«الأزمنة لا زالت تميل إلى نظرية جديدة، وكينز يبقى المصدر الواضح لها. قد يكون مات كينز، ولكن فلتعِش النظرية العامّة»
ستيفن مارجلين


في عام 2007، لم يعد لصندوق النقد الدولي «زبائن» كثر، فأكثرية الدول في أميركا اللاتينية خرجت من تحت «شرطية» الصندوق، ووصلت القروض المُستدانة منه إلى أدنى حدّ لها منذ السبعينيات. وبالتالي، كان الصندوق على وشك أن يتلقّى الدواء نفسه الذي وصفه للكثيرين: التقشّف! أي التخلّص من عدد كبير من جيش الاقتصاديين والموظّفين الذين انضمّوا إليه بدءاً من الثمانينيات ليقودوا حملاته حول العالم. ولكن في عام 2008، حصل ما لم يكن بالحسبان، حتى في حسابات الصندوق نفسه الذي كان يظنّ أن هذه الأمور لا تحصل إلّا في الدول النامية. في أيلول/ سبتمبر من تلك السنة، ضرب العالمَ الرأسمالي المتقدّم زلزال لم تنتهِ هزّاته المتلاحقة حتى الآن، أو ما عرف بالأزمة المالية العالمية. وعندما تفاعلت الأزمة في أوروبا، وَضَعَتْ عدداً من البلدان، وعلى رأسها اليونان، في وضع شبيه بذلك الذي واجهته أميركا اللاتينية من قبل، فكانت عودة الحياة إلى الصندوق وأصبح جزءاً من عمليات «التكيّف» في أوروبا من البرتغال إلى إيرلندا، وأصبح أحد أركان الترويكا التي فرضت التقشّف بقسوة على اليونان.

عودة كينز وأمور أخرى
في المقابل، وإثر الأزمة، اهتزّت أمور عدّة كانت من أعمدة الأرثوذكسية الاقتصادية السائدة والتي كان الصندوق من أكثر محبّذيها.
أوّلاً، إن أزمة 2008 لم تكن فقط أزمة مالية مثل «جنون التوليب» في القرن السابع عشر أو الأزمة الآسيوية في 1997، بل إنها أزمة في الرأسمالية نفسها. وبدأ، للمرّة الأولى منذ فترة طويلة، استعمال كلمة «الرأسمالية» في الخطاب الاقتصادي السائد بدلاً من «اقتصاد السوق الحرّ».
ثانياً، كان من الواضح أن السياسات التي أنقذت الاقتصاد العالمي من الانهيار هي السياسات الكينزية التي طُبِّقت حول العالم من الولايات المتّحدة إلى الصين، والأخيرة لعبت يومها دوراً كبيراً في دعم الاقتصاد العالمي. إثر ذلك، بدأ الحديث عن عودة كينز إلى الساحة الاقتصادية. لولا ذلك، لما رأينا مؤرّخ الصندوق يحاكي عودة كينز إلى واشنطن، لأن الصندوق لفترة طويلة، ومعه أكثرية الحكومات والاقتصاديين، اعتنقوا ما قاله روبرت لوكاس، في عام 1980، وهو أحد قادة الثورة المضادة على الكينزية في السبعينيات، عن أن «الاقتصاد الكينزي قد مات، وأنه في السيمينيرات البحثية لا أحد يأخذ الكينزية على محمل الجدّ بعد اليوم».

