«الطبقة الوسطى تدفع للدولة. أمّا طبقة الـ1% فهي تربح منها»روبرت رايش

تتراجع الطبقة الوسطى في الدول المتقدّمة وتتقدّم في الدول النامية، كما يُبيّن الرسم البياني، المعروف بـ«الفيل» لتوزيع الدخل العالمي، للاقتصادي الشهير برانكو ميلانوفيتش. العولمة، وخلافاً لما كان يعتقد كثيرون، أدّت إلى تراجع حصّة الطبقة الوسطى في الدول الرأسمالية في أميركا وأوروبا، أي إنها خسرت «المعركة» التجارية والمالية العالمية التي جرت في السنوات الثلاثين الماضية، لصالح الأغنياء وطبقة الـ1% في بلادها، ولصالح الطبقات الوسطى في الدول النامية الصاعدة مثل الهند والصين ودول أميركا اللاتينية.
أمّا في لبنان، من المتعارف عليه، أن هذه الطبقة لم تعد اليوم على حالها التي كانت عليه، إن لم نقل قبل الحرب، بل في أوائل حقبة إعادة الإعمار في التسعينيات. ففي الفترة الأولى بعد الحرب، ازدادت الأجور الفعلية بين عامي 1993 و1996 نتيجة التصحيحات المتتالية على الأجر وانخفاض التضخّم من علياه عام 1992، حين بلغ 120%، وذلك إثر التثبيت النقدي عبر سعر الصرف. في هذه الفترة ازداد الاستهلاك الخاص والعام وتَدَفّق الرأسمال وبدأت بوادر فورة التعليم العالي وتمّ خفض الضرائب على الأجور والأرباح، وبالتالي، بدأت الطبقة الوسطى، التي عاشت عصرها الذهبي في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، تتنفس الصعداء وتُحَضّر نفسها لتصبح هي الطبقة المُرَشّحة للاستحواذ على الحصّة الأكبر من ثمار إعادة الإعمار.

كارلوس ديفيد فوانتس ــ كوبا

لكن ما حصل بعد ذلك كان مفاجئاً. فبدلاً من توسّع حصّة هذه الطبقة وتعزيز مكانتها الاجتماعية، بدأت بالتراجع لصالح تركّز الثروة والدخل في أيدي القلّة. فمنذ عام 1996 تمّ تجميد الأجور لفترة طويلة ودخل الاقتصاد في فخّ الأجور المتدنية، ولم تنمُ القطاعات العالية الإنتاجية، وأصبح نموّ المداخيل المتأتية من الربح والفوائد والريع أعلى بكثير من نموّ المداخيل الناتجة عن العمل، وارتفعت أسعار الأصول العقارية والسكنية طاردة الطبقة المتوسطة من مراكز الثقل الاقتصادي إلى الضواحي. إذاً، أمور وعوامل كثيرة، كانت أساسية في هذا التحوّل الراديكالي بين الآمال والوعود التي أطلقت في بداية مرحلة إعادة الإعمار، وما حصل فعلياً بعد ذلك. لكن هناك ثلاثة أمور إضافية، لعبت، ولا تزال، دوراً في تراجع طبقة اعتُبرت لفترة طويلة اللبنة الأساسية في الاستقرار الاقتصادي والسياسي اللبناني.

