طغت الأخبار السيّئة على اتجاهات الاقتصاد اللبناني في عام 2018، ولا سيّما مع تسجيل المزيد من التراجع في المؤشّرات الرئيسة التي تطاول محرّكات النموّ الاقتصادي في الحالة اللبنانية ومصادر تمويل النموذج القائم. فقد ازداد عجز ميزان المدفوعات، وازداد عجز الموازنة العامّة، كذلك ازداد العجز التجاري، وتراجعت البيوعات العقارية، ولم تنمُ الودائع فعلياً، فيما ارتفعت الأسعار بنسبة تفوق الـ5%، وارتفعت كلفة الاقتراض العامّ والخاصّ. في ما يأتي 7 مؤشّرات رئيسة تلخّص نتائج العام الماضي، وتشير إلى اتجاهات الأزمة في العام الطالع
-1 العجز الأكبر في ميزان المدفوعات

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

سجّل ميزان المدفوعات عجزاً قياسياً خلال الأشهر العشرة الأولى من عام 2018، بأكثر من 5 مرّات من العجز المُسجّل في الفترة نفسها من عام 2017، إذ بلغت قيمته نحو 5.74 مليارات دولار أميركي، مقارنةً بعجز بقيمة 1.07 مليار دولار خلال الفترة نفسها من العام الماضي، وذلك وفقاً لبيانات مصرف لبنان. وهذه القيمة من العجز في ميزان المدفوعات هي أعلى بنحو 3.47 مليارات دولار من القيمة التي أعلنها مصرف لبنان (-2.27 مليار دولار)، وفق المنهجية الحسابية المُعدّلة التي يعتمدها منذ تشرين الثاني/ نوفمبر 2017 والتي أدرج فيها محفظته من سندات دين الحكومة اللبنانية بالعملات الأجنبية (يوروبوندز) خلافاً للمنهجية السابقة والمُعتمدة في معظم البلدان ومن قبل المؤسّسات المالية الدولية.
يعدّ هذا المؤشر الأكثر تعبيراً عن الأزمة التي يواجهها لبنان حالياً، إذ إن العجز في ميزان المدفوعات يعني ببساطة أن الأموال التي تخرج من لبنان أكثر من الأموال التي تدخل إليه، ما يؤدّي إلى استنزاف الاحتياطات بالعملات الأجنبية وزيادة الضغط على سعر صرف الليرة. ومن الواضح أن محاولات مصرف لبنان لتغيير المنهجيات الحسابية المُعتمدة عالمياً وتنفيذ هندسات مالية مُكلفة، لم تنجح في قلب الاتجاه التصاعدي لعجز ميزان المدفوعات، إذ تبيّن الإحصاءات أن هذا المستوى القياسي لم يشهده لبنان سابقاً، حتى في سنوات الحرب الأهلية، ولم يحصل في تاريخ لبنان منذ الاستقلال أن سجّل ميزان الدفوعات عجوزات لسنوات عدّة متتالية، مثلما يحصل الآن منذ عام 2011. وتقدّر قيمة عجز ميزان المدفوعات التراكمية في السنوات الثماني الماضية بنحو 15.8 مليار دولار، وهو ما يعني أن الأموال التي خرجت من لبنان بين عام 2011 وتشرين الأول/ أكتوبر 2018 أعلى بهذه القيمة من الأموال التي دخلت إليه، وهو ما يعني أيضاً أن 80% من الفوائض المُحقّقة بين عامي 2006 و2010 قد استنزفت.

