ما لا شكّ فيه، أن الاقتصاد اللبناني دخل في السنة الماضية مرحلة من التقلّبات الشديدة والمخاطر المرتفعة، التي تجلّت في انحسار معدّلات نمو الناتج المحلّي الإجمالي، وارتفاع الفوائد، وانخفاض أسعار السندات اللبنانية في الخارج، كما في ارتفاع تكلفة التأمين لحَمَلَة هذه السندات، بالإضافة إلى ارتفاع العجز في الحسابات المالية للدولة اللبنانية إلى حدود غير مسبوقة، في ظلّ نمو مطّرد للدَّين العام وخفض للتصنيف الائتماني للسندات السيادية. كذلك، شهد ميزان المدفوعات في الفترة الماضية عجوزات متواصلة، في ظلّ استحقاق الآجال لبعض السندات، وفي ظلّ تراجع دخول رؤوس الأموال، وذلك على الرغم من الهندسات المالية المتواصلة والمُكلفة، التي أثبتت منذ عام 2016 عدم نجاعتها في احتواء العجز في الحساب الجاري.من هذا المنطلق، تكتسب السياسات الاقتصادية أهمّيتها بسبب ارتباطها بعجز الخزينة وبخدمة الدَّين العام، بحثاً عن حلول بديلة تُجنّبنا الأزمة وتحمي الاقتصاد من صدمة في سعر الصرف، أو في تمويل الحساب الجاري، أو في أداء المستحقّات السيادية، أو في تمويل نفقات الدولة اللبنانية.
سأتطرق حصراً إلى موضوعَي العجز في الحسابات المالية والدَّين العام، لما يربط بينهما من علاقة سبَبية ووثيقة، ولما لهما من تأثير في الاقتصاد الحقيقي وفي القطاعات الإنتاجية، وفي الاستقرار المالي والنقدي عموماً. لكن قبل التطرّق إلى هاتين النقطتين، أودّ أن أشير إلى تصاعد التناقضات أخيراً بين الأطراف الأساسية التي تشكّل المجتمع اللبناني، إذ إن لحظة الخيارات الحاسمة قد أصبحت قريبة جدّاً، وهذا ما يدركه اللاعبون الأساسيون، فبدأوا يرفعون الصوت عالياً، محاولين تحميل الآخرين تكلفة التصحيح الآتي.
من هنا يمكن فهم ما جرى أخيراً من توترات، وهي مُرجَّحة التصاعد، خصوصاً بين قوى الإنتاج من جهة والمستوردين من جهة أخرى، ووزارة المالية من جهة ومصرف لبنان من جهة أخرى، وبين المصارف وكبار المودعين من جهة والعاملين في القطاع العام من جهة أخرى، وبين قوى الاحتكار من جهة وقوى السوق الحرّ من جهة أخرى، وبين دافعي الضريبة من جهة والمتهرّبين من دفعها من جهة أخرى.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

هذه التوترات، وما سيرافقها من حملات وحملات مضادّة، ومن تحرّكات وتحرّكات مضادّة، ما هي إلّا التعبير النمطي للأزمات المقبلة، التي تسبقها محاولة تمسّك كل طرف بامتيازاته والدفع باتجاه تحميل كلفة التصحيح للآخرين. وهذا ما جرى في معظم الدول التي واجهت صدمات مالية أو أزمات اقتصادية.
هدفنا الآن تفادي حصول أزمات كهذه، وإيجاد طريق غير مُتعرّج للخروج من نفق العجز في الحسابات المالية للخزينة، على أمل أن ينعكس هذا الأمر على العجز التجاري، فينخفض تدريجاً، ما يحدُّ من عجز الحساب الجاري ويقلّص الحاجة لدخول رؤوس الأموال وللاستدانة، على أن تأخذ القطاعات الإنتاجية بالتوازي فرصتها لتعيد بناء قدراتها ولتتحوّل إلى أحد أعمدة الاستقرار الاقتصادي والبنيوي والمالي.

