لم يسجّل عدد اللبنانيين المقيمين في لبنان أي نموّ في السنوات العشر الأخيرة، بل إن عددهم تناقص من نحو 3.617 مليون نسمة في نهاية عام 2007 إلى نحو 3.546 مليون نسمة في العام الماضي. في الفترة نفسها، بلغ رصيد الولادات والوفيات المُسجّلة بين اللبنانيين نحو 633.413 شخصاً، أي أن معدّل النموّ الطبيعي (من دون احتساب الهجرة الخارجية) كان يجب أن يزيد عدد اللبنانيين المقيمين إلى نحو 4.179 مليون نسمة، إلّا أن نحو 718.584 لبنانياً هاجروا من لبنان في هذه الفترة، بمتوسّط 72 ألف مهاجر كلّ سنة، وهو ما لم يعرفه لبنان في تاريخه، حتّى في فترة الاحتراب الأهلي (1975-1990)، إذ لم يتجاوز المتوسّط السنوي للهجرة الخارجية حافة 60 ألف مهاجر. في المقابل، استمرّ التعويض عن هذا النزف الديموغرافي بالهجرة الوافدة إلى لبنان، إذ وصل عدد المقيمين من غير اللبنانيين إلى 1.398 مليون شخص، ما يعني أن عدد المقيمين بصورة قانونية في لبنان يقدّر بنحو 4.944 نسمة، أي أن 28% من مجمل المقيمين هم من غير اللبنانيين، ما يعني أن مقابل كلّ خمسة مقيمين لبنانيين يوجد مقيمين إثنين من غير اللبنانيين، وهذا من دون احتساب أعداد السوريين والفلسطينيين الذين يقيمون خارج المخيّمات أو التجمّعات الخاصّة بهم، بالإضافة إلى العمّال الأجانب من المقيمين بصورة غير قانونية.
الانكسار الديموغرافي للنظام في لبنان

تعطي مجلّة الشؤون الخارجية الأميركية (foreign policy) أهمّية مضاعفة للهجرة في حساب دليلها السنوي عن الدولة الساقطة، الذي تنشره بالتعاون مع صندوق السلام (Fund for Peace)، والذي يصنّف لبنان، منذ عام 2011، على أنه في دائرة «التحذير العالي جدّاً». هذا الدليل قد يكون تبسيطياً، ولكنّه يؤشّر إلى موضوع في غاية الأهمّية، في بلد مثل لبنان. فالهجرة الخارجية تعدّ القضية الاجتماعية الأكثر بروزاً على المستوى المجتمعي في لبنان، لا سيّما أن نحو 30% من المقيمين على أراضيه هم من غير اللبنانيين. وباتت هذه الهجرة مؤشّراً رئيساً على أزمة النظام السياسي وعجز قواه السياسية عن اجتراح الحلول المناسبة، وبشكل غير مسبوق، حتى قبل إعلان دولته (الكبيرة) عام 1920.

