«مجتمعنا غير متساوٍ لأن أنظمتنا وبنياننا مُصمَّمة لإعطاء بعض الجماعات الأفضلية على الآخرين، ولأن البعض سيكون محظوظاً أكثر من غيره»
تشارلي سيمونز، مليونير وطني


الآن وقد انتهت الموازنة إلى أروقة مجلس النواب، ينتهي أمرٌ آخر معها، ألا وهو الحديث عن الفساد الذي كَثُر في الآونة الأخيرة. غريب أمر لبنان، فهو يتعرَّض دائماً لعواصف في فنجان، وخصوصاً عندما يتعلّق الأمر بموجات «محاربة الفساد». وبشكل دوري، وإن لم يكن تواتره سريعاً، تبرز أصوات عديدة تطالب بإنهاء الفاسدين، وتتحوّل إلى حملة افتراضية في الإعلام والتصاريح والوسائط الاجتماعية لـ«اصطياد السَحَرة»، ولكن فجأة ينتهي كلّ شيء. وعندما ينتهي كلّ شيء، يبقى كلّ شيء على حاله.
ما يبقى ثابتاً، ليست مجموعات الفاسدين المُفترضين في مواقعهم في القطاع العام فقط، بل أيضاً النظام الاقتصادي والسياسي، والذي سيبقى ثابتاً حتّى وإن تمّ القبض على هؤلاء. فالمعضلة الأساسية في لبنان ليست الفساد الفردي في الدولة، وإنّما في النظام الاقتصادي الذي يُنتج فارقاً شاسعاً في المداخيل والثروة، وأصبح من الأعلى في العالم. ما يعني أن ميكانيزمات سيطرة القلّة على الثروة ليست في الفساد الفردي غير القانوني، وإن كان هذا ما يحصل، بل في ميكانيزمات توزيع الثروة والدخل المُوَلّفة في الاقتصاد، وهي في أكثريتها شرعية وقانونية، وبالتالي مكافحتها لن تكون أبداً في إطلاق لعبة «أبطال وسارقين» من وقت إلى آخر، بل في إنشاء ميكانيزمات لعكس ميكانيزمات سيطرة القلّة: أي «ميكانيزمات ضدّ ميكانيزمات».

أنجل بوليغان- المكسيك

وهنا لا بدّ من طرح أسئلة عدّة: لماذا ترَكُّز الثروة في لبنان مرتفع جدّاً بحيث يبلغ معامل جيني 88.9، وهو من الأعلى في العالم وفق «تقرير الثروة العالمي» الصادر عن «كريدي سويس»؟ ثانياً، لماذا في لبنان، وفق حسابات الاقتصادية ليديا أسود من «مدرسة باريس للاقتصاد»، والتي تحاول بجهدٍ كبيرٍ أن تطبّق منهج توماس بيكيتي، الـ1% يحصلون على 45% من الثروة والـ10% على 70% منها؟ ثالثاً، لماذا في لبنان 1% من المودعين يمتلكون 50% من قيمة الودائع؟ وبالإضافة إلى كلّ ذلك، تبلغ نسبة البالغين الذين لديهم ثروة أكثر من مليون دولار 0.3% فقط. والأهم ربّما، أن هناك عدداً كبيراً، نسبة إلى عدد السكان، من الأثرياء الذي يسمع الناس عنهم دائماً، فيما العدد الذي يظهر على لائحة «فوربس» السنوية للأثرياء يبقى متدنياً، لأن الثروات الكبيرة الأخرى، على الأرجح، هي أقلّ من مليار دولار أو لا يُبلّغ عنها. بالمناسبة رقم المليار دولار مرتفع جدّاً، إذ يشكّل نحو 2% من الناتج المحلّي في لبنان. وإذا قارنّاه مع الولايات المتّحدة، فهو كأن يمتلك أحدهم في أميركا ثروة بقيمة 400 مليار دولار، وهو أمر لم يصل إليه بعد أحد (ثروة الأغنى وهو جيف بيزوس تبلغ 131 مليار دولار).
الأجوبة على هذه الأسئلة لا ترتبط بالفساد وإنّما في ميكانيزمات سيطرة القلّة. وبالتالي لا يمكن تفسيرها وفق النظريات الاقتصادية النيوكلاسيكية بأن المداخيل تتبع الإنتاجية الحدّية التي تقول إن الفرق بين دخل هؤلاء ودخل الأكثرية ما هو إلّا فرق في الإنتاجية بين عميل اقتصادي «أ» وعميل اقتصادي «ب». طبعاً، لقد برهنت هذه النظرية عن عدم قدرتها على تفسير هذه الفروقات فعلياً، وقد ألقى جوزيف ستيغليتز في كتابه «كلفة اللامساواة» ظلالاً من الشكّ حول هذه النظرية في تفسير ما يحصل، على الأقلّ في الرأسمالية الأميركية اليوم، من حيث عدم التناظر بين العمل والإنتاج والثروة. فإذا كانت نظرية الإنتاجية الحدّية لا تعمل في أميركا، كما يقول ستيغليتز، فمن المثير أن نعرف رأيه إذا قرأ أرقام لبنان ودرسها، كيف أن، وفقاً لقوله، «الكثير من الثروة في الأعلى - وبعض العذاب في الأسفل - ناتج عن نقل الثروة لا خلقها»!

