يقدّم عقد الدولة اللبنانية مع شركة «ماكينزي» المثال الأكثر فجاجة لما تعنيه الشراكة مع القطاع الخاص في ظروف لبنان الحالية. فالدولة التي تلزّم شركة استشارات أجنبية خاصّة مهمّة إعداد «دراسة حول هويّتها الاقتصادية ومستقبلها الاقتصادي» ليست سوى تلك «الدولة الفاشلة» و«الفاسدة»، التي «تهدر ملايين الدولارات على الاستشاريين لقاء تكليفهم وضعَ خطط واستراتيجيات موجودة في الأساس»، وفق تعبير رئيسة صندوق النقد الدولي كريستين لاغارد في منتدى «دافوس» الأخير. تختصر قصّة هذا «العقد» المثيرة، التاريخ الطويل لهيمنة طبقة «أوليغارشية» على عقل الدولة وإدارتها ومشاريعها وإنفاقها العام. فمنذ الاستقلال حتّى اليوم، باستثناء ما سُمّي المرحلة الشهابية (1958-1964)، رُسِّخ نموذج وحيد يقوم على «القليل القليل من الدولة والكثير من مزاعم الليبرالية الاقتصادية» وشعارات «قوّة الدولة في ضعفها». فعلى عكس تجارب دول كثيرة في العالم، لم تُبنَ مؤسّسات الدولة اللبنانية وقوانينها في سياق «مشروع وطني تأسيسي» أو كنتيجة لتطوّر المجتمع وحاجاته أو استجابة لطموحاته، بل جاءت دائماً تعبيراً عن سطوة «أقلّية طبقية»، تستمدّ نفوذها الخارق وامتيازاتها وحصاناتها من مراكمة الثروة والإرث والنَّسَب والقدرة على استخدام العنف الأهلي الطائفي والمتاجرة في سوق الولاءات الخارجية، وبالتالي السيطرة على السلطة السياسية وإدارة الدولة وريوعها والاحتكارات في الاقتصاد.
لقد هدرت الدولة 1.4 مليون دولار على عمل «استشاري» نفّذه موظّفو «ماكينزي» بين كانون الثاني/ يناير وتشرين الأول/ أكتوبر من العام الماضي، بموجب عقد «رضائي» لم يخضع لأي نوع من أنواع الرقابة المُسبقة أو اللاحقة، ولم يخضع لأيٍّ من الأحكام التي تنظّم المناقصات والمشتريات العمومية، بما في ذلك أحكام القانون رقم 48 الصادر عام 2017 تحت عنوان «تنظيم الشراكة بين القطاعين العام والخاص». أي إن الدولة سدَّدت نحو 140 ألف دولار شهرياً لعدد قليل من «الاستشاريين»، على مدى 10 أشهر، لقاء تنفيذ عمل يقع في صلب «الاقتصاد السياسي» ويرتبط ارتباطاً وثيقاً بالصراعات الاجتماعية فيه وحوله، ويتعلّق تحديداً بوضع «خطّة خمسية» تتضمّن الإجراءات الواجب اتخاذها من قِبَل الدولة لدعم قطاعات ونشاطات معيّنة، بهدف «تحفيز نموّ الناتج المحلّي الإجمالي وخلق فرص عمل جديدة»، وفق ما ورد في قرار مجلس الوزراء رقم 66 الصادر في 20/10/2017، الذي أجاز لوزير الاقتصاد والتجارة (آنذاك) رائد خوري إبرام هذا العقد مع الشركة المذكورة.
لا تكمن مشكلة هذا العقد في كلفته فقط، وهي بالمناسبة ارتفعت بقيمة 100 ألف دولار، من مليون و290 ألف دولار، حدّدها مجلس الوزراء في قراره المذكور، ونصّ عليها العقد المُبرم مع الشركة في 10/1/2018، ووافق عليها ديوان المحاسبة، إلى مليون و390 ألف دولار، من دون توضيح أسباب رفع الكلفة المُتعاقد عليها ولا السند القانوني الذي يجيز للوزير المعني تجاوز قيمة الاعتماد المفتوح لهذه الغاية بموجب المرسوم رقم 1868 الصادر في 29/11/2017 الموقّع من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء ووزير المال إلى جانب وزير الاقتصاد والتجارة، والذي حدّد سقف الاعتماد المفتوح بمبلغ مليار و959 مليوناً و750 ألف ليرة، أي ما يعادل 1.3 مليون دولار فقط لا غير.
وفق آراء الكثير من المراقبين، إن كلفة هذا العقد حتّى بعد رفعها لا تزال دون الأكلاف التي تفرضها شركة «ماكينزي» على هذا النوع من الأعمال، التي اعتادت تنفيذها لزبائنها من الحكومات والشركات الخاصّة الكبرى، وهذا ما أثار الكثير من علامات الاستفهام حول طبيعة العقد الذي نفّذته «ماكينزي» للدولة اللبنانية ومآربه الحقيقية. فموظّفو الشركة العالمية الشهيرة لم يقوموا في النهاية إلّا بما طلبه «زبونهم»، أي منحه «وثيقة» ممهورة بتوقيع هذه الشركة العابرة للقارات، ليستخدمها في الصراع الداخلي وأمام الجهات المانحة للقروض، وفق ما صرّح به الوزير خوري عند توقيع العقد، إذ قال بصراحة إن «الدولة اللبنانية ليس لديها رؤية اقتصادية واضحة يلتزمها الكلّ. فيما المطلوب حالياً أن نتكلّم كلّنا بلغة اقتصادية واحدة، وأن نحدّد الهوية الاقتصادية التي نريدها للبنان». وعزا الاستعانة بشركة أجنبيّة للقيام بمهمّة سياسية، يفترض أن ينجزها «الحوار الاجتماعي» ومؤسّساته وآليّاته، إلى أن «ماكنزي» «جهة محايدة وليست طرفاً سياسياً داخلياً، وتمتلك الخبرات اللازمة لحل الأزمات نتيجة عملها في بلدان شبيهة للبنان، فضلاً عن الصدقية التي قد يكسبها لبنان أمام الجهات المانحة لوجود شركة عالمية مساهمة في وضع خطّته الاقتصاديّة».
