«كنت أعتقد أنه إذا كان التقمّص متاحاً، فإنني أريد العودة إمّا كرئيس أو البابا أو كلاعب بايسبول خارق. لكن الآن أعتقد بأنني قد أرغب بالعودة كسوق السندات. عندها يمكن إخافة الجميع» جيمس كارفيل

في المحاضرة الرئاسية في مؤتمر الجمعية الاقتصادية الأميركية الأخير، اعتبر أوليفيير بلانشارد أن مسألة الدين العام لن تكون بالأهمّية أو الأولوية نفسها التي يعطيها لها الكثيرون حول العالم، إذا ما توفّر الشرط الأساسي بأن يكون معدّل النموّ الاقتصادي أعلى من معدّل الفائدة على الدين العام. إذا حصل ذلك (وهو يحصل باستمرار في الولايات المتّحدة باستثناء فترة الثمانينيات)، عندها لن يعود هناك معضلة في استدانة الدولة بشكل مستمرّ لأن أمرين يتحقّقان: استمرار انخفاض الدين العام إلى الناتج المحلّي، وارتفاع الرفاه الاقتصادي. وهذا ما تحدّثتُ عنه في المقال السابق. ولكن تكمن أهمّية طرح بلانشارد حول الحاجة إلى الكفّ عن التركيز على الدين العام ومفاعيله، بما يعنيه فعلاً، وهو أن الاستمرار بالتركيز على التقشّف وشدّ الأحزمة بذريعة عبء الدين، بدأ يصبح من الماضي أيضاً.
تاريخياً في الولايات المتّحدة، وفي غيرها من البلدان، خضعت العلاقة بين الفوائد والنموّ، ليس فقط لديناميكية لأسواق، وإنّما أيضاً للاقتصاد السياسي وخصوصاً توازن القوى بين الدولة والرأسمال. خلال الحرب العالمية الثانية، طلبت إدارة فرانكلين روزفلت من الاحتياطي الفدرالي أن يثبّت الفائدة على معدّلات متدنّية جدّاً، من أجل أن تستدين الحكومة لتمويل المجهود الحربي بكلفة لا تُرهق الخزينة والدولة. قبل الحرب، وبالتحديد عام 1933، قامت إدارة روزفلت أيضاً بفكّ الدولار عن معيار الذهب ما أدّى إلى انخفاض سعره نسبة إلى أونصة الذهب، وبالتالي إلغاء جزء كبير من الدين الحكومي وفرض خسائر بقيمة 61% على المستثمرين، وهو ما قال عنه سيباستيان إدواردز بأنه التعثّر الأوّل للولايات المتّحدة عن دفع ديونها، والذي لا يتكلّم عنه أحد. هاتان السياستان ثبّتتا، في الولايات المتّحدة، تفوّق الدولة على الرأسمال المالي، ليس خلال ذلك الزمن فقط، بل في كل فترة ما بعد الحرب العالمية وحتى نهاية السبعينيات، حين أتى بول فولكر وافتتح مرحلة الهجمة المضادّة للرأسمال. ولهذا السبب كانت الفائدة أعلى من النموّ في الثمانينيات كما جاء في محاضرة بلانشارد.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

منذ الثمانينيات، قَوِي عصب الرأسمال المالي حول العالم وأصبح هو الحاكم الفعلي في الاقتصاد وحتى في السياسة، حيث خضعت الحكومات والانتخابات لسلطة الأسواق. فإذا كانت الأسواق غير راضية عن حكومة ما، ترتفع الفوائد وتنخفص قيمة سنداتها. ما يعني أن الأسواق تسحب الثقة منها. وهكذا سقطت حكومات وغيّرت حكومات أخرى سياساتها، من إيطاليا إلى اليونان. بهذه الطريقة، أرعبت الأسواق القوى السياسية في أوروبا وغيرها، ودفعتها إلى التخلّي في الكثير من الأحيان عن أيديولوجياتها والتحوّل إلى الوسطية. في هذا الإطار، تأتي مقولة جيمس كارفيل، مسؤول حملة بيل كلينتون الانتخابية عام 1992، إذا كان التقمّص متاحاً فإنه يريد أن يعود كسوق السندات لإخافة الجميع. ومن يخاف من الرأسمال أكثر من لبنان؟

الرأسمال يحدّد الفوائد، أي العائد على نفسه، في لبنان
في لبنان، طبعاً، العلاقة بين الفوائد والنموّ الاقتصادي هي على النقيض تماماً لما هي عليه في الولايات المتّحدة. في السنوات الـ25 الماضية كانت الفائدة أعلى دائماً من النموّ الاقتصادي، ما جعل الدين العام ينفجر إلى 150% من الناتج اليوم. طبعاً هذه العلاقة لا يمكن عكسها بسرعة اليوم أو بقرار يتّخذ الآن. ولكن الأهمّ، أن لا تُترك هذه العلاقة لـ«لعبة الأسواق» في خضم الأزمة (اقرأ تحكّم المصارف)، كما يردّد حتى الغثيان حاكم مصرف لبنان، في كلّ مرّة، من أجل تبرير الفوائد العالية على الدين الحكومي اللبناني، على الرغم من أن الأمور واضحة هنا، إذ ليس هناك من أسواق فعلية للسندات الحكومية ليختبئ خلفها أحد، وبالتالي فإن من يسيطر أو من يمثّل الرأسمال المالي هي المصارف.
