«القلب ينبض من اليسار»أوسكار لافونتين

إن اتفاقيات الشراكة الأورو-متوسطية يجب مقاربتها في سياق العولمة والتجارة الحرّة وحالة الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو، كما من زاوية الحالة التنموية لدول جنوب البحر المتوسط، بالإضافة إلى زاوية الأبعاد المختلفة لأزمة الرأسمالية التي قد تحمل بعض الآثار المُترتبة على أي مناقشة أو تحليل لهذه الاتفاقيات.
في هذا الإطار، هناك ستة تحدّيات للرأسمالية اليوم:
أوّلاً، أزمة في العولمة. لقد تحوّلت العولمة التي اعتقد كثيرون أنها ستفيد الاقتصاديات الرأسمالية المتقدّمة (أو ما يسمّيه البعض الشمال أو الغرب) إلى مصدر تهديد لهذه البلدان، ما دفع بعضها إلى اتجاهات انعزالية. فبرنامج ترامب المُتمثّل في «جعل أميركا عظيمة مرّة أخرى» هو معادٍ للعولمة بشكل أساسي، وألقى بالعولمة نفسها في أزمة عبر تهديده بالحروب التجارية وبالحمائية. وكان السبب الأساسي لردّ الفعل العنيف هذا ضدّ العولمة هو ارتفاع نصيب الاقتصادات النامية في الناتج العالمي خلال مرحلة العولمة من 40 إلى 60 في المئة على حساب الاقتصادات المتقدّمة، كما أن الطبقات المتوسّطة والعاملة في الاقتصادات المتقدّمة تراجعت بينما تلك في الدول النامية مثل الصين تقدّمت.

سيلفانو ميللو ــ البرازيل

ثانياً، أزمة عام 2008 دفعت الرأسمالية إلى أزمة وجودية عميقة، والأزمة لم تكن دورة أعمال تقليدية، بل كانت أزمة عامّة أدّت إلى ما يسمّيه البعض بالركود الطويل الأمد في الولايات المتّحدة. وكان للأزمة أيضاً تداعيات كبيرة في أوروبا، أهمّها التقشّف وأزمة الديون، كالأزمة اليونانية وتبعاتها، وأدّى ذلك أيضاً إلى عدم اليقين السياسي والاقتصادي وعدم الاستقرار في الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو.
ثالثاً، التغيّر التكنولوجي حيث يهدّد صعود العصر الرقمي والذكاء الاصطناعي الاقتصادات المتقدّمة بالبطالة التكنولوجية.
رابعاً، إن ارتفاع منسوب عدم المساواة في الدخل والثروة أعاد الرأسمالية، في بعض جوانبها، إلى ما عُرف بـ«العصر المذهّب» في نهاية القرن التاسع عشر. والجدير بالذكر هنا أن التكنولوجيا والعولمة كانا المساهمين الأساسيين في ارتفاع عدم المساواة في الاقتصادات الرأسمالية المتقدّمة.
خامساً، انهيار العلاقة بين الديموقراطية والرأسمالية. وهذا الانفكاك في العلاقة مشتقّ جزئياً من ارتفاع عدم المساواة. في هذا الإطار، أدّى تدمير النظام الليبرالي التقليدي الذي اتخذ شكل الكينزية ودولة الرفاه في القرن العشرين واستبداله بالليبرالية الجديدة، بدافع تدمير الإشتراكية، إلى إضعاف الديموقراطية نفسها. ويقول بول فولكر، محافظ مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بين عامي 1979 و1987، وهو أحد مهندسي العصر الليبرالي الجديد، إن الرأسمالية الأميركية تتحوّل اليوم إلى بلوتوقراطية.
سادساً، الأزمة البيئية والتغيّر المناخي، حيث التناقضات بين النموّ والتوزيع الرأسماليين، تهدّد بحدوث أزمة أيكولوجية كبرى.

