وفق التقديرات الأوليّة، بلغ دين الحكومة اللبنانية في نهاية عام 2018 نحو 85 مليار دولار وبلغت قيمة الفوائد المستحقّة التي لم يحِن موعد سدادها بعد نحو 35 مليار دولار، أي أنّ الدين القائم (الأصل والفوائد المستحقّة الدفع لاحقّاً) يبلغ نحو 120 مليار دولار. وقد رتّب هذا الدين المُتراكم مدفوعات فائدة سنويّة بقيمة تجاوزت 5.5 مليار دولار في العام الماضي، أي أن خدمة الدين الحكومي استنزفت وحدها نصف إيرادات الخزينة العامّة، وهذا يعادل كلّ الضرائب والرسوم التي سدّدها المقيمون في لبنان على القيمة المُضافة والرسوم الجمركية ورسوم تسجيل العقارات وفواتير الاتصالات والضرائب على الأجور والمعاملات الإدارية.ووفق السيناريوات المتداولة لارتفاع أسعار الفائدة، فإنّ خدمة الدين العام قد تستنزف كل إيرادات الخزينة العامّة الضريبية وغير الضريبية في غضون 5 سنوات، في حال لم تتخذ الحكومة أيّ إجراءات تغيّر هذا الاتّجاه، وبالتالي ستكون غير قادرة على الاستدانة أكثر ولا الإيفاء بكلّ التزاماتها، بما فيها تسديد الأجور والنفقات الاجتماعية وتشغيل مرافق البنية التحتية والخدمات الأساسية، بالإضافة طبعاً إلى تسديد الفوائد.
في ظلّ حالة كهذه. تصبح الحكومة مُجبرةً على اتّخاذ إجراءات محدّدة، هي بمثابة خيارات سياسية لا تقنيّة: إمّا أن تسمح للتضخّم بالانفلات كي يأكل جزءاً مهمّاً من الدين، وهذا ليس في مصلحة الفئات المختلفة، لا الدائنين والمودعين ولا أصحاب الدخل بالليرة، سواء الأجراء أو العاملين لحسابهم، وبالتالي ليس في مصلحة القوى المُسيطرة على الدولة. وإمّا أن تلجأ إلى التقشّف في الإنفاق العام لإيجاد مساحة مالية كافية لمواصلة تسديد فوائد الدين، أو الخصخصة، أو «قصّ الشعر»، أو شطب الديون أو التوقّف عن السداد.
منذ النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، عندما انفجر الدين العام في لبنان، حافظت الحكومة اللبنانية على خيار وحيد هو اللجوء إلى التقشّف، ولم تحِد عنه على الرغم من آثاره السلبية الماثلة، فهي قلّصت الإنفاق الاستثماري على البنية التحتية والخدمات الأساسية إلى أدنى مستوى ممكن، وعمدت إلى تجميد الأجور بين عامي 1996 و2017. واليوم يجري إعادة إنتاج الخيار نفسه، مطعّماً بالخصخصة أو ما يُعرف باسم الشراكة مع القطاع الخاص، كي لا يكون البديل منه هو تغيير النظام الضريبي وزيادة الإيرادات أو شطب الديون. وهذا ما تدور حوله المسألة المثارة في لبنان اليوم. وكلّ كلام آخر، عمّا يجوز أو لا يجوز، هو في سياق التعمية على المساومات الجارية ومحاولات طمس طبيعة الخيارات المنوي اعتمادها إزاء مديونية لم تعُد قابلة للسيطرة والتحكّم.