العجز في المالية العامة
ندرك جميعاً طبيعة السياسة المالية، التي انحصرت منذ زمن بعيد بالرواتب والأجور، وبخدمة الدَّين العام، وبتغطية عجز الكهرباء، فانحسر هامش الاستثمار في البنية التحتية وفي تحسين مستوى الحماية الاجتماعية للمواطنين، وتحوّلت معها السياسة المالية إلى عبء ثقيل على الاقتصاد وعلى الأجيال القادمة بفعل تراكم الدَّين، بدل أن تكون أداة للتنمية الشاملة والمستدامة. لا بل الأخطر من هذا، فقدان السياسة المالية لدورها، الذي امتدّت إليه السياسة النقدية، فأصبحت الأخيرة صانعةً للسياسات الاقتصادية بدل أن تكون في خدمة هذه السياسات.
من الضروري في المرحلة المقبلة استكمال الإنجازات التي حصلت بما يتعلّق بانتظام المالية العامة، وبناء صدقية قوية لدى إعداد الموازنة، بهدف إرسال إشارات جدّية عن نيّة الحكومة لخفض العجز وإجراء تعديلات بنيوية وهيكلية على المسار المُتّبع الذي من غير الممكن الاستمرار به.
الشرط الأوّل للنجاح بهذه المهمّة، احترام القوانين المالية والترتيبات المؤسّسية والمهل الزمنية عند إعداد الموازنة السنوية ومناقشتها وإقرارها.
الشرط الثاني يكمن في رسم خريطة طريق على المدى المتوسّط، حيث تلتزم الحكومة أهدافاً ونسباً واضحة بما يتعلّق بالنفقات، وبحجم الإيرادات نسبة إلى الناتج المحلّي، وبالعجز المتوقّع في السنوات المقبلة، على أن تلتزم الدولة المسار الذي تضعه لنفسها، بحيث تعكس ميزانيتها السنوية الأهداف التي وضعتها سابقاً. لا نجاح لسياسة مالية لا تكون موازنتها السنوية مُحترمة أوّلاً، وجزءاً من خطّة لخفض العجز ثانياً، وواضحة في أهدافها ثالثاً، أكان في ما يتعلّق بكلفة الرواتب والأجور، أم بكلفة الدَّين العام، أم بأهداف الحماية الاجتماعية، أم بعبء التقاعد وسبل تمويله.
الشرط الثالث لبناء سياسة مالية سليمة ومتوازنة هو في احترام مبدأ شمول الموازنة. لا يخفى على أحد أن جزءاً من النفقات أو حتى الإيرادات يمرّ من خارج الموازنة العامة. اللائحة طويلة وتطاول قطاعات بأكملها، كالمرفأ، والمؤسّسات المملوكة لمصرف لبنان، وتلك التابعة للوزارات، وغيرها العديد. إن أحد شروط الانتظام المالي وضبط الهدر ومحاربة الفساد هو في تطبيق الشفافية المطلقة، التي لا يمكن أن تحصل من خارج ميزانية الدولة.
الشرط الرابع لبناء سياسة مالية سليمة هو في عدالة النظام الضريبي. وهذا يتطلّب أوّلاً وضع حدّ للتهرّب الضريبي، وللتهريب، ويتطلّب أيضاً تعديلاً تدرّجياً في معدّلات الضرائب غير المباشرة، التي يجب أن تنحسر جزئياً لمصلحة الضرائب المباشرة، فيخفّ الشعور بالغبن لدى دافعي الضريبة وترتفع قابليتهم لأداء واجباتهم في هذا المجال.