منذ أواسط تسعينيات القرن الماضي، تتواصل الهجرة الخارجية المُغادرة، لا سيّما بين الشباب. ومن المفارقات، أن حجمها تعاظم باستمرار بعد عام 1990، أي بعد انتهاء، ما يسمّيها بعض الباحثين، فترة الاحتراب الأهلي (1975 - 1990). لقد استتبّ الأمن، إنما فُقد الأمان، واستفحلت ظاهرة الفساد، ولا سيّما نهب المال العامّ، إلى درجة أن حتى المتورّطين والمشاركين وحماتهم من السياسيين باتوا يستفظعون ما وصلت إليه أحوال البلاد والعباد، في السياسة كما في الاجتماع والاقتصاد.
أظهرت نتائج الدراسة الإحصائية حول «الأحوال المعيشية للأسر في لبنان»، الصادرة عن المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق (نُشرت في كانون الأول/ ديسمبر 2017)، أن نحو ثلث اللبنانيين يعيشون على حافة العوز والفقر، وأن معدّل البطالة وصل إلى حدود 36% عام 2015، وهي السنة المرجع لإجراء هذه الدراسة. يعبّر هذان المؤشّران، الفقر والبطالة، عمّا آلت إليه أحوال الناس على المستويات كافة في الاقتصاد والسياسة والأمن والعمل... فيما تعبّر الأرقام حول الهجرة الخارجية عن تزايد وتيرة هذه الأزمة خلال العقد الأخير (2007 – 2017).
إذا كان التطوّر الاجتماعي، أي تطوّر، يخضع لتأثيرات متبادلة بين مختلف تكوينات البنية الاجتماعية، ففي حالة لبنان، حيث تستفحل الصراعات السياسية على قاعدة تقاسم مغانم السلطة، أصبح المكوّن الديموغرافي أحد العناصر الأساسية في التكوين الأهلي، ولا سيّما بعد اتفاق الطائف، وتزايد التأثير على المكوّنات الأخرى لبنيته الاجتماعية. فلنلاحظ مثلاً، أن تصريحات معظم السياسيين تكاد لا تخلو من الإشارة، بل والتحذير، من مخاطر الهجرة على مستقبل لبنان، ليس على أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية فحسب، وإنما على المستوى السياسي أيضاً، لناحية إعادة إنتاج أدوات السلطة.
لست هنا بمعرض المقاربة التحليلية للهجرة الخارجية، باعتبارها معطى ذا تأثير كبير في ديموغرافية لبنان السياسية، بما تعنيه تلك العلاقة من تأثير متبادل بين المواضيع الديموغرافية ومجموع المسائل ذات الصلة بالدولة. وكنت أفضّل استخدام مصطلح التهجير الخارجي، لما يتضمّنه هذا المفهوم من توصيف أكثر تعبيراً عمّا تحمله هذه الظاهرة من مضامين قسريّة تتعلّق بواقع الحال ودوافع غالبية الناس للهجرة، سواء من حيث الاعتبارات الشخصية التي شجّعتهم على ذلك، أو من حيث السبب الرئيسي الذي يرتفع منسوب تأثيره والمتمثّل بأزمة النظام السياسي المتفاقمة غداة اتفاق الطائف وسقوط آمال بناء دولة المؤسّسات، بيد أن ذلك أمر يخرج عن هدفنا الراهن. جلّ ما أريد تبيانه هو أن ما وصل إليه حجم الهجرة الخارجية بين اللبنانيين خلال السنوات العشر الأخيرة يُنذر بأزمة عميقة في النظام.
تُعتبر هجرة اللبنانيين تاريخياً منَ العناصر الأساسية في تحديد مستوى معدّلات النمو الديموغرافي (ولادات ووفيات وهجرة) ومصدر دعم للاقتصاد الوطني، إلا أن تأثيرها الحالي بات يضغط باتجاه تراجع عدد المقيمين اللبنانيين إلى أقلّ ما كان عليه عام 2007، في حين ترتفع نسبة المقيمين من غير أبنائه إلى مستوى لم يعرفه أي بلد آخر.
خلافاً لما كان متوقّعاً بعد اتفاق الطائف، فقد تزايد عدد المهاجرين باطراد خلال العقدين الأخيرين، وشكّل ذلك، إلى جانب خصائص المهاجرين الاجتماعية، عنصراً مُستجدّاً على هذه الظاهرة التاريخية، إذ أن جزءاً هامّاً من أكثر عناصر المجتمع اللبناني كفاءة، علمية ومهنية، وخصوصاً من الشباب، يغادرون الوطن، لا على قاعدة العرض والطلب في السوقين الإقليمية والدولية فقط، وليس تطلّعاً إلى تحسين أحوالهم الاقتصادية أو أحوال عوائلهم، كما درجت عليه عادة التفسيرات الاجتماعية -الجغرافية في محاولاتها الرامية إلى فهم هذه الظاهرة، وإنّما أيضاً اعتراضاً على ما وصلت إليه الأوضاع السياسية والاجتماعية من تراجع وتدنٍّ، سواء في الممارسة أو في الخطاب أو في العلاقات، وهذا لم يكن غالباً في السابق، فقد باتت الهجرة حلماً يراود غالبية الشباب، ووصلت نسبة المهاجرين بعمر 20-40 سنة إلى نحو 69% من مجموع المهاجرين اللبنانيين (1992-2007 د. كاسباريان)، ما أدّى إلى فقدان المجتمع اللبناني جزءاً متزايداً من قواه العاملة الموصوفة ومن نخبه الشبابية الفاعلة، وبات مجتمعاً ينعدم فيه النموّ الديموغرافي بعد عام 2007.


