حسمت الحكومة خيارها في مشروع موازنة عام 2019. فهي حدَّدت هدفاً اعتباطياً منذ البداية يرمي إلى تخفيض العجز المالي من 11.4% من الناتج المحلّي الإجمالي في العام الماضي إلى 7.5% في هذا العام. وتوافقت سلفاً على تحديد الفئات التي عليها أن تتحمّل الكلفة المباشرة لهذا التخفيض الكبير ونتائجه وآثاره، وهذه الفئات بالترتيب، هي: العاملون والمتقاعدون في القطاع العام، أوّلاً. المودعون في المصارف، ثانياً. بالإضافة إلى الأسر الضعيفة التي تحتاج دائماً إلى خدمات الدولة وتحويلاتها ودعمها لإنتاج بعض السلع واستهلاكها (كدعم أسعار الكهرباء مثلاً والتعويضات وتمويل بعض الجمعيات والبرامج والمشتريات العمومية وغيرها من أشكال الدعم المباشر وغير المباشر).وفق الفرضيات غير المحافظة التي استند إليها مشروع الموازنة المطروح، والتي وردت في تقرير وزير المال، فإن الناتج المحلّي الإجمالي في العام الجاري سيحقّق نموّاً فعلياً بنسبة 1.2%، ويتوقّع أن يرتفع من 56.8 مليار دولار إلى 59.6 مليار دولار، وبالتالي، فإن الهدف الذي حدَّده مجلس الوزراء لمستوى العجز في عام 2019 يقضي بتخفيضه دفعة واحدة (وفي غضون 6 أشهر فقط المتبقية) من 6.5 مليارات في العام الماضي إلى 4.5 مليارات دولار في هذا العام، أي بما يعادل ملياري دولار، وما نسبته 3.3% من الناتج المحلّي الإجمالي، وهذا القدر من التخفيض ليس مرتفعاً جدّاً فحسب، بل هو أعلى أكثر من 3 مرّات ممّا تعهّدت به الحكومة أمام الدائنين الأجانب المحتملين، في اجتماع «باريس 4» (سيدر) في نيسان/ أبريل من العام الماضي. وبالتالي يعبّر عن مغالاة غير مبرّرة، ونيات غير معلنة، وقصور سياسي لا يحتمل.
لا جدوى من استعراض ما أقرّ من مواد في مشروع الموازنة، أو سرد الكيفية التي أقرّت بها والمساومات التي جرت في شأنها. ليس لأنها غير مهمّة، بل بالعكس، هي مهمّة جدّاً لأنها تقرّر الطريقة التي سيجري فيها تحميل كل فئة من الفئات المذكورة قسطها من الكلفة. ولكن مثل هذا الاستعراض سيسمح فقط بإحصاء الخسائر، من دون الانتباه إلى كيف وصلنا إليها، وبالتالي سيسهم في إبقاء المسؤولية السياسية مائعة وضبابية.
بداية، من المهم الانتباه الى ان مشروع الموازنة، الذي وضعه وزير المال علي حسن خليل، لم يكن مطابقاً تماماً لما أعلنه رئيس الحكومة سعد الحريري في الشهر الماضي، عن وضع «أكثر موازنة تقشّفية في تاريخ لبنان». فعدم المطابقة هذا، وليس أي أمر آخر، هو الذي حدّد الاختلافات والتباينات بين اللاعبين الرئيسين، وحكم كل نقاشاتهم، وأظهرهم كفريقين لا ثالث لهما: «التقشّفيون الأصيلون»، و«الشعبويون» الذين ركبوا الموجة، ولكنهم تلعثموا وتهرّبوا من المسؤولية، وقرّروا أن لا خيار أمامهم سوى المساومة على رؤوس «الجماهير الغفورة».
