القارئ العزيز، تأمّل قليلاً فيما يلي: في نهاية عام 2019، وفي ظلّ السيناريو الحالي، أي من دون القيام بأي شيء، من المتوقّع أن يتجاوز توليد الطاقة بواسطة المولّدات الخاصّة الطاقة المُنتجة في مؤسّسة كهرباء لبنان!قد لا يكون وصولنا إلى هذه المرحلة أمراً مفاجئاً نظراً إلى مستوى الخلل في مؤسّساتنا العامة. لكن، في الوقت الراهن، كيف يمكننا تجاوز شلل سياسات قطاع الطاقة؟ وكيف يمكن لمصالح الشعب اللبناني أن تكون لها الأولوية على المشاحنات السياسية؟
قبل الإجابة عن هذه الأسئلة، سأقدّم خلاصة عن واقع الطاقة في لبنان: لقد ساهم قصور قطاع الطاقة بشكل رئيسي في الوصول إلى الحالة الاقتصادية والمالية الضارية للبلاد. منذ عام 1992، بلغ مجمل الإنفاق في قطاع الطاقة، بما في ذلك الدعم، أكثر من 36 مليار دولار، أي نحو 40% من الدين العام في لبنان. على الرغم من هذا الحجم من الإنفاق، لا يزال قطاع الطاقة يتسم بعدم الكفاءة وبتكاليفه العالية وبالفجوة الآخذة في الاتساع بين العرض والطلب والتي تغطيها المولّدات الخاصّة الملوّثة والمُكلفة.

لماذا هناك حاجة إلى حوار وطني؟
نظراً إلى حجم هذه القضايا المطروحة وخطورتها، والأهمّ من ذلك، الأنظمة السياسية والاقتصادية المتداخلة بشدّة، فمن غير المرجّح أن يتمكّن لبنان من حلّ أزمة قطاع الطاقة من دون بذل جهد وطني منسّق. لا يقتضي إصلاح قطاع الطاقة في لبنان إجراء تقويم تحليلي متين وتقديم الحلول التقنية فقط، بل يتطلب أيضاً إنشاء وحدة وطنية حقيقية تتجاوز المكاسب السياسية والطائفية والإقليمية الضيّقة هنا وهناك.
يعدّ الحوار الوطني حول مستقبل الطاقة في لبنان، على المديين القصير والطويل، أمراً حاسماً، لأن:
• التأثيرات التي يتركها واقع الطاقة على الاقتصاد الكلّي تحول دون قدرة البلد على تحمّل مشاحنات سياسية غير مُنتجة ومكلفة، وبالتالي إن حلّ أزمة الطاقة في لبنان يتجاوز حصر الحلّ بوزارة واحدة أو حزب سياسي واحد.
• الطريقة التقليدية في صناعة السياسات في لبنان أثبتت عدم فعاليتها في مجالات عدّة، وبشكل خاصّ في التعامل مع ملف الطاقة. على سبيل المثال، من غير المقبول أن تستغرق عملية توقيع ما يُسمّى «اتفاقية شراء الطاقة» وقتاً أطول من بناء المشروع المُفترض.
• توافر إجماع بين القوى السياسية حول خطّة استراتيجية واضحة المعالم، يقصّر فترات التأخير غير الفنية والمهل الزمنية، وهو ما يؤدّي إلى زيادة تكاليف المشروع.
• من المحتمل أن يساهم في خفض مستوى المخاطر في لبنان وخلق حوافز لرفع الاستثمار، وهو ما يعدّ حاجة ملحّة لتعزيز اقتصاد البلد.
• من المفيد للسكّان، ربّما، أن يروا، لمرّة واحدة، مستوى عالياً من الاهتمام بمسألة تمسّ حياتهم اليومية ورفاهيتهم.

من يجب أن يأخذ المبادرة؟
على رئيس الجمهورية أن يرأس هذه الجهود. في السابق، دعت الرئاسة الأولى إلى إجراء حوارات وطنية حول أكثر القضايا استقطاباً وإثارة للانقسامات في لبنان. من هنا، إن الانقسام الحالي بين الأحزاب السياسية حول التخطيط في قطاع الطاقة وإصلاحه، لا يؤدّي إلى تعميق الانقسام السياسي في البلاد فحسب، بل يستنزف أيضاً ميزانية الدولة، ويزيد المخاطر، ويزعزع استقرار المؤسّسات العامة المهتزّة أصلاً.
لا ينبغي (ولا يجب) لإطلاق حوار وطني حول قطاع الطاقة، أن يتجاوز دور وزير الطاقة أو وزارة الطاقة والموارد المائية، بل من شأنه أن يساعد في تمكين هذه المؤسّسات من العمل بشكل صحيح، في إطار السلطة القوية للأحزاب. فوجود تفويض مماثل سيحسّن بالتأكيد الموقف التفاوضي للوزارة والحكومة عند التعامل مع القطاع الخاص والمصارف الدولية. وحالياً، يوجد في صفوف وزارة الطاقة والموارد المائية العديد من التكنوقراط والموظّفين الأكفاء الذين يمكن الاستفادة منهم لوضع مسودة الخطّة الاستراتيجية المفترض طرحها على طاولة الحوار، وتحديد مفاتيح تنفيذها في المراحل اللاحقة.

ما هي القضايا المفترض طرحها على الطاولة؟
• استراتيجية مزيج الطاقة في لبنان.
• استراتيجية التنفيذ التي تتيح تقديم الخدمات الأفضل بتكاليف الإنتاج الأقل، وتحقيق كفاءة أعلى في القطاع.
• التنسيق المؤسّسي وتسوية النزاعات، وخصوصاً بين وزارات الطاقة والمال والبيئة، والمجلس الأعلى للخصخصة، ومجلس الإنماء والإعمار، ومصرف لبنان.
في النهاية، لا تدّعي هذه القائمة إحاطتها بكل المشكلات التي يواجهها قطاع الطاقة في لبنان. ومع ذلك، إن التوصّل إلى توافق وإجماع حول كيفية التعامل مع مشكلات هذا القطاع سيكون خطوة مهمّة، ومقدّمة لمعالجة التحدّيات الأخرى.

* مدير برنامج سياسة الطاقة والأمن، معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية، الجامعة الأميركية في بيروت