المشكلة ليست بالكلفة إذاً، بل في جوهر هذه المهمّة الخطيرة التي كُلِّفَتها «ماكينزي» والنتائج التي ستترتّب عنها، والتي تُعدّ امتداداً لهذا التاريخ الطويل من التفريط بالدولة واستقرار المجتمع وتقدّمه لمصلحة تنظيمات وأشكال وأنماط دون مرتبتها، ومصالح خاصّة تبتعد كثيراً عن أي مفهوم يتصل بـ«المصالح العامّة». فما قدّمته الشركة مجرّد «أفكار وليس خطّة»، وفق ما صرّح به وزير الاقتصاد والتجارة الجديد منصور بطيش، الذي لم يتسلّم «دراسة» نهائية ومُكتملة، بل 1272 شريحة من شرائح العرض على برنامج powerpoint، غير ممهورة بأيّ توقيع وليست مُرفقة بأي دراسات جدوى أو دراسات قطاعية أو نماذج وفرضيات رياضية، ولم يجرِ تسلّمها رسمياً وفق الأصول، وقد نُشرها على موقع وزارة الاقتصاد والتجارة الوزير السابق قبل مغادرته الوزارة، فيما لا تزال بعض الشرائح تحمل إشارات على أنها لا تزال «مسوّدة»، ولا تزال الشركة تتقاعس عن تسليم العمل المُلتزمة إياه بموجب العقد «رسمياً» بحجّة أنها لم تتقاضَ كلّ أتعابها بعد، ولا سيّما الـ100 ألف دولار التي أضيفت إلى الكلفة الأصلية.
في الواقع، لم يطلب «الزبون/ الدولة» من «الشركة/ المستشار» سوى أن تسمح له باستخدام اسمها لتسويق الفكرة الآتية: إن «الخبرة العالمية» تؤكّد أن «الوضع القائم» في لبنان هو «الخيار الوحيد» أمام اللبنانيين، وأن الصراع على الخيارات البديلة المُتاحة لا أساس سياسياً واجتماعياً واقتصادياً له، فما على الحكومة إلّا أن تواصل ما تقوم به دائماً، أي رهن الدولة وسلطتها وسيادتها أكثر فأكثر لمصالح رأس المال المصرفي والتجاري والعقاري، وتحقيق حلم الرأسماليين ببناء نموذج اقتصادي خالص لا يمتّ بصلة إلى فكرة «الشعب» و«الوطن» و«حقوق المواطنة».
بهذا المعنى، يجسّد مثال «ماكينزي» كلّ ما يجب الاعتراض عليه في سياق «البرنامج» المطروح الآن للتقشّف والتوسّع في إبرام عقود الشراكة مع القطاع الخاصّ. فالمطروح بوضوح أن تحلّ الشركات الخاصّة بصورة تامّة محلّ الدولة في توفير البنية التحتية والخدمات الأساسية وتحويل «المنفعة العامّة» أو «المصلحة العامة» إلى مجالات لتوظيف الودائع المُتراكمة في المصارف ومصادر لتحقيق الربح السريع والمضمون والمرتفع، وهو ما ورد في الأسباب الموجبة لقانون «تنظيم الشراكة بين القطاعين العام والخاص» الصادر عام 2017. فحجّة هذا القانون هي «التنظيم». و«التنظيم» يعني بالدرجة الأولى، بمعزل عن الأهداف والمصالح، إيجاد «الإطار القانوني» لفرض ضوابط معيّنة على وضع غير منظّم أو إعادة النظر بضوابط مفروضة على وضع منظّم أصلاً. إلّا أن هذا القانون فعل العكس تماماً، فهو أزال الكثير من الضوابط التي كانت لا تزال مفروضة في الدستور والقوانين السابقة، ولا سيّما تلك التي لم تحترمها السلطة وخالفتها على مدى ربع القرن الماضي، في أوسع وأكبر عملية استباحة للدولة والمال العام شهدها لبنان في تاريخه الحديث.
هذا القانون، كما «ماكينزي» وبرنامج الحكومة المطروح، لا يسعى إلّا إلى «تنظيم الوضع القائم»، أي الوضع البائس نفسه الذي يشكوه الجميع، والذي يحوّل الدولة إلى «تاجر» يبيع الخاضعين لسلطتها، للشركات الخاصّة، بوصفهم مستهلكين مقموعين لا مواطنين أحراراً أصحاب حقوق. فالوقائع والتجارب في التاريخ اللبناني تؤكّد أن إقصاء «الدولة» واستبدال «القطاع الخاص» بها، كان من أبرز الأسباب الكامنة وراء انحدار الدولة اللبنانية إلى الوضع الذي يجعلها مكروهة من الجميع، حيث يُهيمن خطاب واحد يردّد دائماً أنه «لا يوجد بديل» أو «ليس هناك خيار آخر»، إلّا «الدولة البائسة» ومجتمعها البائس.