حتى عام 2010، استطاعت السياسات المُعتمدة بعد الحرب، في ظل توافر عوامل محلّية وخارجية مؤاتية، تأمين التمويل المطلوب لإنفاق الدولة وتمويل الاستيراد والفورات العقارية وتضخيم القطاع المالي. وعلى مدى ربع القرن الماضي، بدا أن التمويل الأوّل شرط للثاني، والعكس صحيح. وبدا أن الطريقة التي تمّ اختيارها في بداية التسعينيات في القرن الماضي، للخروج من الحرب، هي الطريقة الصالحة في كل حين بمعزل عن كلفتها ومخاطرها العالية، حتى ولو أدّت إلى إقامة ثالث أعلى مديونية في العالم، وخامس أعلى مستوى في اللامساواة في توزيع الدخل والثروة، وواحدة من أدنى المراتب في العالم على صعيد جودة البنية التحتية وتنافسية الاقتصاد... ولكن، منذ عام 2011 حصل انقلاب في اتجاه ميزان المدفوعات الخارجية، فبعد أن كان يسجّل فوائض سنوية بلغ رصيدها المتراكم أكثر من 28.6 مليار دولار بين عامي 1991 و2010، بات يسجّل عجوزات سنوية متتالية (ما عدا في عام 2016)، وهي حالة لم يشهدها الاقتصاد اللبناني حتى في سنوات الحرب. ووفق الإحصاءات المتاحة، يقدّر عجز ميزان المدفوعات المتراكم في هذه الفترة (2011-2018) بأكثر من 15 مليار دولار، أي أن الأموال التي خرجت من لبنان في السنوات الثماني الماضية كانت أكبر بهذه القيمة من الأموال الداخلة إليه. وقد استنزفت هذه العجوزات أكثر من نصف الفوائض المحقّقة في السنوات العشرين التي تلت نهاية الحرب، واستنزفت الاحتياطي الصافي بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان، الذي يقدّر أنه بات في حالة عجز (مدين للمصارف) بأكثر من 20 مليار دولار في عام 2018، علماً أنه كان عاجزاً بقيمة 4.7 مليار دولار في عام 2015، وفق تقديرات بعثة تقييم القطاع المالي المشتركة بين البنك وصندوق النقد الدوليين، التي أعدّت تقريراً عن لبنان في عام 2016، وكانت نتائج عملها سبباً من أسباب إطلاق الهندسة المالية الكبرى في محاولة لتعديل الاتجاه من دون جدوى.
تعبّر هذه الوقائع عن فجوة تمويلية تتسع باطراد، وهي غير قابلة للردم في ظل التمسّك بالنموذج الاقتصادي القائم منذ تسعينيات القرن الماضي، فتراكم العجوزات في ميزان المدفوعات يضغط بقوّة على سعر صرف الليرة وأسعار الفائدة وكلفة خدمة المديونية العامة والخاصة، في حين أن الأدوات المستعملة في مواجهة هذا الضغط، سواء الأدوات التقليدية المتمثّلة برفع سعر الفائدة للحدّ من خروج الأموال وجذب المزيد من العملات الصعبة أو الأدوات غير التقليدية المتمثّلة بالهندسات المالية، لا تفعل شيئاً سوى زيادة المخاطر والأكلاف بما يفوق القدرة على التحمّل، وليس لها هدف سوى تأجيل الاستحقاقات وشراء المزيد من الوقت قبل أن يصبح الجميع مضطرين لفعل أمر ما غير اعتيادي، أو غير مرغوب به أو غير «شعبي»، وفق التعبير الدارج، وهذا كان مدار ردود فعل في الأيام القليلة الماضية، عندما أعلن وزير المال علي حسن خليل، أن الوزارة تعدّ خطة للإصلاحات في مالية الدولة وموازنتها تتضمّن إعادة هيكلة الدين العام وجدولته، إلى جانب مجموعة من الإجراءات لإعادة التوازن المالي، ومنها خفض الإنفاق، ولا سيّما المخصّص لدعم الكهرباء، وإشراك القطاع الخاص في استثمار البنية التحتية والخدمات الأساسية، وإجراء تعديلات ضريبية وتحفيزية للاقتصاد وتعزيز الواردات، لا سيّما الرسوم الجمركية.
لقد شهدنا في الأسبوع الماضي كيف تحرّكت قوى المصالح المُهيمنة ودفعت وزير المال إلى التراجع عن طرح إعادة هيكلة الدين، أي تخفيض أصله وفوائده، وإعلان الالتزام التامّ بعدم المسّ بمكاسب الدائنين بأي شكل من الأشكال، فيما بقيت الطروحات الأخرى التي تصيب المجتمع، ولا سيّما فئات الدخل المتوسّط والأدنى، قيد التداول، بل مرحّب بها ومطلوبة من قبل هذه القوى نفسها، كما لو أنها وصفة حتمية ولا بدّ منها.