اتفاقيّات الشراكة
إن اتفاقيات الشراكة الأورو ـــ متوسّطية التي بدأت في العام 1995، مرّت بمراحل عديدة، ولا سيّما في أعقاب هجمات أيلول/ سبتمبر 2001 وفي أعقاب الربيع العربي. ولكن بصرف النظر عن الجوانب السياسية والثقافية الأوسع للمشروع الأصلي، فإن الاتفاقيات هي في الأساس اتفاقيات اقتصادية لها جانبان: إلغاء التعريفات الجمركية والحواجز التجارية غير الجمركية. وثانياً، مفاوضات ثنائية نحو مجالات تجارة حرّة عميقة وشاملة.
وهنا يُطرح السؤال: كيف تختلف الاتفاقيات التجارية بين البلدان عن التجارة الحرّة؟ لكن أوّلاً، في التجارة الحرّة يوجد دائماً رابحون وخاسرون، وعادةً ما يكون هؤلاء الرابحون والخاسرون مجموعات مختلفة داخل بلدان مختلفة. ومع ذلك، فإن التجارة الحرّة والعولمة لا مفرّ منهما: فهذا هو منطق التوسّع الرأسمالي على نطاق عالمي، حيث وصفه ماركس وإنجلز في البيان الشيوعي بوضوح.
في سياق الاتفاقيات الأورو ـــ متوسّطية، الأدلّة ليست واسعة، ولكن يبدو أن هناك إجماعاً على أن الاتفاقيات كان لها آثار إيجابية محدودة جدّاً على دول الجنوب من حيث الزيادة في الصادرات إلى الاتحاد الأوروبي أو من خلال استثمارات الاتحاد الأوروبي في دول الجنوب. ومع ذلك، فإن الاتفاقيات في المنطقة التجارية ستمثّل تدريجياً جزءاً لا مفرّ منه من المجال الاقتصادي الأورو ـــ متوسّطي. وأعتقد أن دول الجنوب المتوسّطي ستستفيد من هذه التجارة الحرّة مع أوروبا. فاليوم، طريق التنمية هو التعامل مع الاقتصاد العالمي لا «فكّ الارتباط» الذي رَوجّت له، لفترة طويلة، نظرية التبعية التي تبيَّن عدم صحّتها خلال الثلاثين سنة الماضية من العولمة.
ومع ذلك، فإن الجوانب الأخرى من المشروع المتوسّطي هي التي تثير القلق، وقد تؤدّي في النهاية، أو حالياً، إلى ما ذكره الاقتصادي داني رودريك، في تحليله لاتفاقيات التجارة الحرّة بشكل عام، حيث «بدلاً من كبح جماح الحمائية، تُمكّن الاتفاقيات التجارية مجموعات المصالح الخاصة والشركات ذات العلاقات السياسية مثل البنوك العالمية وشركات الأدوية والشركات المتعدّدة الجنسيات». في هذا الصدد، يقول رودريك، أيضاً، إن هناك أربعة مجالات يمكن أن يكون لها آثار خطيرة على إعادة التوزيع، والتي تفضي إلى «تحويل للريع»، بين البلدان في الاتفاقيات التجارية (في هذه الحالة دول الجنوب المتوسّطي إلى الاتحاد الأوروبي) وهي، اتفاقيات حقوق الملكية الفكرية ذات الصلة بالتجارة (TRIPS) التي يمكن أن تولّد الريوع لاحتكارات الدول المتقدّمة، مثل شركات الأدوية وشركات التكنولوجيا الرقمية العملاقة؛ وتحرير حساب رأس المال، وفرض التحكيم في «تسوية المنازعات بين المستثمرين والدول»، وأخيراً مواءمة الأطر التنظيمية.
بالإضافة إلى ذلك، هناك أدلّة أيضاً على أن اتفاقيات الشراكة تستفيد منها، حالياً، الشركات الساعية إلى الريوع في دول الجنوب. يقول الناشط التونسي وليد حدوق إن «الدعم الأوروبي في المجال الاقتصادي يبدو غير مناسب. على سبيل المثال، عندما يتعلّق الأمر بخطوط الائتمان التي يتمّ توفيرها للمؤسّسات المالية التونسية، فإن الشركات الكبرى تستفيد فقط، ووفق تعبير البنك الدولي، يبدو أن «رأسمالية الأصحاب» التونسية هي المستفيد الرئيسي. في واقع الأمر، إن الوصول إلى سوق الاتحاد الأوروبي ومساعداته المالية يمكن اعتباره فرصة اقتصادية يستحوذ عليها أشخاص مرتبطون جيّداً. ويبدو الأمر كما لو أن الدعم الأوروبي كان شكلًا آخر من أشكال الريع».