التعليم ثمّ التعليم ثمّ ماذا؟
هناك نوع من الإجماع في لبنان (وفي غيره) على أن الحلّ لأي معضلة اقتصادية تتعلّق بالدخل والنموّ والعمالة، ومفتاح الانتماء للطبقة الوسطى، هو بالمزيد من التعلّم، إذ إن التعليم من المفترض أن يؤدّي بشكل تلقائي إلى ازدياد الدخل، وأن يشكّل الرافعة الأساسية للترقّي الاجتماعي.
بعد الحرب، أخذ كثيرون هذا الأمر على محمل الجدّ، وبدأوا بالتعلّم أكثر وازداد الإنفاق الخاص على التعليم العالي عبر استهلاك الأصول أو عبر شدّ الأحزمة أو الاستدانة. بالطبع، قد يبدو هذا الأمر وهذه العلاقة بديهية، ولكن ككلّ البديهيات في الاقتصاد، الأمور أعقد من ذلك: فالعلاقة بين التعليم والترقّي الاجتماعي قد تقوى وتضعف وفق الظرف الاقتصادي، والأمر غير منعزل عن الاقتصاد وتطوّره.
في لبنان بعد الحرب، أي في نفس الوقت الذي ازدادت فيها الرغبة في التعلّم، حصل أمران كان لهما وقع في زعزعة هذه العلاقة وانخفاض «العائد على التعليم». أوّلاً، لم يلحق الاقتصاد بالتعليم. بحيث لم يتطوّر الاقتصاد اللبناني بما يؤدّي إلى زيادة الطلب على العمالة الماهرة التي تنتجها الجامعات، ولم ينمُ الاستحواذ على التكنولوجيا من قِبَل القطاعين العام والخاص، ولم تُبنَ صناعة تصديرية ولا تكنولوجية عالية. وبالتالي، فإن «التغيير التكنولوجي المُحابي للمهارات» أو (skill- baised technological change) لم يحدث في لبنان، علماً أنه أدّى، في الولايات المتحدة مثلاً، إلى تزايد الهوّة في المداخيل بين العمالة الماهرة المُتخرّجة من الجامعات وأنواع العمالة الأخرى في السنوات الثلاثين الماضية. في لبنان، كان الملاذ شبه الوحيد لهذه العمالة الماهرة هو التصدير إلى الخليج وأوروبا والولايات المتّحدة. ثانياً، انحطاط (degeneration) التعليم العالي، والفضائح الأخيرة ليست إلّا الشكل الفاقع لهذا الانحطاط الذي، على الرغم من فداحته وبشاعته، ليس الأكثر خطورة. لأن الخطورة الأكبر تكمن في ظاهرة تضخّم الشهادات الجامعية، التي تؤدّي إلى تراجع القيمة الاقتصادية للتعليم العالي. ما حصل في لبنان بعد الحرب هو نوع من «تعليمية من جانب العرض»، إذ تكاثرت جامعات خاصّة تتوخّى الربح من أجل تلبية الرغبة المتزايدة في التعلّم، لكن في ظلّ اقتصاد ريعي متدنّي الإنتاجية. وهكذا، خُلقت حلقة مُفرغة من المزيد من التعلّم وانخفاض قيمة التعليم وتدنّي العائد عليه، وبالتالي انتهاء دور الشهادة الجامعية كتذكرة دخول إلى نادي الطبقة الوسطى، أو الطبقة الوسطى العليا على الأقل.

زحف «الضريبة الخفيّة»
النظام الضريبي في لبنان منحاز ضدّ الطبقة المتوسطة. هذا الأمر معروف، إذ إن الإصلاحات الضريبية عام 1993 جعلت المداخيل العالية الناتجة عن العمل، تدفع معدّل ضريبة أعلى من الدخل على الريع والثروة العالية، كما أن الضريبة على القيمة المضافة منذ عام 2002 يقع عبئها الأساسي على الطبقات المتوسّطة والعاملة أكثر منه على الأغنياء أو على الفقراء. لكن هناك أمر آخر يحدث أوتوماتيكياً، ولا يُعار أيّة أهمّية، ألا وهو زحف الشطور، أو ما يعرف بـ«الضريبة الخفية» (stealth tax). فالشطور الحالية الموضوعة على الأجور تمّ تحديدها في إصلاح عام 1999، وهي، بنسبة 20%، مثلاً، على شطر الأجر الأعلى من 120 مليون ليرة. وتخضع الشطور الأدنى لمعدّلات أقل. بغض النظر عن بنية الشطور، ومع عدم تغييرها، فإن التضخّم الحاصل من عام 1999 وحتّى الآن، وإذا افترضنا أنه ترافق مع تعديل الأجر بشكل يوازي أو حتّى يقل عن هذا التضخّم، فإن الموظف الذي كان يدفع مثلاً 5% كمعدّل ضريبي على كامل أجره، قد يدفع 10% أو أكثر، أي إنه يدفع معدّلاً ضريبياً أعلى في حين لم يرتفع دخله الحقيقي بعد احتساب التضخّم.
في الوقت نفسه، هذا الزحف لا يحصل مع الضرائب المُسطّحة مثل الضريبة على الفوائد والضريبة على شركات الأموال مثل المصارف. إذاً، على الرغم من أهمّيته، لم تعره السلطات المالية المُتعاقبة أي أهمّية (في ألمانيا، مثلاً، الحكومة مُجبرة على الإدلاء بشهادة حول هذا الأمر للبرلمان كلّ سنتين)، وبدلاً من ربط الشطور بالتضخّم، بقيت الشطور كما هي لمدّة 20 عاماً، ما أدّى فعلياً إلى رفع معدّلات الضرائب على المداخيل المتأتية من العمل أو من الأرباح على الشركات الفردية، بينما بقي العبء الضريبي على المداخيل التي تخضع للضريبة المُسطّحة من دون تغيير. وهكذا، وحتّى من دون سياسة واضحة، ولربّما بسبب الإهمال الدولتي، تخسر الطبقة الوسطى بشكل متوالٍ من مردودها الاقتصادي!

