يعبّر الحساب الجاري عن مجمل التبادلات المالية من خدمات وبضائع وهبات ودخل، ويُعَدّ من المؤشّرات المهمّة التي تدلّ على وضعيّة النمط الاقتصادي السائد في بلد ما. في لبنان، توسّع عجز هذا الحساب في السنوات الأخيرة ليشكّل رافداً من روافد الأزمة المالية القائمة، ويركّز الكثير من التحليلات الاقتصاديّة على العوامل المحلّية والداخلية المؤدّية إلى عجز هذا الحساب. إلّا أن الأرقام توضح أن توسّع عجوزات الحساب الجاري في الدول النامية في السنوات الأخيرة بات إتجاهاً عاماً بسبب تحوّلات عالمية في حركة رؤوس الأموال التي كشفت عن مكامن خلل بنيوية قائمة أساساً في هذه الدول.
عام 2006، ووفق أرقام البنك الدولي، كان مجموع الحساب الجاري في الدول النامية يسجّل فائضاً تبلغ نسبته 4.8% من ناتجها المحلّي. في المقابل، كان مجموع الحساب الجاري في الدول المتقدّمة يسجّل عجزاً نسبته 1.2% من ناتجها المحلّي. ومنذ ذلك الوقت، سار مجموع الحساب الجاري بالنسبة إلى الدول المتقدّمة في مسار تصاعدي، ليسجّل السنة الماضية فائضاً متوقّعاً تبلغ نسبته 0.7% من ناتجها المحلّي، في مقابل تلاشي الفائض الذي كانت تحقّقه الدول النامية في مجموع حساباتها الجارية. واليوم، أصبح توسّع هذا العجز أحد العوامل الضاغطة في معظم الدول النامية، وتحوّل إلى أحد أبرز مسبّبات العجز في ميزان مدفوعاتها، وهو ما بدأ يظهر على شكل أزمات ضاغطة على سعر صرف عملات هذه الدول واستقرار أنظمتها المالية.

عملياً، أدّت عولمة الأسواق ودولرتها إلى انكشاف أسواق الدول النامية بشكل كبير على تحوّلات الأسواق المالية العالمية واتجاهات الفائدة فيها. ومع استعادة الاقتصاد الأميركي عافيته ومباشرة الاحتياطي الفيدرالي برفع معدّلات الفائدة لضبط التضخّم، بدأ أثر هذه التحوّلات بالظهور على اقتصادات الدول النامية على شكل حركة عكسية لرؤوس الأموال، وارتفاع في كلفة التمويل والاقتراض، وتراجع في حجم الاستثمارات الأجنبية وانحسار في تدفّق رؤوس الأموال باتجاه هذه الدول. وقد وجدت هذه التداعيات طريقها للتأثير بعجز الحساب الجاري في هذه الدول، مع تراجع الاستثمارات والتمويل في اقتصاداتها. وبالإضافة إلى تراجع الحساب الجاري، أدّى هذا الأمر إلى ارتفاع في كلفة التمويل للديون السيادية في هذه الدول، بفعل تناقص السيولة بالعملات الأجنبيّة محلّياً وارتفاع الفوائد على المستوى العالمي.


إن النتيجة الطبيعية لهذا السياق كانت بتراجع أسعار صرف عملات دول عدّة بنسبة قاسية، حيث بلغ مستوى تراجع قيمة بعض العملات في شهر أيلول/ سبتمبر الماضي مقارنة ببداية السنة نحو 107% للبيزو الأرجنتيني، و61% لليرة التركية، و22% للريال البرازيلي. وبمستوى أقل، تراجع الراند الجنوب أفريقي في تلك الفترة بنحو 15%، والروبيه الهندي 14%، والروبل الروسي 14%، والروبي الباكستاني 13%. وتوازى تراجع أسعار صرف العملات مع تبعات اقتصادية كبيرة كما حدث في الحالة التركية، حيث ينكشف القطاع الخاص التركي على قروض مسعّرة بالعملات الأجنبية تجاوزت قيمتها خلال السنة الماضية 214 مليار دولار، وقد ارتفعت قيمتها بالعملة المحلّية بنسبة تدنّي سعر صرف الليرة التركية.
في كلّ من الأزمات التي عصفت بالدول النامية كنتيجة لتحوّلات حركة رؤوس الأموال عالمياً، كان يجري التركيز كثيراً على العوامل الواضحة داخلياً، تماماً كما رُبطَت الأزمة في لبنان بالظروف المحلية والاقليمية الموجودة. لكن الأكيد اليوم أن هناك عوامل أوسع تتعلّق بموقع هذه الدول في بنية الإنتاج وطريقة تأثّرها بمتغيّرات الأسواق المالية على المستوى العالمي، وهو ما يكشف وجود خلل بنيوي كشفت عنه التحوّلات في حركة رؤوس الأموال التي يشهدها العالم.