أنجل بوليغان ــ المكسيك

ثالثاً، ارتفاع في حدّة عدم المساواة في الدخل والثروة خصوصاً في الدول الرأسمالية المتقدّمة، وعلى المستوى العالمي، حيث تراجعت الطبقات الوسطى والعاملة في الدول المتقدّمة وتقدّمت نظيراتها في الدول النامية.
وأخيراً، بدء انهيار العولمة والتجارة الحرّة، وهذا أمر لم يكن أبداً في الحسبان. فعلى الرغم من انهيار «بريتون وودز»، استطاع الاقتصاد العالمي ولوج العولمة، ولو مع أزمات مالية متكررّة وأزمات أسعار صرف، إلّا أن المسار التجاري كان يسير أكثر وأكثر نحو الانفتاح، وتمّ إنشاء منظّمة التجارة العالمية في 1995، وهي المؤسّسة الثالثة لـ«بريتون وودز» التي لم تتجسّد إلّا بعد كل تلك السنوات. اليوم انتهى كل هذا الانفتاح، أو على الأقل هو مهدّد.
طبعاً هذه التغيرات أدّت إلى تغير طفيف في عمل، أو على الأقل، في بعض تفكير الصندوق. بدءاً من 2009، أعطت «الشرطية» البعد الاجتماعي بعضاً من الأهمّية. وفي عام 2011، قال المدير العام آنذاك دومينيك شتراوس-كان، إن الصندوق عليه أن يضع أهداف المساواة والتوظيف في قلب سياساته، وهذا أمر لم يكن يتصوّره أحد قبل ذلك. كما انتقد أوليفيير بلانشارد، عندما كان رئيس الاقتصاديين في الصندوق، الأسس التجريبية للتقشّف في أوروبا في ورقة صدرت في عام 2013 واعتبرها البعض «اعترافية». وبدأت تصدر تقارير، حول أمور مثل عدم المساواة والاحتكار. عملياً، اتخذ الصندوق موقفاً أقل تشدّداً تجاه اليونان من أقرانه في الترويكا. وصدر في عام 2011 تقريراً داخلياً وضع اللوم على الصندوق في عدم استباق الأزمة في 2008 وعزاه إلى «التفكير الجماعي» المُسيطر آنذاك (أي الإيمان المُطلق بالأسواق الحرّة وعدم إمكانية حدوث أزمات فيها)، إلّا أن الأمور التي تغيّرت لم تتعدَّ في الكثير من الأوقات الشكليات، ولا يزال الصندوق يرتكب أخطاءً تقنية لها أبعاد اقتصادية واجتماعية كبيرة. فمثلاً، في الساحة الأوروبية يقول آدام تووز في نيسان/ أبريل الماضي إن الصندوق يخطِئ بقياس الناتج المحلّي الكامن (عندما تكون كل الموارد مُشَغّلة) في الدول الأوروبية، ويقلِّل من عمق حالة عدم استعمال الموارد. قد يبدو الأمر حسابياً فقط، ولكن بهذا الخطأ يؤشِّر إلى أن الإنفاق الحكومي في هذه الدول يجب ألا يزداد، وهو ما يزيد من حدّة التقشّف ويطيل من أمد الركود الاقتصادي. هذا الأمر يأخذ اليوم أهمّية حيث تنتقل كريستين لاغارد إلى المصرف المركزي الأوروبي، ويتوقّع البعض أن تقوم بسياسة توسّعية، بما يتضارب مع حسابات الصندوق. وفي هذا الإطار يقول أحد المعلّقين: «بطريقة ما، قد يكون الاتحاد الأوروبي متّجهاً نحو سياسة اقتصادية على الطريقة اليابانية (أو الأبينوميكس نسبة إلى رئيس الوزراء شينزو آبيه الذي اتّبع سياسات كينزية توسعية)». إذاً، يتأرجح الصندوق اليوم بين «الكينزية» و«السياسة المحافظة» التي اعتاد عليها. ويمكننا أن نرى ذلك في تقريرَيه الأخيرين حول ألمانيا ولبنان.

من اليسار: تقرير ألمانيا
في تموز/ يوليو الماضي، أصدر الصندوق تقريراً حول ألمانيا بعنوان «عدم المساواة في الثروة والادّخار الخاص في ألمانيا» في إطار مشاوراته معها ضمن البند الرابع. يبدأ التقرير بتناول موضوع الفائض في الحساب الجاري الألماني الذي تقوده الصادرات الألمانية القوية. هذا الموضوع حسّاس جدّاً، اليوم، داخل أوروبا نفسها وفي العالم، من حيث إحداثه عدم توازنات بين ألمانيا والعالم (الفائض الألماني يجب أن يقابله عجز في مكان آخر). بالتأكيد الصندوق منوط به هذه الأمور، ولكن المهمّ في التقرير هو ربطه بين هذا الفائض، أو النموذج الاقتصادي الألماني، وبين عدم المساواة في الدخل والثروة.
للمرّة الأولى منذ عام 1992، يبدو أن صندوق النقد الدولي قد يكون أكثر قدرة على فرض سياساته بعد أن كان في حالة صدام أو عدم توافق مع أكثرية الحكومات اللبنانية المتعاقبة