في الأسبوعين الماضيين بدا هذا الأمر واضحاً للجميع. فبينما كان الحديث حول التقشّف ورفع الضرائب الاستهلاكية وإعادة النظر في أنظمة التقاعد وعدم دفع الرواتب الجديدة، وحتى خفضها، منتشراً في أجواء بيروت بذريعة خفض عجز الخزينة وتنفيذاً لمقرّرات مؤتمر «سيدر»، قامت وزارة المالية مع المصرف المركزي بأكبر عملية معاكسة لأهداف هذا التقشّف، إذ أدّى الاتفاق بينهما إلى رفع سعر الفائدة تلبية لشروط المصارف بالاكتتاب بها، وكأن رفع الفائدة لن يكون له التأثير السلبي على عجوزات الخزينة ونموّ الدين العام في المستقبل.
عادة في أوضاع مماثلة، تفاوض الدولة ووزارة المالية من أجل خفض سعر الفائدة لا رفعها! طبعاً مصرف لبنان لعب هنا دور الوسيط غير المُحايد، وكأنه يقول لوزارة المالية «إذا أردتِ الاستمرار في الإنفاق على الرواتب وغيرها، عليك أن تدفعي للمصارف أكثر ليشتروا سندات خزينتك». وهنا سيثبت أكثر توازن القوى لصالح الرأسمال على الدولة التي تزرح دائماً تحت تهديد ألا تجد من يشتري سندات الخزينة التي تصدرها.
ملاحظتان هنا: أوّلاً، يجب أن يكون واضحاً أن «لعبة الأسواق» ليست في الأسواق، بل يتحكّم بها مصرف لبنان والمصارف، وهي تفرض على الدولة. وهذا الأمر ليس بالجديد، فأسعار سندات الخزينة كانت تحدّد دائماً خارج الأسواق منذ التسعينيات وحتى اليوم، بـ«مزايدة» بين المصارف يديرها مصرف لبنان. ثانياً، أليس من المفارقة أنه كل ما اجتمع ممثلو الدولة مع ممثلي الرأسمال، تنهزم الدولة؟ فبعد ذلك الاتفاق، وبعد تصريحات وزير المالية بُعيْد صدور تقرير «غولدمان ساكس»، تبيّن للبنانيين في اجتماع قصر بعبدا، كم أن الرأسمال أقوى من الدولة بكثير. وكان واضحاً أن البيان الذي تلاه وزير المالية مكتوب من المصرفيين. إذاً الاقتصاد السياسي في لبنان لا يزال هو هو: دائماً خلال السنوات الـ25 الماضية، وفي أيّ مواجهة بين الدولة والمصارف، كانت الدولة تتراجع. وعندما تتراجع الدولة يكبر الدين العام وتكبر عجوزات الخزينة. وفي ظلّ نظام ضريبي مثل النظام المعمول به لبنان، يراكم الرأسمال المالي الأرباح من هذا الدين العام.