من دون أي توضيحات، أورد وزير المال جدولاً في تقريره المرفق مع مشروع الموازنة، يتضمّن توقّعات أن يبلغ العجز في هذا العام نحو 5.9 مليارات دولار، أي نحو 10% من الناتج المحلّي الإجمالي، وهو أقل بنحو 600 مليون دولار من العجز المُحقّق في العام الماضي. هذه النسبة من التخفيض توازي 1% من الناتج المحلّي الإجمالي، أي إنها جاءت مطابقة حسابياً للنسبة التي أوصى بها صندوق النقد الدولي في مطلع العام الماضي والتزمت بها الحكومة في «سيدر»، إلّا أن أصحاب هذه الوصفة اعتبروا أن ارتفاع العجز من 7% من الناتج في 2017 إلى 11.4% في 2018، يجعل توصيتهم السابقة بتخفيض العجز بنسبة 1% من الناتج سنوياً على مدى 5 سنوات غير كافية لطمأنة الأسواق المذعورة، وبالتالي بات الوصول إلى الهدف يقضي برفع نسبة التخفيض المطلوب لهذا العام والعام المقبل إلى ثلاثة أضعاف ما كان مطلوباً في بداية العام الماضي.
تضمّن مشروع وزير المال إجراءات عدّة للوصول إلى عجز بقيمة 5.1 مليارات دولار، أو ما يوازي 8.5% من الناتج المحلّي الإجمالي، بما في ذلك اقتراح ضمني بإجراء هندسة مالية مع مصرف لبنان لاستبدال نحو 12 ألف مليار ليرة من الدَّيْن المحلّي تدريجياً بفائدة أقل من الفائدة السوقية الحالية، الأمر الذي أسهم في عدم ارتفاع مدفوعات الفائدة في هذا العام إلّا بقيمة 98 مليار ليرة على الرغم من زيادة الدَّيْن وأسعار الفائدة. وكذلك اقتراح رفع الضريبة على ربح الفوائد من 7% إلى 10%، لمدة 3 سنوات، وعدم إعفاء المصارف منها، الأمر الذي أسهم في إضافة 500 مليون دولار تقريباً إلى الإيرادات المتوقّعة في هذا العام. إلّا أن المشروع، على الرغم من ذلك، بقي بحاجة إلى تخفيضات بقيمة 600 مليون دولار للوصول إلى هدف للعجز بنسبة 7.5% من الناتج، وهذا ما أبقى الباب مفتوحاً للعودة إلى المقايضة التي طُرحت قبل طرح المشروع على مجلس الوزراء، والتي يمكن إيجازها على الشكل التالي: يسدِّد المودعون نحو 500 مليون دولار إضافية على ضريبة ربح الفوائد، في المقابل تخفّض الأجور ومعاشات التقاعد والتقديمات الاجتماعية بقيمة مليار دولار، وهذا يؤدّي إلى تخفيض العجز 1.5 مليار دولار دفعة واحدة، بالإضافة إلى التخفيضات التي طالت الإنفاق الاستثماري والتشغيلي (نحو 500 مليون دولار). وفي السنة المقبلة يتمّ رفع سعر الكهرباء للتخلّص من مليار دولار إضافية، فيكون العجز قد خُفض بما لا يقل 3 مليارات دولار على مدى عامين.
هناك خدع كثيرة تنطوي عليها هذه المقاربة المُهيمنة، فهي تقدّم هذا القدر الكبير من التقشّف، كما لو أنه وصفة جديدة غير مجرّبة ستقدّم عليها الحكومة أخيراً كضرب من ضروب الجرأة والبطولة المطلوبتين في مواجهة الأزمة. إلّا أن الدولة تمارس في الواقع سياسات التقشّف منذ أكثر من 20 عاماً، وهذا كان له تأثير سلبي شديد على مستوى المعيشة العام والنموّ الاقتصادي عموماً، وعلى وضع البنية التحتية والخدمات الأساسية خصوصاً. فقد عمدت الحكومة إلى إجراء تخفيضات حادّة متواصلة على الإنفاق الرأسمالي، إذ لم يتجاوز هذا الإنفاق مستوى 1.5% من الناتج المحلّي الإجمالي (أقل من 9% من مجمل الإنفاق) طيلة العقد الماضي، وهو مستوى متدن كثيراً بالمقارنة مع البلدان الأخرى. ونتيجة لذلك «تدهورت شبكة البنية التحتية وجودتها، ولا سيّما النقل وإمدادات المياه والكهرباء، وهي خدمات مهمّة لرفاه السكّان. وعلاوة على ذلك، أدّى انخفاض الاستثمار العام في هذه القطاعات إلى التأخّر في سدّ الحاجات، ما أدّى إلى انخفاض في النموّ الاقتصادي وتدهور عام في الظروف المعيشية»، وفق ما خلص إليه التقرير الأخير للبنك الدولي عن لبنان.