تغييب المعرفة العلميّة
إنّ الأرقام الدقيقة والصحيحة حول الوقائع الديموغرافية كافة يتعذّر الحصول عليها عن طريق آخر غير التعداد السكاني، والذي حصل في لبنان لمرّة واحدة يتيمة عام 1932، وتمّ استبعاد إجرائه لاحقاً بحجّة الحفاظ على صيغة العيش المشترك، والتي بقيت شعاراً ولم تتحوّل إلى فعل سياسي نحو المواطنية. وهكذا تمّ تغييب المعرفة العلمية الدقيقة للأوضاع الديموغرافية، لما توفّره من معلومات صلبة للمحاسبة والمساءلة والتطوير وأسس صلبة لبناء دولة المؤسّسات وبناء أسس تلك الصيغة. وفي نهاية المطاف، تشكّل نظام سياسي زبائني، من أبرز تجلّياته الديموغرافية، هجرة متزايدة بين اللبنانيين، نحو الخارج أو في الداخل، على حدّ سواء، على شكل نزوح باتجاه بيروت وضواحيها التي يتزاحم للسكن فيهما حوالى نصف سكان لبنان.


معدّل الهجرة في العقد الماضي أعلى من فترة الحرب: 72 ألف لبناني مهاجر كل عام

يعاني التوصيف العددي لواقع الهجرة في لبنان من التناقض والاضطراب، في الماضي كما في الحاضر، وغالباً ما تكون أرقام الهجرة عبارة عن تقديرات لباحثين جامعيين من اختصاصات مختلفة، ومن دون مراعاة أصول الإشارة إلى المصادر المُستقاة منها المعطيات الإحصائية أو طرق التقدير المتّبعة أو حتّى الاثنين معاً. لذلك، سنستعين في تقديرنا لحجم الهجرة الخارجية بمصدرين، نقدّر أن بياناتهما الإحصائية الديموغرافية هي الأكثر وثوقاً والأقلّ تحيّزاً، وهما دراستا الباحثة الدكتورة شوغيك كسباريان، اللتان استندتا إلى نتائج مسح بالعيّنة أجرتهما الجامعة اليسوعية في عامي 2002 و2007 («هجرة الشباب اللبناني ومشاريعهم المستقبلية، الجامعة اليسوعية، 2008»)، وتناولتا، بالإضافة إلى مواضيع عدّة، موضوع هجرة اللبنانيين نحو الخارج خلال الفترتين 1975-1992 و1992-2007، والبيانات الإحصائية الصادرة عن إدارة الإحصاء المركزي.

تجدر الإشارة إلى أن العاملين في الشأن الديموغرافي، من ديموغرافيين واجتماعيين وغيرهم، يُجمعون على عدم وجود نقصٍ في تسجيل واقعات الأحوال الشخصية في لبنان (ولادات ووفيات وزواج، إلخ...)، ولا سيّما بعد عام 2012، حينما أصبح يتمّ التمييز أثناء تسجيلها بين من هو لبناني وغير لبناني، وسنفترض أن التناسب بينهما ينسحب أيضاً على الفترة السابقة في حسابنا لوقائع الولادات والوفيات خلالها (2008 – 2012).
أجريت تقديرات عدّة حول أعداد المهاجرين اللبنانيين بعد عام 1975، تقاطعت بغالبيتها عند رقم 900 ألف مهاجر خلال السنوات المُمتدة بين عامي 1975 و1990، في حين أن هذا الرقم، ووفق نتائج دراسة بالعيّنة أجراها الدكتور أنيس أبي فرح (السكان والبطالة والهجرة في لبنان، 1982-2001، منشورات الجامعة اللبنانية، 2005)، تراجع إلى 729 ألف مهاجر للفترة المُمتدة بين عامي 1975 و1994، واستمرّ بالتراجع بين عامي 1992 و2007 إلى 600 ألف مهاجر وفق د. كسباريان، وهو رقم نقدّر أنه دون الحجم الفعلي للمهاجرين، بسبب طريقة استيفاء المعلومات عن الشخص الذي يعيش في المهجر، والتي كانت تتمّ عبر أحد أفراد أسرته أو أقاربه المقيمين في لبنان، فيما سقط من اللائحة من ليس له أقارب معروفون، وهو ما أشارت إليه الباحثة.
إذا كانت هذه هي تقديرات أعداد المهاجرين خلال خمسة عشر عاماً تلت الحرب، فما هي أعدادهم خلال السنوات العشر الأخيرة (2008-2017)؟
إن الأرقام التي توصّلنا إليها بنتيجة التدقيق الرقمي والعودة إلى المصادر الرسمية، تشكّل أساساً لتقدير أكثر دقّة لحجم الهجرة في الفترة ما بين عامي 2008 و2017. وقد عمدنا إلى إقامة تقاطعات بين عناصر النموّ الديموغرافي (ولادات ووفيات وهجرة) خلال هذه الفترة، ونتائج المسحَين الإحصائيين بالعيّنة عامي 2007 و2012، اللذين أجرتهما إدارة الإحصاء المركزي حول الأحوال المعيشية للأسر في لبنان. وتبيّن لنا، أن الحساب الصافي بين القادمين والمغادرين من اللبنانيين، يتيح إمكانية فعلية لتقدير حجم المهاجرين اللبنانيين خلال العقد الأخير. وتنطلق حساباتنا من فرضية أن مقارنة عدد المقيمين اللبنانيين المبيّنة في المسحَين، مع الزيادة الطبيعية المتوقّعة من الفرق بين مجاميع الولادات والوفيات، خلال فترة السنوات الخمس الفاصلة بين نتائجهما، تؤدّي إلى معرفة الحجم الصافي بين حركَتي الوافدين والمغادرين من اللبنانيين.
تراجع عدد السكان اللبنانيين من 3.616.525 عام 2007 إلى 3.433.286 مقيماً عام 2012، أي بتناقص 186.239 نسمة. وإذا أضيف إلى هذا الرقم الأخير حاصل رصيد الولادات والوفيات خلال الفترة نفسها (2008– 2012)، والبالغ 310.786 شخصاً (الشكل 1)، لتدنّي عدد السكان بحدود 497.007 نسمة، وهو رقم يختلف مع نتيجة الحساب الصافي بين أعداد القادمين والمغادرين اللبنانيين والبالغ 564.736 مهاجراً، خلال الفترة نفسها (الشكل 2)، ولكن نسبة الاختلاف لا تتجاوز 2% من مجموع السكّان عام 2012، وهي نسبة قليلة قياساً إلى ما تحتمله نتائج المسوحات بالعيّنة من أخطاء بالتقدير بنسبة لا تقل عن 5%. إن هذا الهامش المقبول يعزّز من التيقّن القوي الذي يحيط بتقدير حجم الهجرة الخارجية بين اللبنانين، من خلال بيانات الإحصاء المركزي، والتي يتمّ بناؤها بالاستناد إلى أرقام المديرية العامّة للأمن العام.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