لماذا الضرائب على الثروة والأرباح؟
في الولايات المتّحدة يدور «نقاش» أو بالأحرى محاولة لإسكات أصوات مُطالبة بتعديل النظام الضرائبي، الذي سبق لإدارة ترامب أن عدّله مؤخراً خدمة للأغنياء. فمنذ عقد الكونغرس الجديد، وبعد أن صرّحت النائبة كورتيز التي تمثّل اليسار الجديد في الحزب الديموقراطي، بأن الضرائب يجب أن تُعدّل بحيث يدفع كلّ من يجني أكثر من 10 ملايين دولار سنوياً، معدّل ضريبة على الدخل الإضافي بنسبة 70%، حتى شنّ اليمين الجمهوري هجوماً كاسحاً عليها، مستعملاً كل الأدوات ضدّها ومحاولاً إنهاء النقاش.
برأيي إن طرح كورتيز ليس طرحاً راديكالياً، ولكن هناك طبقة في الولايات المتّحدة (وغيرها) أصبحت معتادة على مكاسبها وطريقة عيشها التي لا علاقه لها بتطوّر الاقتصاد، بل تعكس عودة إلى ما يشبه العصر المذهب في نهاية القرن التاسع عشر، حيث سادت اللامساواة العالية في الدخل والثروة. إن محاولة اليمين الأميركي الدفاع عن مكاسب طبقة الـ1%، كان دائماً له صداه في لبنان، حيث لعبت «الجنة الضريبية» (على المصارف وطبقة الـ1%) دوراً، ليس في تعميق اللامساواة فحسب، بل أيضاً في انفجار عجوزات الخزينة والدين العام منذ التسعينيات وحتى اليوم. هذا التدنّي في معدّلات الضرائب ومع كون الفائدة أعلى من النموّ، يحرّكان نموّ الدين في لبنان، وليس أيّ أمر آخر، لا الفساد ولا الهدر ولا عجز الكهرباء وما إلى هنالك من أمور تُستخدم من أجل التعمية على هذين الأمرين اللذين أتاحا للطبقة الرأسمالية أن تجني وتراكم أرباحها وثرواتها في السنوات الـ25 الماضية. ولهذا تُدافع هذه الطبقة بشراسة عن الفوائد العالية والضرائب المتدنّية!
أتى مؤتمر «سيدر» بسياسات تقشّفية مثل الضرائب على الاستهلاك وتحميل التوظيف والتزاماته في الدولة عبء «الإصلاح والتصحيح»، ولم يأتِ على ذكر الأسباب الأساسية لوصول المالية العامّة والاقتصاد اللبناني وحالة النقد في لبنان إلى الأوضاع المُزرية التي هي عليها اليوم. وبالتالي أصبح المؤتمر يمثّل جزءاً من المشكلة وليس الحل.
لكننا الآن أمام مرحلة جديدة، فكما تحاول الأحزاب الحاكمة والرأسمالية الريعية الاستنجاد بالخارج للدفاع عن حكمها المتخلّف والمتقادم، فإن المعركة حول الضرائب وتوزيع الدخل والثروة وإنهاء التقشّف وإنهاء سيطرة الرأسمال المالي على الديموقراطية، هي أيضاً معركة عالمية تمتدّ من أميركا إلى لبنان. فالشعوب حول العالم لم تعد تعيش مرحلة الانبهار بـ«الأسواق» ووعودها، كما كانوا قبل أزمة 2008 وقبل تبيان مدى عمق تأزّم الرأسمالية. بالتالي لن تنطلي عليهم بعد الآن حجّة أن رفع الضرائب على الثروة والأرباح سيؤذي الاقتصاد. إن الثلاثين سنة الماضية كانت مجرّد أكذوبة كبرى وحملة إيديولوجية انتهت اليوم.
هنا في لبنان، هناك حاجة إلى ملاقاة ذلك. فبينما يستمرّ مصرف لبنان والمصارف والرأسمال المالي بلعب تمثيلية الأسواق بهزالة (charade) آخذين الاقتصاد اللبناني معهم إلى الهاوية، على القوى المتقدّمة في المجتمع أن تنهي حكمها، وتضع الاقتصاد والمجتمع على سكّة الإنقاذ، من أجل التقدّم والتطوّر ومن أجل اللبنانيين الذين سئموا هذه الألعاب إن كانت من داخل الأسواق أو من خارجها.