّ، أن الاقتصاد اللبناني أصبح عاجزاً عن تسديد هذه الفاتورة والمدفوعات، وهو لم يعد يحصل على تدفّقات خارجية كافية لتعويض النقص في الإنتاج، وأصبح النظام المصرفي يمثّل عبئاً ثقيلاً غير قابل للتحمّل إلى ما لا نهاية، ولم تعد الريوع التي تتحقّق عبر الدولة تكفي لتوزيعها بين أطراف الطبقة الأوليغارشية وجماهير الطوائف وزعاماتها.
في هذا السياق، ليس مستغرباً أن يظهر صندوق النقد الدولي في المشهد كفزّاعة إضافية في الخطاب الشعبوي اليميني. فبعد أن لوّح رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري، بخطر تخفيض سعر صرف الليرة، الذي أوصى به خبراء الصندوق من أجل تدارك فشل النظام ككلّ والوصول إلى مرحلة العجز عن السداد، توجّه رئيس الجمهورية ميشال عون إلى اللبنانيين بتحذير قبل أيّام قليلة، وقال إن «لم نُضحِّ اليوم ورضينا بالتخلّي عن بعض مكتسباتنا، فإننا نخاطر بفقدها كلّها، حين يصبح وطننا على طاولة المؤسّسات الدولية المُقرضة وما يمكن أن تفرضه علينا من خطط اقتصادية ومالية قاسية».
بات جميع «المسؤولين» تقريباً يشاركون بثّ هذا الخوف، كلّ بطريقته، ولكنهم يطلبون منّا أن نهدأ ونتجمّد وننتظر «العجائب» التي يعدوننا بها، ويريدون منّا أن نبذل المزيد من التضحيات على أمل تفادي ما قد يكون أسوأ بكثير ممّا نحن فيه الآن. وهل هناك أسوأ من أن تظهر «الشياطين» وتنحلّ «الأخلاق» ويفقد «الرعايا» إيمانهم؟
(يتبع)