-2 العجز التجاري يكبر ويكبر

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

بلغ العجز في الميزان التجاري خلال الأشهر العشرة الأولى من عام 2018 نحو 14.4 مليار دولار، بزيادة 3.6% عن العجز المُسجّل خلال الفترة نفسها من العام الماضي، إذ بلغ نحو 13.9 مليار دولار، وذلك وفقاً للإحصاءات الصادرة عن الجمارك اللبنانية. ويعبّر العجز في الميزان التجاري عن إحدى سمات الأزمة البنيوية في الاقتصاد اللبناني والنموّ القائم على محرّك الاستهلاك، الذي يشكّل مصدر عجز متواصل وبنيوي بسبب الفارق الكبير بين حجم الاستيراد والتصدير، والذي بلغ أكثر من 6.5 مرّة خلال الأشهر العشرة الأولى من عام 2018.
في الواقع، تستحوذ المنتجات المعدنية، وتحديداً الوقود ومشتقّاته، على الحصّة الأكبر من فاتورة الاستيراد، إذ شكّلت نحو 21% حتى تشرين الأوّل/ أكتوبر 2018، وهي أقل من المعدّل الوسطي للسنوات الخمس الماضية البالغ 23%. تليها الآلات والأجهزة والمعدّات الكهربائية التي استحوذت على 12% من فاتورة الاستيراد بزيادة نسبتها 2% عن المعدّل الوسطي. أمّا الحصّة الثالثة الأكبر، فكانت لمنتجات الصناعات الكيماوية مثل العطور ومستحضرات التجميل والشموع وغيرها، وبلغت 11% بزيادة طفيفة عن المعدّل الوسطي المقدّر بـ10%، وتليها معدّات النقل، أي المركبات على أنواعها، بنسبة 8% وهي أقل بـ1% من المعدّل الوسطي، فيما استحوذ اللؤلؤ والأحجار الكريمة على 7% من مجمل الفاتورة، مقارنةً بـ 5% كمعدّل وسطي، وهي النسبة نفسها (7%) التي استحوذت عليها منتجات الأغذية الصناعية والمشروبات والكحول، والتي حافظت على الحصّة نفسها من مجمل فاتورة الاستيراد، مقارنةً بالمعدّل الوسطي.
يعود هذا العجز إلى طبيعة الاقتصاد اللبناني القائم على جذب التدفّقات الخارجية ورفع أسعار الفائدة على الودائع وسندات الدين الحكومية ودعم الأرباح العقارية لتعزيز احتياطات المصرف المركزي بالعملات الأجنبية والمحافظة على ثبات سعر صرف الليرة، وهو ما أدّى إلى رفع الأسعار المحلّية، ولا سيّما السلع والخدمات غير القابلة للتداول في السوق الخارجية، وبالتالي زيادة كلفة الإنتاج المحلّي وفقدان تنافسيته، في مقابل زيادة الاعتماد أكثر وأكثر على الاستيراد لتلبية الحاجات الاستهلاكية المُتنامية.

-3 العجز المالي أكبر من المتوقّع

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

بمعزل عن تعهّدات الحكومة بخفض نسبة العجز الفعلّي في الميزانيّة العامّة، ومحاولة تجميل صورة الموازنة لسنة 2018 عبر خفض أرقام الإنفاق فيها، سجّل لبنان وفق أرقام الميزانيّة لغاية شهر أيلول/ سبتمبر أعلى مستوى من العجز في الميزانيّة العامّة منذ سنوات، إذ ارتفع عجز الميزانيّة لغاية 4.51 مليارات دولار مقارنةً بملياري دولار خلال الفترة نفسها من العام الماضي. هذه الأرقام تعني أن مستوى العجز ارتفع بأكثر من 225% بين الفترتين، بينما كانت وعود الحكومة قبيل مؤتمر سيدر تتمحور حول خفض العجز خلال السنوات الخمس المقبلة بنسبة 5%.
وتأتي هذه الأرقام المُقلقة في ظلّ تزايد علامات الاستفهام حول قدرة الدولة على تأمين التمويل اللازم لهذا العجز، في ظل تراجع نمو الودائع المصرفية بشكل كبير، واستمرار أزمة التحويلات الخارجيّة للسنة الثامنة على التوالي. ومن المتوقّع خلال الفترة المقبلة أن تتزايد نسبة العجز في الميزانيّة العامّة، في ظل ارتفاع فوائد سندات الخزينة وفق الاتفاق الأخير بين وزارة الماليّة ومصرف لبنان، الذي رفع نسبة الفائدة على سندات الخزينة الجديدة بنحو 40%.