من تُرجّح الميكانيزمات؟
إن ميكانيزمات إنتاج عدم المساواة عديدة، ومن ضمنها، بشكل أساسي، التباعد بين عوائد الرأسمال وعائد العمل في النظرية والواقع حول العالم. فلنرَ بشكل سريع كيف يمكن أن تتجلّى تلك العوامل في لبنان.
العامل الأوّل هو التكنولوجيا، فاستبدال العمل بالرأسمال (أي مثلاً العمّال بالآلات) هو أحد المُحدَّدات الأساسية لتباعد العوائد بينها. ويُبيِّن تقرير لصندوق النقد الدولي أن تأثير التكنولوجيا يفسّر نحو 50% من انخفاض حصّة الأجر في الدول المُتقدِّمة. في لبنان، هذا العامل يكاد يكون غير مؤثّر، لأن عمليات الاستبدال بين الآلات والعمّال قليلة جدّاً.
العامل الثاني هو الاحتكار، فقد بيَّنت الدراسات في الولايات المتّحدة، مثلاً، أن زيادة الاحتكار في العقود الأخيرة كانت من أسباب انخفاض حصّة الأجور، إذ أصبحت الاحتكارات تسيطر أكثر وأكثر على الفائض الاقتصادي عبر الربح. في لبنان، من المرجّح أن هذا العامل مهمّ بسبب التركّز العالي في بعض الأسواق.
يسيطر الأغنياء على «مناطقهم» الفقيرة ويتبرّعون للقيام بأعمال يُفترض بالدولة القيام بها، وبهذا يكملون حلقة السيطرة على الاقتصاد والمجتمع والسياسة


العامل الثالث هو العولمة التي أدّت إلى خسارة الطبقتين العاملة والوسطى في الدول المُتقدِّمة، وفق «مُخطَّط الفيل» للاقتصادي برانكو ميلانوفيتش، وأدَّت إلى ربح الرأسمال الكبير. في لبنان، هذا العامل غير مهمّ في إنتاج عدم المساواة بين الرأسمال والعمل، إلّا أنه أساسي في إنتاج عدم المساواة بين العمالة الماهرة وغير الماهرة والعمالة المهاجرة والعمالة المحلّية. بشكل مختصر «الرأسمال داخل لبنان يربح من العمل خارجه».
العامل الرابع هو توازن القوى بين الرأسمال والعمل، والذي يميل في لبنان، بحدّة، لصالح الرأسمال بسبب ضعف النقابات العمّالية وشبه انقراض العقود الجماعية وخصوصاً في القطاع الخاص وارتفاع جيش العاطلين عن العمل.
العامل الخامس هو السياسات الاقتصادية والمالية التي من المعروف أنها مُنحازة في لبنان إلى الرأسمال وعوائده بشكل كبير. بالتالي، من الواضح، أن البُنى والأنظمة في لبنان «تعطي بعض الجماعات الأفضلية على الآخرين»، وأكثر بأشواط من الولايات المتّحدة الأميركية. فهل من نجدة؟