الإمبريالية؟
يمكننا هنا أن نرى زيادة الاحتكار وزيادة عدم المساواة في الثروة والدخل في الاقتصادات الرأسمالية المتقدّمة، كمصدر لمثل هذا الضغط لتحويل الاتفاقيات التجارية من مجرّد اتفاقيات حول الوصول إلى الأسواق (والتي ستكون مفيدة للجميع)، إلى اتفاقيات تُحَوّل الريع إلى الاحتكارات وحائزي الأموال الزائدة والثروة.
وفي هذا الصدد، يبدو أن الرأسمالية تدخل مرحلة جديدة من الرأسمالية الاحتكارية إلى جانب ارتفاع الدخل وعدم المساواة والثروة. ووفق مجلّة «إيكونوميست» فإن الأرباح غير الطبيعية في العالم تبلغ نحو 660 مليار دولار.
في هذا الإطار أيضاً، النقاش حول «عدالة» الاتفاقيات التجارية لا يعفي دول جنوب المتوسّط من الحاجة إلى تحويل اقتصاداتها ومواءمتها مع التجارة الحرّة الدولية (كما فعل الصينيون). طبعاً، تختلف الأوقات والمقاييس، ولكن لا يوجد بديل إلّا إذا أرادت هذه الدول البقاء في حالة من التخلّف الاقتصادي. وفي هذا الصدد، أود أن أستشهد بقول ماركس في نقد برنامج غوتة «ان الحقّ لا يمكن أبداً أن يرتفع فوق البنية الاقتصادية للمجتمع». أخيراً، نحتاج إلى تطوير نظرية موحّدة لنوع الإمبريالية التي نواجهها في البحر المتوسّط . هل هي الإمبريالية نفسها قبل 100 عام؟ هناك الكثير من «البساطة» التي تحكم بعض تفكيرنا في ما يتعلّق بهذا الأمر، وأسئلة عديدة يُمكن أن تطرح: هل الإمبريالية الحالية هي استجابة للأزمة الرأسمالية أم لصعود شكل جديد من أشكال الرأسمالية المنظّمة؟ هل الإمبريالية الفائقة مُدرجة على جدول الأعمال؟ أم هي مظهر من مظاهر الاحتكار ورأس المال الزائد، كما كان الأمر عشية الحرب العالمية الأولى؟ أم، ربّما، لم يعد من المفيد في عصر العولمة الحديث عن الإمبريالية؟ أو، وأخيراً ، هل هي مجرّد نزعة الهيمنة لدى الولايات المتّحدة التي تتمظهر في زيادة النزعة العسكرية التي دفعت بها مصالح خاصة سابقاً (المحافظون الجدد) والآن تدفع بها إدارة ترامب الحالية؟

نحو تحالف تقدّمي
حتى لو لم يكن لدينا الجواب الواضح عن هذه الأسئلة، ففي ضوء صعود القومية الاقتصادية اليمينية وتوسّعها العالمي وخطر تصاعد العسكرتاريا الإمبريالية، يجب ألا يكون الردّ بـ«مشاريع قومية» بأي شكل من الأشكال، بل يجب أن يكون الردّ «أممياً». ففي المرّة الأخيرة التي كان الرأسمال في حالة من الحشر، أنتج الفاشية والحرب العالمية الثانية. اليوم، على الرغم من الاختلافات في المقاربات إلى الاشتراكية، هناك حاجة إلى جبهة تقدّمية لمنع العالم من الانزلاق إلى حروب داخلية وخارجية. فهذه الجبهة العالمية هي وحدها القادرة على تحريك العالم إلى الأمام، وبعيداً من النزاعات العالمية والمحلّية.
أمّا في ما يتعلّق بأوروبا والجنوب، فتوفّر الشراكة الأورو ـــ متوسّطية مساحة سياسية واقتصادية بديلة للدول العربية في جنوب المتوسّط، إذ تتيح لهذه البلدان، بدلاً من النظر دائماً إلى الداخل، أن تنظر إلى الخارج. لكن الشروط الضرورية لذلك، هي في اتحاد أوروبي مختلف (وليس هذا الاتحاد الأوروبي)، فهذا الاتحاد الأوروبي هو الاتحاد الأوروبي لنهضة الشعوبية، وأزمة الديموقراطية الاجتماعية، وانعدام الثقة في السياسة والمؤسّسات الاقتصادية. وهو الاتحاد الأوروبي العضو في الترويكا التي خنقت الاقتصاد اليوناني. وهذا الاتحاد الأوروبي الذي لا تزال أكثرية الدول المكوّنة له جزءاً من تحالف الناتو العسكري الذي يجب إلقاؤه جانباً. وبالتالي، فإن البديل اليساري في أوروبا هو الذي سيشكّل مثل هذه المساحة في المستقبل. في غضون ذلك، ينبغي أن تشكّل الأحزاب اليسارية «التحالف من أجل التقدّم في البحر المتوسّط»، للإشارة إلى الشعوب الأوروبية والمتوسّطية بأن هناك بديلاً، وأن المصير المشترك للسلام والتضامن والتنمية المستدامة والاشتراكية الديموقراطية هو الطريق إلى الأمام.

* كلمة ألقيت في المؤتمر المتوسّطي الرابع لأحزاب اليسار المُنعقد في بيروت، 30 آذار 2019.