على مدى 25 عاماً، استأثرت مدفوعات الفائدة بنحو ثلث الإنفاق العام واستنزفت نصف الإيرادات العامّة، وبقي الفتات للإنفاق على المجتمع ورفاهيته، في حين كان الاقتصاد المحلّي يزداد ضعفاً وعجزاً وفشلاً في توليد الدخل الكافي لتمويل الاستهلاك وفرص العمل الكافية لتشغيل الطبقة العاملة، ولا سيّما المتخرّجين والعمّال المهرة الذين يضطرون إلى الهجرة، والعمّال غير المهرة الذين يضطرون إلى الدخول في مزاحمة مع العمّال المهاجرين وظروف استغلالهم القاسية.
فوفق مشاريع الموازنات التي قدّمتها الوزارات قبل إعداد مشروع الموازنة، تحتاج الدولة لتسيير شؤونها، أو تأدية وظائفها التي كانت لا تزال تؤدّيها، إلى إنفاق عام لا يقل عن 20 مليار دولار، وبالتالي هناك طريقتان لتمويل هذا الإنفاق: إمّا فرض المزيد من الضرائب، وإمّا زيادة الدَّيْن. وبما أن الدائنين قلقون من تأثير زيادة العجز على قدرة الدولة على مواصلة دفع الفائدة لهم، وبما أنهم هم من يجب أن يتحمّل أي زيادة في الضرائب، فإن خيار المزيد من «التقشّف» يظهر كبديل يضمن بقاء الدولة قادرة على الدفع، ولكنه يدفع «الوضع البائس» ليكون أكثر بؤساً، ولا سيّما على سلم توزيع الدخل والثروة الذي يعاني في الأصل من اختلالات خطيرة.
لقد عبّر «التقشّفيون» عن شهية مفتوحة، الآن، على أبعد بكثير من مجرّد تخفيض للإنفاق العام كيفما كان، أو زيادة بعض الإيرادات، أو تجميل الحسابات والتلاعب بها، وهي السمات الرئيسة التي شكّلت مشروع وزير المال. فما يشتهيه هؤلاء هو إجراء عمليات «جزّ» فعلية لإنفاق الدولة بما يؤدّي إلى فرض المزيد من السياسات الشبيهة بسياسات «الإصلاح الهيكلي» و«برامج التثبيت»، ويسعون تحديداً، في هذه المرحلة، إلى قصّ الأجور كبديل من قصّ الديون. فمن دون ذلك، برأيهم، لن تكون هذه الموازنة «الأكثر تقشّفاً»، وفق ما توعّد به الحريري، ولن تمنح الحكومة علامة ناجحة في الاختبار المفروض عليها اليوم لإثبات صدق الالتزام المتكرّر بإيفاء كل الديون في مواعيدها، وفي كل الظروف، وعلى مدى السنوات المقبلة، كأولوية مطلقة تعلو كل الأولويات، من دون أي شطب أو إلغاء أو تخفيض أو إعادة هيكلة أو جدولة أو قصّ شعر من أي نوع كان، ومن دون أي تغيير أو تعديل في بنية الاقتصاد والمصالح الكامنة في النظامين النقدي والضريبي.
ما أظهرته المساومة الجارية هو أن «التقشّفيين» يمتلكون وصفتهم الدائمة، ويركّزون على قصّ الأجور تعبيراً عن إيمانهم بعقيدة «الصدمة»، أي تلك السياسات التي تستغل أحداثاً معيّنة أو تستغل القلق من وقوعها، كحدث انهيار سعر صرف الليرة مثلاً، لنقل المزيد من المخاطر إلى المجتمع ككلّ بدلاً من تركيزها على من يجب عليه أن يسدّد الخسائر ويدفع الكلفة. أمّا «الشعبويون» فلا يفعلون شيئاً سوى إقناع الناس بالفكرة المجنونة التي تقول إن عليهم أن يكونوا دائماً في خدمة الاقتصاد لا العكس. وفي الحالة اللبنانية، أسفرت هذه الفكرة حتى الآن عن بناء اقتصاد لا يحتاج إلى الناس إلّا بوصفهم مستهلكين ومهاجرين وسيّاحاً ومدينين، لا قيمة لأي عمل يقومون به إلّا قياساً إلى القدرة على دفع الديون المتراكمة وخدمتها.