في تقرير «الراصد المالي»، الصادر في نيسان/ أبريل الجاري، يوصي صندوق النقد الدولي «صنّاع السياسات» في العالم بترتيب بيوتهم المالية من الداخل «عن طريق الخفض التدريجي للدَّيْن»، وذلك استعداداً لمرحلة الهبوط الاقتصادي المقبلة. تمثّل هذه «التوصية» إقراراً من خبراء الصندوق بأن سياسات التقشّف التي يعتمدها الكثير من بلدان العالم لا تجدّي نفعاً ولا تزيد الأوضاع إلّا سوءاً. فبرأيهم، «أن الدَّيْن المرتفع يعوق قدرة صنّاع السياسات على زيادة الإنفاق أو تخفيض الضرائب لتعويض ضعف النموّ الاقتصادي، كما أن الدَّائنين يبدون أقل استعداداً لتمويل عجوزات أكبر في الميزانية، ما يرفع كلفة الاقتراض أكثر. كذلك فإن مدفوعات الفائدة على الدَّيْن تعمل على إزاحة الإنفاق على التعليم والصحّة والبنية التحتية، وكلّها استثمارات تحتاج إليها البلدان لدفع النموّ في سنوات عديدة مقبلة».ينطلق الخبراء فيتور غاسبار، وجون رالييه، وإيليف توريه في شرح هذه «التوصية»، أي الخفض التدريجي للدَّيْن، من موقف «كينزي»، يرى أن النموّ الاقتصادي يتباطأ، في حين أن الدَّيْن العام لا يزال مرتفعاً عبر بلدان العالم، وبالتالي بات يشكّل عائقاً أمام استخدام السياسات المالية من أجل تحفيز النموّ الاقتصادي ودعم الأرباح، ومواجهة المشكلات المتراكمة بفعل التغيّرات الديموغرافية وتحدّيات التقدّم التكنولوجي وإعادة تشكيل الاقتصاد العالمي. لذلك يقترح هؤلاء العمل على تطوير سياسات المالية العامة، «عبر تخصيص الإنفاق بصورة أفضل، وخلق حيّز أكبر في الميزانية، وتحسين السياسة الضريبية». ويوصون البلدان ذات المديونية العالية «أن تزيد من إيراداتها أو تحدّ من إنفاقها المفرط (...) حيثما كانت تكاليف الاقتراض مرتفعة واحتياجات التمويل كبيرة»، وهي الحالة التي تنطبق على لبنان، حيث المديونية العامة والخاصة مرتفعة جدّاً وكلفة الاقتراض مرتفعة جدّاً أيضاً واحتياجات التمويل مرتفعة جدّاً أيضاً وأيضاً.
يقول خبراء صندوق النقد الدولي إن «على هذه البلدان أن تحافظ على استثماراتها في التعليم والصحّة والبنية التحتية، إما بإعادة ترتيب أولويات الإنفاق أو توسيع القاعدة الضريبية وإلغاء الإعفاءات الضريبية وتحسين الإدارة الضريبية». ويقترح هؤلاء العمل على ثلاث جبهات:
أوّلاً - أن تعمل هذه البلدان على تحويل إنفاقها نحو الاستثمار الداعم للنموّ في مجالات البنية التحتية والتعليم والرعاية الصحّية، مع تخفيض الإنفاق المُهدِر للموارد، كدعم الطاقة غير الكفء. فعلى سبيل المثال، إذا تمّ إلغاء دعم الوقود بالتدريج، مع حماية الفئات الضعيفة اقتصادياً، يمكن توفير موارد إضافية تعادل 4% من إجمالي الناتج المحلّي العالمي، يمكن للبلدان استثمارها في البشر والنموّ. ومن المهمّ أيضاً في عالم أكثر اهتماماً بالرقمنة والتشغيل الآلي أن يتمّ التركيز على السياسات الداعمة للتعلّم مدى الحياة والارتقاء المستمرّ بالمهارات. فعلى سبيل المثال، تقدّم سنغافورة منحاً تدريبية للبالغين طوال حياتهم العملية، كما تقدّم هولندا تخفيضات ضريبية مقابل تدريب القوى العاملة. ومن شأن كبح الفساد أن يساعد بدوره في تدبير موارد إضافية والحدّ من الهدر.
ثانياً - مع اتخاذ خطوات لتحسين الإدارة المالية العامة ورفع الإيرادات، يمكن خلق حيّز إنفاق أوسع في الميزانية. إذ يمكن أن يؤدّي تحسين إدارة الأصول المالية الحكومية إلى تحقيق إيرادات إضافية تصل إلى 3% من إجمالي الناتج المحلّي سنوياً. وينبغي زيادة تحصيل الإيرادات. فعلى سبيل المثال، يمكن لبلدان إفريقيا جنوب الصحراء تحقيق إيرادات إضافية تتراوح في المتوسّط بين 3% و5% من إجمالي الناتج المحلّي على مدار السنوات الخمس المقبلة، إذا تمكّنت من تحسين كفاءة نظمها الضريبية الحالية.