فبعد العاصفة التي أثارها التصريح المُرتجل لوزير المال علي حسن خليل عن وجود خطط لإعادة هيكلة الدين العام، أي تخفيض أصله وفوائده، اجتمعت قوى المصالح المهيمنة كلّها لتعيد الأمور إلى نصابها، أو لتعيد تأكيد ما جرى الالتزام به طيلة الفترة الماضية وصولاً إلى اجتماع باريس 4، وهو ضمان أولوية الدائنين وحصانتهم. واضطر وزير المال إلى قراءة بيان مكتوب بعد الاجتماع الشهير في الثالث عشر من هذا الشهر، الذي دعا إليه رئيس الجمهورية كلّاً من رئيس مجلس الوزراء وحاكم مصرف لبنان ورئيس جمعية المصارف بالإضافة إلى وزيري المال والاقتصاد ورئيس لجنة المال والموازنة النيابية. والذي جاء فيه: «إن موضوع إعادة هيكلة الدين العام غير مطروح على الإطلاق، وإن الدولة اللبنانية ملتزمة تاريخياً وحاضراً ومستقبلاً المحافظة على حقوق المودعين والمصارف وحاملي مختلف سندات الدين السيادية، ومتقيّدة بتسديد الاستحقاقات والفوائد في التواريخ المحدّدة من دون أي إجراء آخر (...) وإن المطروح حالياً هو تنفيذ الإصلاحات التي اقترنت بها موازنة 2018 من جهة، ومن جهة أخرى ما التزمت به الدولة اللبنانية في مؤتمر سيدر، ولا سيّما تحقيق الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وضبط الإنفاق العام وترشيده وخفض عجز الموازنة واستطراداً تأمين التوازن المالي، تعزيز وتنويع القطاعات المُنتجة في لبنان».
ماذا يعني هذا البيان؟ يعني ببساطة شديدة أن الحكومة التي تدرك تماماً استحالة بقاء الدين العام عند المستويات القائمة واستحالة خدمته إلى ما لا نهاية، قرّرت أن تواصل المقامرة بحياة الناس ومعيشتهم واقتصادهم، عبر تحييد الدائنين كلّياً ورمي الكلفة كلّها على سائر فئات المجتمع، بل قرّرت أيضاً أن تحوّل هذه الكلفة إلى مصدر ربح إضافي للذين ينعمون أصلاً بفوائد الدين العام.
فبموجب ما يسمّى «التزامات سيدر»، ستعمد الحكومة إلى تخفيض العجز بنسبة 1% من مجمل الناتج المحلّي سنوياً على مدى 5 سنوات، أي بمعنى أكثر وضوحاً تحقيق فائض أولي في الموازنة (النفقات من دون خدمة الدين العام ناقص الإيرادات) بالنسبة نفسها، وذلك لضمان سداد الفوائد السنوية على الدين القديم والجديد عبر اقتطاع المزيد من الإنفاق على كل البنود الأخرى، سواء الرواتب والأجور ومعاشات التقاعد أو الإنفاق الاجتماعي أو الاستثماري أو التحويلات والدعم أو تشغيل الدولة. وأعلن رئيس الحكومة المكلّف أن العمل الأول الذي ستقوم به الحكومة التي يعجز عن تشكيلها منذ 9 أشهر سيكون قصّ دعم الكهرباء بقيمة 600 مليون دولار بدلاً من قصّ سندات الدائنين، وهذا يعني، بمعزل عن أي نقاش لمسألة الكهرباء، نقل المبلغ المذكور من الموازنة العامّة إلى ميزانيات الأسر، وهو بمثابة اقتطاع ضريبي عبر فواتير الكهرباء ستتحمّله الأسر والمنتجون لتجييره إلى الدائنين.
لا يقتصر التقشّف المطروح على إلغاء دعم الكهرباء بل يتمّ طرح سلّة واسعة من الإجراءات التقشّفية تطال كلّ شيء تقريباً ما عدا الدين، الذي ستبقى الدولة اللبنانية ملتزمة به «تاريخياً وحاضراً ومستقبلاً»، وفق ما ورد في البيان المذكور وقبله في وثائق باريس 4. فالدولة تضع بذلك حقوق المودعين والمصارف وحاملي مختلف سندات الدين السيادية فوق حقوق جميع الناس، من أي نوع كانت، سواء حقوقهم بالدعم أو الحماية أو حقوقهم باقتصاد منتج مولّد للدخل وفرص العمل أو حقوقهم بنظام ضريبي عادل يعيد توزيع الثروة والدخل.
يتبع