الدَّين العام
تخطّى الدَّين العام نسبة 150% من الناتج المحلّي، وهو مرجّح للارتفاع في الأعوام المقبلة، ما لم تُتّخذ إجراءات لخفض النفقات ورفع الإيرادات الضريبية (من دون زيادة معدّلات الضرائب). وحيث إن الفوائد على الدَّين ارتفعت أخيراً، فإن حصّة الفوائد ستستهلك المزيد من الإيرادات وستشكّل حصّة أكبر من مجمل النفقات، وهذا ما لا يمكن المالية العامّة تحمّله لفترة طويلة.
كيف السبيل لضبط خدمة الدَّين ولخفض معدلات الدَّين نسبة للناتج المحلّي؟
إن قدراتنا الداخلية لتنفيذ مشاريع إنتاجية ترفع من حجم الناتج المحلّي قد اضمحلت إلى الحدود الدنيا، ما يعني أن السبيل الوحيد هو في خفض النفقات (على أن تؤدّي مشاريع CEDRE دوراً مقابلاً لخفض النفقات، فتسمح بالحفاظ على المستوى الاسمي للناتج المحلّي الإجمالي).
عملياً، إن المطلوب رفع الفائض الأولي بنحو ملحوظ، بهدف الإفساح لاستعمال هذا الفائض في خفض الدَّين العام عبر تسديد الفوائد وجزء من أساس الدَّين. إلّا أن تحقيق فائض أولي لن يكون ذا فائدة إذا لم تنخفض الفائدة على الدَّين، بما يسمح باستعمال الفائض لرفع جزء من أساس الدَّين.
الجهد المطلوب من اللبنانيين العاملين في القطاع العام يقابله جهد من حاملي الدَّين السيادي، وعلى رأسهم البنك المركزي الذي يحمل في محفظته مشكوراً نحو 30 مليار دولار من السندات.
أشرت لدى طرحي لمسألة العجز المالي للدولة إلى ضرورة أن تلتزم الحكومة مساراً واضحاً لعجز الخزينة على المدى المتوسّط. كذلك، من الضروري أن تُعلن الحكومة خطّتها لخفض الدَّين على المدى المتوسّط، وأن تلتزم سنة تلو أخرى هذه الخطّة. وقد يكون من الضروري، تفادياً لتمادي التراخي لدى المسؤولين في ما يتعلّق بالعجز المالي والدَّين العام، إدخال تعديل دستوري يفرض على الدولة خفض هذا الدَّين عبر إعطاء فترة سماح للعجز، تليها مرحلة التوازن في الحسابات المالية، بحيث يتعذّر عندها تخطّي العجز نسبة النصف بالمئة من الناتج المحلّي. يمكن في هذا الإطار الاستفادة من التجربة الألمانية.
هل يجب خفض النفقات لخفض الدَّين، أم رفع الضرائب؟
أثبتت تجربة الدول الأخرى التي مرّت بحالات شبيهة لحالتنا أن خفض النفقات هو الحلّ الأنجع، حيث إن الانكماش الذي يتبع خفض النفقات قصير الأمد، ولا يتخطّى السنتين، فيما الانكماش الناجم عن رفع الضرائب أطول زمنياً وأقسى بمفاعيله على الناتج المحلّي الإجمالي. كذلك، إن النمو الذي يتبع الانكماش أقوى عندما تخفض الحكومة من نفقاتها غير المجدية عن الانكماش الناتج من رفع الضرائب. يُطلَق اسم التقشّف التوسّعي «Expansionary Austerity» على هذه العملية، وهو الجواب الشافي لاقتصاد صغير ذي إدارة اقتصادية ضعيفة كلبنان.

أوجه التصحيح
في ظلّ دولرة التبادلات الداخلية والخارجية، وحيث إن دولرة الديون – العامة والخاصة – تشكّل أكثر من نصف حجم الدَّين، فإن الحديث عن تحرير سعر العملة مقابل الدولار الأميركي يصبح من غير فائدة، خصوصاً أن صناعتنا قد تراجعت، فأصبح من غير الممكن الاستفادة من انخفاض سعر الصرف لتحسين الميزان التجاري، علماً بأن مُعظم المواد التي نستعملها في سلعنا القابلة للتبادل مستوردة من الخارج، وهي بالتالي مقوّمة بالدولار الأميركي.