المليونيرات الأميركيون إلى النجدة؟
في عام 2010 تأسَّست في الولايات المتّحدة الأميركية، جمعية أطلقت على نفسها «المليونيرات الوطنيون» (Patriotic Millionaires). طبعاً، نحن لسنا بحاجة إلى المليورنيين الأميركيين ليقولوا لنا ما يجب فعله، ولكن هناك دروس إذا تمعّن بها الرأسماليون اللبنانيون، قد يجدون أن خشبة الخلاص ليست في استحواذهم على أجزاء أكبر وأكبر من الكعكة، وإنما على أقل وأقل منها. وهنا يمكنهم مراجعة موقع الجمعيّة الأميركية (https://patrioticmillionaires.org)، وسأستشهد مطوّلاً بمقدّمته:
«إن أعضاء «المليونيرات الوطنيون» فخورون بكونهم «خونة لطبقتهم»، وهم من الأميركيين ذوي الثروات العالية، ومن عالم الأعمال والمستثمرين الذين اتّحدوا بسبب قلقهم بشأن تركّز الثروة والسلطة المُزعزِع للاستقرار في أميركا. تتمثّل مهمّة منظّمة «المليونيرات الوطنيون» في بناء دولة أكثر استقراراً وازدهاراً وتضميناً من خلال الترويج للسياسات العامّة القائمة على «المبادئ الأساسية» المُتمثّلة بالتمثيل السياسي المتساوي، والأجر الذي يضمن العيش لجميع المواطنين العاملين، وبنظام ضريبي عادل (بحيث):
1- يجب أن يتمتّع جميع المواطنين بقوّة سياسية مساوية لتلك التي يتمتّع بها المليونيرات؛
2- على جميع المواطنين الذين يعملون بدوام كامل أن يكونوا قادرين على تأمين احتياجاتهم الأساسية؛
3- يجب أن تشكّل الإيرادات الضريبية من المليونيرات والمليارديرات والشركات الحصّة الأكبر من الإيرادات الضريبية الفيدرالية».
إذاً القوّة السياسية والاقتصادية الناتجة من تركّز الثروة يجب أن تواجه عبر الضرائب من أجل بناء اقتصاد مُختلف وهي ليست على الإطلاق إجراءات عقابية (فهم ليسوا ماسوشيين ولكن البعض بالطبع يتّهمهم أنهم اشتراكيون). نحن في لبنان أيضاً بحاجة إلى تأكيد هذا الأمر، والمهمّ أيضاً أن نلحظ أن المليورنيين الوطنيين لا يريدون استغلال مالهم في فعل الخير (أو لا يكتفون بهذا الأمر)، بل هم يريدون تغيير السياسات وصولاً إلى وضع ضرائب أعلى على أنفسهم. ففي لبنان، الأعمال الخيرية للأثرياء هي إحدى الطرق الأساسية للسيطرة السياسية لهؤلاء. وأصبح «فعل الخير» جزءاً أساسياً من التفكير الجماعي اللبناني فيسيطر الأغنياء على «مناطقهم» الفقيرة، ويغزّون الفضاء العام، ويتبرّعون للقيام بأعمال مُفترض على الدولة القيام بها، وبهذا يكملون حلقة السيطرة على الاقتصاد والمجتمع والسياسة. على عكس ذلك، المليورنيون الوطنيون يسألون: لماذا هذا التباعد في الدخل والثروة بين الطبقات في المجتمع؟ وماذا يمكن أن نفعل على مستوى السياسات لعكسه؟ هذا هو درس بعض المليونيرات الأميركيين للعالم.
في عام 1980 انتُخب رونالد ريغان رئيساً للولايات المتّحدة ومعه أتت باقة من النظريات الاقتصادية، أهمّها نظريات جانب العرض وتقوم بأساسها على خفض الضرائب على الرأسمال، وما عُرف بـ«اقتصاد التساقط أو الانسياب إلى الأسفل» (trickle down economics) أي إن الثروة تنساب أوتوماتيكياً من الأعلى إلى الأسفل. النظرية الأولى سُميت باقتصاد السحر الأسود، والثانية بالنكتة التي دحضتها كلّ التجارب الاقتصادية منذ ذلك الوقت. في هذا الإطار، ذكرت دراسة لصندوق النقد الدولي في عام 2015 «أن توزيع الدخل مهمّ للنموّ. بالتحديد إذا زادت حصّة الـ20 % الأعلى، أو الأغنياء، فإن النموّ ينخفص على المدى المتوسّط، ما يعني أن المنافع لا تتساقط». على الرغم من كلّ ذلك، هذان الأمران لا يزالان يتحكَّمان بالتفكير السائد في لبنان حول الثراء والفقر والثروة والدخل والنموّ والتوظيف والاستثمار، وكلّ ما يتعلّق بالاقتصاد. اليوم، أكثر من أي يوم مضى، يجب أن يكون واضحاً أن ذلك السحر الأسود وتلك النكتة قد طال أمدهما أكثر من اللازم والمطلوب إنهاؤهما. فالثروة لن تتساقط بل يجب إسقاطها، وقد ينفع هنا أن يكون بعض المليونيرات اللبنانيين خائنين لطبقتهم أيضاً.