يقول، أو يسأل، التقرير «هل المنافع من التصدير يتمّ تشاركها بالتساوي بين السكّان؟» أمّا الجواب على هذا السؤال فيأتي بالنفي، إذ يُفنّد التقرير كيف أن التركّز في الثروة والدخل في ألمانيا ينتج عنه ادخار عالٍ وفائض خارجي، اللذان يؤدّيان إلى توسّع هوّة الدخل والثروة بين الألمان. الميكانيزم هو على الشكل التالي: التصدير المترافق مع قمع الأجور يؤدّي إلى ارتفاع الأرباح لدى الشركات المملوكة من الأقلية، وبالتالي ارتفاع حصّة الأرباح من الدخل وارتفاع عدم المساواة في الثروة. وأيضاً يؤدّي إلى ارتفاع الادّخار الخاص (من قبل الرأسمال) وبالتالي تسارع تراكم الثروة. في المقلب الآخر، يؤدّي عدم ارتفاع الأجور إلى انخفاض في الاستهلاك، أي في الاستيراد، وهو ما يؤدّي، بالترافق مع ارتفاع الادّخار، إلى إحداث فائض في الحساب الجاري. بالإضافة إلى هذا الميكانيزم، يطرح التقرير كيف أن النظام الضريبي الألماني، وخصوصاً الضريبة المتدنية على الثروة (1% من الناتج) وخَفْض الضريبة على مداخيل الشركات غير الموزّعة على حملة الأسهم وزيادة الضريبة على التوزيع، يؤدّي بسبب تركّز الثروة والتركّز في ملكية الشركات إلى ازدياد عدم المساواة.

من اليمين: تقرير لبنان
أمّا في لبنان، فتقرير البند الرابع الأخير لم يتطرّق إلى عدم المساواة لا في الدخل ولا في الثروة، وكذلك لم يتطرّق إلى النموذج اللبناني وميكانيزماته في إنتاج العجز في الحساب الجاري. أتى التقرير كلاسيكياً للغاية، وأعاد التشديد على الحاجة إلى التكيّف، عبر فرض الضرائب الاستهلاكية مثل الضريبة على المحروقات ورفع الضريبة على القيمة المضافة، وإلى ما هنالك من وصفات تقليدية أو مأخوذة من تقارير سابقة للصندوق، سواء عن لبنان أو غيره.
السؤال الأساسي الذي يطرح نفسه: لماذا لم يذهب التحليل إلى أعمق من ذلك؟ ربّما أيّ حلّ للأزمة اللبنانية قد يتطلّب ضرائب استهلاكية أعلى، ولكن في ظلّ عدم المساواة في الدخل والثروة الأعلى من ألمانيا، وفي ظل تركّز الملكية في الشركات المالية، وفي ظل نظام ضريبي لا يطال الثروة ومتدنٍّ على الأرباح والريع والفوائد، ألا يتطلّب الأمر إجراءات أو «إصلاحات» مختلفة، أو بالإضافة إلى تلك التي يتكلّم عنها الصندوق في لبنان حتى الغثيان؟
اليوم في لبنان، وللمرّة الأولى منذ بداية إعادة الإعمار في عام 1992، يبدو أن صندوق النقد الدولي قد يكون أكثر قدرة على فرض سياساته بعد أن كان في حالة صدام، أو بالأحرى عدم توافق، مع أكثرية الحكومات المتعاقبة. فليس صحيحاً، كما يظن البعض، أن الحكومات اللبنانية كانت في تلك الفترة تنفّذ أجندة صندوق النقد أو البنك الدولي. لكنها اليوم في وضع أصعب وأضعف نتيجة تفاقم الأزمة المالية للدولة ومعضلة ميزان المدفوعات وتزايد احتمالات الأزمة النقدية. وفي هذا الإطار، يمكن أن نرى تصريحات رئيس الوزراء حول الصندوق في مجلس النواب ورئيس الجمهورية الأخيرة حول «المؤسّسات الدولية المقرضة»، ومن ثمّ التراجع عنها أو نفيها عبر مستشارين لهما أو مصادر رسمية، كمؤشّر على ذلك. من هنا، لا تبدو الأمور جيّدة في المستقبل القريب، إذ لا يزال الصندوق محافظاً تجاه لبنان، كما رأينا في تقريره، ويقبع في الثمانينيات. فحبّذا لو يأخذ الموقف الذي اتخذه تجاه ألمانيا، ويكشف عن ميكانيزمات عدم المساواة في الدخل والثروة في لبنان وعلاقتها بالنموذج الاقتصادي اللبناني وبأزمة الحساب الجاري الخارجي، وبالتالي سَبر أغوار سُبل حلّها. وهذا ما سنبحثه في الحلقة الخامسة، ولكن في المرة المقبلة سنعود إلى اجتماعات «بريتون وودز» ونأخذ انعطافاً تاريخياً وسياسياً آخر حول الصندوق vs الصندوق.