في غياب المصلحة بتعديل سعر الصرف، يطرحُ البعض خفض سعر الصرف الداخلي (Internal Devaluation)، عبر خفض الرواتب والأجور وعبر إعفاء القطاعات المُنتجة من أعباء الضريبة، بهدف زيادة التنافسية وتوسيع حجم الصادرات اللبنانية. إلّا أن تجربة الدول المشابهة للبنان تثبتُ أن خفض سعر الصرف الداخلي صعب التحقيق، في ظلّ عدم خفض الأسعار الداخلية (خصوصاً أن معظمها مُحدّد وفقاً للأسعار الخارجية)، ما يُعطّل، لا بل يفاقم من صعوبات التصدير بدل المساعدة على زيادة هذه الصادرات.
في ظلّ صعوبة تحقيق الأهداف الكلاسيكية، كرفع الناتج المحلّي الإجمالي بسرعة، وفي ظلّ توسّع المخاطر وارتفاعها، وبانتظار تحسّن الإنتاجية، يُوجب الوضع الحالي خفضاً كبيراً في العجز المالي، ويُوجب وضع الدَّين على منحدر تنازلي. من هنا تبرز الحلول الآنية المطلوب تحقيقها فوراً، وهي:
■ حلّ مشكلة الكهرباء عبر إقرار الخطّة الموضوعة ورفع التعرفة، مع استمرار الدعم حصراً للفئات المحدودة الدخل.
■ رفع الإيرادات الضريبية عبر وقف التهريب عبر الحدود وعبر مكافحة التهرّب الضريبي، وخصوصاً عند الشركات والمهن الحرّة.
■ خفض الفوائد على الدَّين العام، وخصوصاً على السندات الحكومية التي يحملها مصرف لبنان، كما على شهدات الإيداع التي يصدرها البنك المركزي.
■ خفض كلفة القطاع العام، عبر وقف كلّ أشكال المنافع والعطاءات والتقديمات، ما عدا الراتب والتأمين الصحّي ونفقات الحماية الاجتماعية. وينبغي أيضاً وقف التوظيف لفترة تمتدُّ سنوات، والعمل جدّياً على إنقاذ صناديق التقاعد من انتفاخها وعجزها حماية للمتقاعدين.
■ فتح باب المنافسة واسعاً أمام الشركات والتجّار والصناعيين والشركات الناشئة، وأخذ الإجراءات الكفيلة بتحرير السوق الداخلي.
جاء وقت الحسم، ولم يعُد ينفع النقاش في أصل المشكلة أو من يجب أن يتحمّل كلفة التصحيح. فالمطلوب مساهمة الجميع ومشاركتهم، كلٌّ على قدر طاقته وإفادته من الوضع القائم. فإذا احتسبنا على سبيل المثال أن الحكومة اللبنانية قد تخلّت عن جميع موظّفيها وعسكرييها وديبلوماسييها وأجرائها، كما عن أداء واجباتها تجاه المتقاعدين، فهل ستكفي هذه الخطوة لخفض الدَّين ووقف العجز؟ حتماً لا! كذلك، إن قرّرت الدولة عدم الإيفاء بديونها، هل ستكفي هذه الخطوة لتحسين الوضع، أم أنها ستساهم بزيادة معدّلات الفقر والإفلاس وضمور الإنتاج؟ حتماً ستزيد من مشاكلنا!
الحلّ يشمل الجميع إذاً، والمدخل هو خفض عجز الخزينة، تمهيداً لخفض العجز في الميزان التجاري وتحريراً لبعض رأس المال ليتوجّه إلى القطاعات الإنتاجية. لقد جاء زمن الخيارات الحاسمة، والوقت ضاق، ضاق كثيراً.

* خبير اقتصادي ومالي