الطائفة أم الطبقة؟
إن نظام المحاصصة المذهبية منحاز ضدّ الطبقة الوسطى وضدّ الطبقة العاملة. إذا عدنا إلى تاريخ الدول الرأسمالية المتقدّمة، فإن صعود الطبقات العاملة والمتوسّطة في هذه الدول لم يكن صدفة، ولم يكن أيضاً بسبب الأسواق الحرّة بل بسبب كون «الطبقة» هي أساس الاقتصاد السياسي، وقد أدّى ذلك إلى صعود الأحزاب الديموقراطية الاجتماعية التي بنت عقداً اجتماعياً أدّى إلى احتلال هذه الطبقات موقعها المتقدّم، وإن كان يتراجع حالياً.
أمّا في لبنان، «المذهب»، وليس الطبقة، هو أساس الاقتصاد السياسي، أي أساس العقد الاجتماعي وإعادة التوزيع عبر قنوات الدولة. كما أن البنى الاقتصادية التي أدّت إلى إنتاج طبقة الـ1% من جهة، وبروليتاريا رثّة من جهة أخرى، هي الوجه الآخر لتلازم الأرستقراطية المالية والطائفية في لبنان. وهذا التلازم وإن لم تكن واضحة ميكانيزماته السببية (هل الرأسمال قبل الطوائف أم الطوائف قبل الرأسمال؟)، يجعل علاقتهما شبيهة للقصّة المعروفة التي ذكر ستيفن هوكينغ نسخة منها في كتابه «التاريخ المُقتضب للزمن». القصّة كالتالي «في إحدى المرّات أعطى عالم مشهور (البعض يقول إنه برتراند راسل) محاضرة في علم الفلك شارحاً كيف تدور الأرض حول الشمس وكيف أن الشمس بدورها تدور في فلك مركز المجرّة. في نهاية المحاضرة، قامت امرأة مسنّة في خلف القاعة وقالت له «ما قلته لنا ليس إلّا مجرّد هراء. العالم ليس إلّا طبقاً مسطّحاً يجلس على ظهر سلحفاة ضخمة». عندها، نظر إليها العالم نظرة فوقية مع ابتسامة ازدراء، وقال «وعلى ماذا تجلس السلحفاة الضخمة؟» أجابت المرأة «أنت ذكيّ جدّاً أيها الشاب، ولكنّها كلّها سلاحف إلى الأسفل!». نحن في الوضع نفسه، ربّما لن نجد مَن يدور في فلك مَن: الطوائف أم الرأسمال؟ ولكنها بالتأكيد كلّها «سلاحف» من الأعلى إلى الأسفل وتؤدّي إلى مجتمع طبقي مُنحل.
في القرن التاسع عشر، ولفترة محدّدة ونتيجة للتطوّر الصناعي، تراجع موقع الطبقة العاملة في الدول الرأسمالية الناشئة، ولكن في النصف الثاني من القرن، ازدادت الأجور الفعلية لهذه الطبقة وتحسّن وضعها النسبي. أطلق المؤرِّخ الاقتصادي روبرت آلن على هذا التراجع المؤقّت في وضع الطبقة العاملة، وقفة إنجلز (Engels' pause) نسبة لفريديريك إنجلز الذي كتب عن وضع الطبقة العاملة الصناعية في إنكلترا آنذاك. اليوم يمكننا طرح السؤال التالي: هل نحن اليوم أمام «وقفة إنجلز» للطبقات المتوسّطة والعاملة في لبنان؟ أم أن سيطرة الرأسمال المالي والريعي المتلازمة مع النظام الشمولي الطائفي ستستمرّ، ومع استمرار تلك السيطرة سيطول أمد تراجع هذه الطبقات ومعها الاقتصاد أيضاً؟