بمعزل عن الدوافع التي تقف خلف تصريحات وزير المال، وبمعزل عمّا إذا كان جائزاً الخروج بمثل هذه التصريحات علناً قبل وضعها والتوافق عليها وإقرارها في مجلس الوزراء. فما حصل يشي بوضوح بالوجهة التي يتمّ رسمها للتعامل مع أزمة العجز التمويلي، إذ تتركّز الدعوات على تحميل الفئات الاجتماعية الضعيفة كلفة التقشّف في الإنفاق العام بهدف الإبقاء على مساحة مالية كافية لتسديد الفوائد على الدين العام، وتقليص فجوة التمويل مؤقتاً، وبالتالي المحافظة على المصالح المهيمنة أطول وقت ممكن، وهذا يعني قبل كل شيء أن التضحية المطلوبة ليست مقترنة إطلاقاً بما يسميه الخبراء بـ«الاستدامة»، ولا بما يسميه البعض «توزيع الخسائر» بطريقة عادلة، بل هي مطلوبة من أجل إنقاذ الدائنين من سيناريو «قص الشعر»، الذي كان محور التقرير المثير للجدل الذي نشرته مؤسّسة «غولدمان ساكس» في الرابع من هذا الشهر، والذي قام على سيناريو أساسي يعتبر أن التمويل متاح للبنان حتى عام 2021، ولكن في هذه الفترة قد يحصل أمر من اثنين: إمّا أن تعود الودائع للنموّ بما يكفي لتغطية الفجوة المالية وهذا مستبعد، وإما أن تتسارع الأمور نحو سيناريو التوقّف عن السداد. ففي حال عدم القدرة على تحفيز نموّ الودائع والتدفّقات من الخارج، فإنها مسألة وقت قبل أن تتقلّص قدرة مصرف لبنان على الإمساك بثبات سعر صرف الليرة مقابل الدولار.
ولكن مشكلة الدين العام، كما مشكلة سعر صرف الليرة، ليسا سوى نتائج لعمل النموذج الاقتصادي نفسه، فما نشهده منذ عام 2011، أن الأوضاع كلّها تغيّرت ولم يعد ممكناً الحصول على التمويل بالطريقة السابقة، فصادرات لبنان من الخدمات، ولا سيّما السياحة، تتراجع، وكذلك صافي تحويلات المهاجرين (من/إلى لبنان)، كما أن تدفّقات رأس المال عبر العالم تتباطأ، وترتفع أسعار الفائدة في الولايات المتّحدة، وأسعار العقارات في لبنان باتت في ذروتها ولم تعد جاذبة للمضاربين غير المقيمين... وكل ذلك ينعكس ضموراً في نموّ الودائع التي كان يجري من خلالها سدّ فجوة التمويل، كما ينعكس تراجعاً في قدرة الشباب اللبناني على الهجرة والعمل في الخارج.
في اللغة التقنية، لعب الاستهلاك (دائماً)، وليس الإنتاج والعمل، دور المحرّك الرئيس للنموّ الاقتصادي وتداول رأس المال وتراكمه. ولعبت المضاربات العقارية والفوائد السخية وصادرات العمالة الماهرة، وليس رأس المال المُنتج، دور الجاذب للتدفّقات المالية الخارجية. هذا التشخيص لطبيعة النموذج الاقتصادي اللبناني، تتفق عليه كل التقارير والدراسات والآراء وتدعمه الإحصاءات والحسابات القومية، وهو يعني بالدرجة الأولى أن هذا النموذج قام على تركيز الأرباح في الاقتصاد الوهمي لا في الاقتصاد الحقيقي، وأدّى إلى فصل الاقتصاد عموماً عن حاجات المجتمع وتطوّره وتقدّمه، حتى أصبح الاقتصاد اللبناني، كما هو قائم اليوم، لا يحتاج إلى «شعب عامل ومنتج» ليولّد الدخل والأرباح بل يحتاج إلى زبائن ومستهلكين ومدينين وسيّاح ومهاجرين في الاتجاهين وتدفّقات مالية كبيرة من الخارج لتغطية عجز الحساب الجاري (ولا سيّما فاتورة الاستيراد المتعاظمة) وعجز الموازنة العامّة (ولا سيّما خدمة الدين العام التي تستهلك أكثر من نصف إيرادات الموازنة).
أمام هذا المأزق، لن ينفع التقشّف ولن تفيد سمعة لبنان «النظيفة» بالالتزام بسداد ديونه، فالإصلاح الوحيد المجدي هو الذي ينطوي على تغيير النموذج نفسه وطريقة تمويله، عبر إعادة الاعتبار للإنتاج والعمل، وهذا غير ممكن إلّا عبر نظام ضريبي يقوم بتحويل جزء معتبر من الموارد من الريع إلى الإنتاج ومن رأس المال إلى العمل، ويسمح بإعادة توزيع الدخل والثروة بعدالة أكبر.