-4 أسعار الفائدة ترفع خدمة الدَّين

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

خلال عام 2018، حافظت معدّلات الفوائد في السوق على مسارها التصاعدي، مرتفعةً لغاية 8.3% كمتوسّط على فوائد القروض بالدولار الأميركي، و9.6% على فوائد القروض بالليرة اللبنانية. مع العلم أن المعدّلين كانا يبلغان في الفترة المماثلة من السنة الماضية 7.39% على القروض بالدولار و8.24% على القروض بالليرة اللبنانية. قاد ارتفاع هذه المعدّلات استمرار مصرف لبنان في منح فوائد وأرباح مُرتفعة على توظيفات المصارف بالدولار لديه، لمحاولة رفع احتياطي العملات الأجنبية التي بحوزته، وعلى توظيفات المصارف بالليرة، في محاولة لضبط السيولة بالعملة المحلّية وحبسها لعدم تحوّلها إلى طلب على الدولار الأميركي في السوق.
كما ساهم استمرار ارتفاع الفوائد على الدولار في الولايات المتّحدة في دفع الفوائد على الدولار في لبنان إلى الارتفاع، وبالتالي رفع الفوائد على الليرة اللبنانية بحكم الحاجة الدائمة إلى إبقاء هامش بين فوائد الدولار والليرة للحدّ من تحويل الودائع بالليرة إلى الدولار الأميركي. هذا الانكشاف على تحوّلات السوق المالية الدولية يبقى إحدى أبرز سمات النموذج الاقتصادي القائم في لبنان، في ظل المزاوجة بين مستويات الدولرة المرتفعة والتشبّث بسياسة تثبيت سعر الصرف المُعتمدة من قِبل المصرف المركزي. ومن المتوقّع أن يؤدّي ارتفاع الفوائد بهذا الشكل إلى تزايد الضغوط على الأسر المُقترضة في المستقبل، في مقابل استفادة قلّة محدودة من أصحاب الودائع من ريوع الفوائد. فتركّز الودائع ما زال أبرز سمات القطاع المصرفي اللبناني، في ظل استئثار 0.8% من المودعين بنحو 51.8% من الودائع. فضلاً عن أن ارتفاع بنية الفوائد في السوق أدّى إلى ارتفاع كلفة الفوائد على سندات الخزينة اللبنانية بالليرة من نحو 7.5% إلى 10.5% وفق اتفاق مصرف لبنان مع وزارة المالية، الذي تلا فترة من امتناع مصرف لبنان عن الاكتتاب بسندات الخزينة وفق معدّلات الفوائد السابقة.

-5 الودائع لا تنمو بما يكفي

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

تركت الأزمة المالية بصمتها على حجم نموّ ودائع القطاع المصرفي، فحتّى تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي لم ترتفع قيمة ودائع القطاع الخاصّ مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي إلّا بنسبة 2.27%، وهي نسبة تقل كثيراً عن معدّلات فوائد الودائع بالليرة أو الدولار. بمعنى آخر، نمت الودائع بحجم يقلّ عن الفوائد التي دُفعت على الودائع نفسها، وهو ما يعني عمليّاً أن الحجم الفعلّي لهذه الودائع تناقص ولم يرتفع.
في الواقع، وبعد سنوات طوال من عجز ميزان المدفوعات، كان من الطبيعي أن تصل التداعيات أخيراً إلى حجم الودائع الفعلّي، خصوصاً أن التحويلات الخارجيّة كانت تشكّل أبرز مصادر تمويل النموّ في موجودات القطاع المصرفي اللبناني. وأصبح من الواضح أن الأزمة المالية وتعقيداتها بدأت تؤثّر أخيراً بمستوى الثقة بسلامة القطاع المالي واستدامة نموّه، خصوصاً أن هذا المستوى من الودائع يأتي بعد ارتفاع الفوائد الممنوحة على هذه الودائع إلى مستويات مغرية جدّاً للمودعين.
وتتّسم مسألة نموّ الودائع بحساسيّة مفرطة في سياق تطوّر أزمة النموذج الاقتصادي اللبناني. فعمليّاً تتجاوز حصّة القطاع المصرفي من الدَين العامّ اللبناني 84%، من خلال مساهمة المصارف الخاصّة مباشرةً بشراء سندات الخزينة، أو من خلال مصرف لبنان الذي يوظّف جزءاً من ودائع المصارف الخاصّة لديه بشراء سندات الخزينة.