في هذا السياق، يتبيّن أن عدد المهاجرين اللبنانيين تراجع في الحقبة الزمنية التالية (2013-2017) إلى نحو 209.532 مهاجراً، وقد يعود ذلك إلى درجة الإشباع في سوق العمل الخليجية نتيجة الانخفاض الحادّ بأسعار النفط منذ عام 2014، أضف إلى ذلك ما تكون قد تركته الحرب في سوريا واليمن من مفاعيل مالية سلبية على دول الخليج. وما تركه هذا التراجع، وما سيتركه أيضاً، من آثار سلبية على الأوضاع المعيشية والاقتصادية للأسر. وقد تمّ التعبير عنها بمعدّل البطالة لعام 2015 (36%)، بينما سجّل رصيد الولادات والوفيات نحو 322.627 شخصاً، ما أدّى إلى زيادة سكانية قدرها 113.095 نسمة، وهكذا يكون عدد المقيمين اللبنانيين وصل إلى نحو 3.546 مليون نسمة في بداية عام 2018، بينما لم يتجاوز 3.617 مليوناً عام 2007. أمّا الترجمة الفعلية فهي معدّلات نموّ تلامس حدود الصفر خلال السنوات العشر الأخيرة.
عموماً، يتبيّن أن حجم الهجره الخارجية بين اللبنانيين وصل إلى 718.584 مهاجراً خلال العقد الأخير (2008-2017)، أي بمتوسّط سنوي وصل إلى نحو 72 ألفاً، وهو ما لم يعرفه لبنان في تاريخه، إذ لم يتجاوز المتوسّط السنوي حافة 60 ألفاً خلال فترة الاحتراب الأهلي (1975-1990) ونحو 40 ألفاً خلال فترة 1992-2007.
وصل عدد المقيمين من غير اللبنانيين في بداية عام 2018، إلى 1.398 مليون شخص، أي ما يشكّل نحو 39% من المقيمين اللبنانيين، و28% من مجموع المقيمين كافة (الشكل - 3)، وذلك وفق البيانات الرسمية، غير الفعلية، التي تُغفل أعداد السوريين والفلسطينيين الذين يقيمون خارج المخيّمات أو التجمّعات الخاصّة بهم، بالإضافة إلى العمّال الأجانب من المقيمين بصورة غير شرعية.

* أكاديمي وباحث ديموغرافي