ثالثاً - ينبغي العودة إلى تطبيق ضرائب دخل أكثر تصاعدية، ما سيساعد في الحدّ من عدم المساواة. كذلك فإن معظم هذه البلدان لديه فرصة لتحقيق زيادة كبيرة في الإيرادات من ضرائب التركات، والأراضي، والعقارات. وعلاوة على ذلك، ينبغي على الحكومات أن تتعاون في إصلاح النظام الضريبي المُطبّق على الشركات الكبيرة متعدّدة الجنسيات، ولا سيّما الرقمية. فمن شأن ذلك أن يرفع الإيرادات، بما في ذلك إيرادات البلدان النامية منخفضة الدخل، عن طريق الحدّ من تحويل الأرباح والتنافس الضريبي العالمي.
طبعاً، لا تمثّل «وصفة» خبراء صندوق النقد الدولي الوصفة المثالية لخفض الدَّيْن العام، ولا سيّما أنها لا تطرح إجراءات راديكالية من نوع «قصّ الشعر» أو «خفض الفائدة». وليس منتظراً من هؤلاء، أصلاً، أن يقدّموا أي وصفة لا يكون هاجسها تأمين مصلحة الأسواق. ولكن ما يقولونه يضعهم ببساطة على يسار الحكومة اللبنانية وقوى الاقتصاد المُسيطرة: ففي ظل تباطؤ نموّ الاقتصاد وميل الأرباح إلى التراجع يكون تدخّل الدولة عبر سياساتها الإنفاقية والضريبية مطلوباً. وفي ظل مستويات دين عام مرتفعة، فإن الدولة ستكون عاجزة عن هذا التدخّل، ما يزيد من تباطؤ نموّ الاقتصاد ويدفع معدّلات الأرباح إلى المزيد من التراجع. ولذلك يقترحون إجراءات «من شأنها المساعدة في رفع النموّ الاقتصادي طويل الأجل، الذي يشكّل أداة أساسية لتخفيف عبء الدَّيْن العام المرتفع. ومن شأنها أيضاً أن تعمِّم المنافع الاقتصادية على نطاق أوسع، واستعادة ثقة الجماهير في المؤسّسات اللازمة لتحقيق الاستقرار الاقتصادي».
يتباطأ النموّ الاقتصادي الحقيقي في لبنان إلى ما دون 1%، ولا تضع الحكومة اللبنانية أي هدف لسياساتها المالية يدعم هذا النموّ، وهي قرّرت مسبقاً عدم البحث في تعديل النظام الضريبي، لجعله أكثر كفاءة وأكثر عدالة، وقرّرت مسبقاً أيضاً أن تستبعد أي إعادة هيكلة للدَّيْن العام من أجل تخفيض أصله وفوائده، على الرغم من أن الدَّيْن الحكومي وحده يبلغ أكثر من 150% من مجمل الناتج المحلّي وفوائده تستنزف نصف إيرادات الموازنة. وتتحرّك الحكومة اليوم لإجراء المزيد من التقشّف في إنفاقها العام، وتدرس قصّ الأجور والتقديمات الاجتماعية بدلاً من قصّ الدَّيْن وفوائده... وكل ذلك سيزيد أوضاع الاقتصاد سوءاً، وسيوسّع الهامش كثيراً بين معدّل النموّ المنخفض والعائد الفعلي من فوائد سندات الدَّيْن، ليبلغ أكثر من 5%، وفق بعض التقديرات الحالية، أي إن كل هذا الجهد التقشّفي سيذهب كمكاسب إضافية للدائنين، وهو ما يزيد من التفاوتات الواسعة في توزيع الدخل والثروة ويقلّص القدرة الشرائية للكثير من الأسر المقيمة في لبنان.
يتزايد الإقرار بوجود مساحة كافية في لبنان لزيادة الضرائب على الأرباح والثروة، كما توجد مساحة واسعة لإعادة النظر ببنية الإنفاق العام وتوجيهه نحو الاستثمار في البنية التحتية والخدمات الأساسية والحماية الاجتماعية... إلّا أن ذلك يحتاج إلى برنامج سياسي مختلف عن البرنامج المطروح، يقوم على إعلان نهاية النموذج الاقتصادي القائم والحاجة إلى استبداله لا العمل على شراء المزيد من الوقت له بأعلى الأكلاف.