-6 ظهور الأزمة العقارية

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

على الرغم من الحديث المتزايد عن تراجع السوق العقارية منذ عام 2010، إلّا أن كلّ المؤشّرات كانت تبيّن العكس، بحيث حافظت المبيعات العقارية على قيمتها، واستمرّت حركة البناء على نشاطها، إذ بقيت تسليمات الإسمنت ورخص البناء ضمن مستوياتها المعتادة. لكن هذا التراجع المشكوّ منه بدأ يظهر بشكل أكثر وضوحاً في عام 2018. ففي خلال الأشهر الـ11 الأولى من العام الحالي، انخفضت قيمة المبيعات العقارية بنسبة 27.4% مقارنةً بالفترة نفسها من العام الماضي، وهو التراجع الأعلى منذ عام 2010، وانخفض عدد عمليات البيع بنسبة 18% خلال الفترة نفسها، وتراجع متوسط قيمة العملية الواحدة إلى مستوى عام 2012، إذ انخفض بنسبة 11.8% من 135 ألف دولار إلى 119 ألفاً. وتراجعت رخص البناء الممنوحة نحو 23% حتى أيلول/ سبتمبر الماضي.
ويعدّ وقف مصرف لبنان دعم فوائد القروض السكنية من الأسباب المباشرة التي أدّت إلى تراجع السوق العقارية في هذا العام، وهي آلية انتهجها منذ عام 2009 لدعم أسعار العقارات، باعتبارها وسيلة لجذب العملات الأجنبية المباشرة التي يحتاجها لزيادة احتياطاته بهذه العملات والحفاظ على سياسته في تثبيت سعر الصرف، خصوصاً أن 93% من الاستثمارات الأجنبية المباشرة كانت تصبّ في القطاع العقاري وفقاً لقسم البحوث في بلوم بنك. إلّا أنّ تراجع هذه التدفقات بنسبة 40%، بين عامي 2010 و2017، من 3.71 إلى 2.63 مليار دولار، دفع مصرف لبنان إلى التخلّي عن آلية دعم القروض السكنية التي ارتفعت نحو 3 مرّات، من 4.5 إلى 14 مليار دولار بين عامي 2010 و2017، مخلّفاً وراءه 131 ألف أسرة في لبنان تعيش تحت عبء الرهون العقارية وخدمة قروضها السكنية لآجال طويلة تمتدّ إلى ما بين 20 و30 سنة.

-7 زمن التضخّم

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

سجّل مؤشّر أسعار المستهلك في تشرين الثاني/ نوفمبر 2018 زيادة بنسبة 5.83%، مقارنةً بالفترة نفسها من العام الماضي، وفقاً لإدارة الإحصاء المركزي، إذ ارتفع المؤشر من 103.03 إلى 109.04 نقطة، وهو ما يعني ارتفاع متوسّط أسعار السلع والخدمات المُستهلكة من قِبل المقيمين في لبنان بالنسبة نفسها خلال سنة واحدة فقط، وبالتالي تراجع القوّة الشرائية للدخل بالنسبة نفسها من دون أن يجري أي تصحيح للأجور ليواكب الزيادة في الأسعار.
يُستخدم مؤشّر أسعار المستهلك لقياس التضخّم، أي ارتفاع أسعار السلع والخدمات الأساسية التي يستهلكها الأفراد والأسر في لبنان وتأثيرها بمستوى معيشتهم، وهو يتألف من 12 بنداً للنفقات التي يستهلكها الفرد شهرياً.
وتشير البيانات التي توفّرها إدارة الإحصاء المركزي إلى أن نسبة الزيادة الأكبر في الأسعار، خلال عام واحد، تركّزت في أبواب الإنفاق الأساسية لا الكمالية، مثل المأكل والملبس والمسكن وخدماته والنقل والتعليم، أي السلع والخدمات التي لا تتسم بالمرونة ولا يمتلك الفرد القدرة على الحدّ من استهلاكها. في الواقع، سجّلت الألبسة والأحذية الزيادة الأعلى بنسبة 13.6%، تليها كلفة الماء والغاز والكهرباء والمحروقات الأخرى بنسبة 12.32%، فيما حلّت كلفة الإنفاق على المسكن وخدماته في المرتبة الثالثة بنسبة 6.78%، ثمّ المواد الغذائية والمشروبات غير الروحية التي ارتفعت أسعارها بنسبة 6.69%، ومن ثمّ كلفة الإنفاق على النقل بنسبة 6.21%، وتشكّل هذه السلع والخدمات نحو 67% من مجمل قيمة السلة الاستهلاكية للمقيم في لبنان.