«قد تكون هناك أزمنة أكثر جمالاً، إلّا أن هذا هو زماننا»جان بول سارتر

في عام 2017، قرّرت إدارة ترامب خفض الضرائب على الأغنياء في الولايات المتّحدة، وبرّرتها بالطريقة المعهودة، بأن ذلك سيؤدّي إلى زيادة الاستثمارات والنموّ الاقتصادي وكلّ تلك المعزوفة القديمة، أو بشكل أدقّ، الأسطوانة المكسورة التي سئِمت الأكثرية سماعها. وتبيّن بالطبع أنها لم تكن إلّا «عملية السطو الضرائبية الأميركية الكبرى» أو The Great American Tax Heist كما سمّاها البعض، ومن بينهم الاقتصادي برادفورد ديلونغ، وكانت بالتحديد سطواً على الثروة من قِبل الأغنياء. فكلّ الحسابات والأبحاث بينّت أنه لم يكن لها أي تأثير في النموّ ولا في الاستثمار، بل كانت فقط تحويلاً للثروة من الطبقات المتوسّطة والعاملة إلى طبقة الـ1% التي لا تزال تُمعن خراباً في الاقتصاد والمجتمع الأميركي. إذ إن 80% من التخفيضات الضريبية ذهبت إلى هذه الطبقة، التي حصل أفرادها على 200 ألف دولار كمعدّل خفض ضريبي سنوي، ومن المتوقّع أيضاً أن تزيد عجوزات الخزينة المُتراكمة في السنوات العشر المقبلة بنحو 1.5 تريليون دولار!
أنجل بوليغان ــ المكسيك

اليوم، ونحن على عتبة العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، علينا أن نسأل أنفسنا في لبنان كيف نتخلّص من آثار «أكبر عملية سطو» مماثلة في التاريخ اللبناني ومفاعيل هذه العملية، وهي أكبر بكثير من تلك الأميركية، ومستمرّة منذ عام 1992، بل منذ الثمانينيات، وحتى الآن؟ فهل ممكن ذلك مع الاستمرار بالسياسات الاقتصادية نفسها التي حكمت لبنان مع بعض التعديلات، أو عبر إحداث إصلاحات لا تغيّر من جوهرها، أم أن التغيير يبدأ بالاعتراف بنهاية النموذج القديم؟ يبدو الآن، كما عند كلّ منعطف، تقف قوى «مُحافظة» تريد أن تحافظ على القديم بكلّ قوّة. اليوم، تستعد الأحزاب الحاكمة للإبقاء على إرث «السطوة الكبرى» وديناميكيتها وعلى النموذج القديم. وسلاحها الأخير، الذي تتعثّر في استخدامه، مؤتمر باريس 4 الذي تريد أن تضيف إليه «قبضة حديدية» عبر التقشّف والقرارات «غير الشعبية». وهنا يبدو أن البعض في الدولة اللبنانية كمن يريد أن يدخل بكلّ حماسة إلى نادي الدول العربية التي اتبعت التقشّف مثل السودان ومصر وتونس! في مقابل ذلك، أصبحت الأزمة بعمقٍ لا يمكن الخروج منها نحو طريق الإنقاذ إلّا عبر ثلاثة أشياء:
أوّلاً، ثورة سياسية تؤدّي إلى إنهاء الطائفية والدولة الطائفية التي تشكّل أساس الاقتصاد السياسي الحالي، وتتمثّل غايته النهائيّة في الحفاظ على مصالح طبقة الـ1% ومنظومة الطائف السياسية والتحاصصية والتوزيعية. فمن الواضح اليوم للجميع، أن الوضع في لبنان تقهقر تدرّجياً، وأخذ نظام الطائف يتحوّل إلى خواتيمه المنطقية بعد انتهاء مرحلة إعادة الإعمار، وفعلياً من دون إعادة إنتاج رأسمالية جديدة متقدّمة، بل ريعية، وبعد نضوب السيولة المالية التي أتاحتها الاستدانة العامّة في السنوات العشر الأولى، وبعد انتهاء الدور الخارجي المُنَظِّم مع خروج الجيش السوري من لبنان، ليستحيل منظومة سياسية شبه إقطاعية، مقرونة بأشدّ أنواع الرأسمالية رجعيّة والمتمثّلة بأرستقراطية مالية. وهذه المنظومة يتعيّن تفكيكها. فالدولة لم يعد بالإمكان إصلاحها لأنها تحوّلت إلى «دولة توزيعية خالصة» تشكّل فضاءً لصراع الأحزاب الطائفية الشمولية على الريوع السياسية، وعلى مراكز التحكّم الاقتصادي، وتحويل الموارد والتوظيف لمصالحها الذاتية. ونرى نتاج هذه الدولة في أزمات تشكيل الحكومات، وأزمة الاستثمار في البنية التحتية، و«أزمة» سلسلة الرتب والرواتب، وفي فشل صياغة سياسات اقتصادية جديدة.
ثانياً، إنهاء مصدر الزلازل المالية التي بدأت تهدّد الاستقرار النقدي منذ نهاية التسعينيات. فبعد فشل خطّة النهوض الاقتصادي وانفجار العجز الحكومي والدَّين العامّ بسبب التخفيضات الضريبية التي حصلت آنذاك، أصبح هذا «الثقب الأسود» في المالية العامّة للدولة يضع الاقتصاد رهينة له، فتوقّف الاستثمار العامّ، وانهارت البنية التحتية، وتوقّف التوظيف النظامي في الدولة فتحوّلت إلى دولة المياومين والمتعاقدين، وارتفعت الفوائد الحقيقية على سندات الخزينة والودائع المصرفية حماية لليرة، فانهار الاقتصاد المُنتِج، وقامت الدولة الريعية، وسيطرت الترويكا من المصارف والدولة والمصرف المركزي على مفاصل الاقتصاد، وزادت الضرائب غير المباشرة على الطبقات الوسطى والعاملة، وجُمّدت الأجور لمدة طويلة تذرّعاً بالخوف من التضخّم، وضُربت النقابات من أجل ذلك، فحدث أكبر عملية إعادة توزيع الدخل والثروة في تاريخ لبنان، كذلك عُطِّل أي توسيع لدولة الرفاه الاجتماعي، مثل التغطية الصحية الشاملة، فتُرك نصف الشعب اللبناني بلا وصول إلى الخدمات الطبية إلّا ما يُهلك ميزانياتهم. كلّ هذا حدث ولا تزال الطبقات المُسيطرة ترفض حلّ هذه المُعضلة أو الخطيئة الأساسية، فعند كلّ منعطفٍ تهبّ الهيئات الاقتصادية دفاعاً عن مصالحها القصيرة النظر والمدى، وترفض زيادة الضرائب على الأرباح والريع والفوائد وكلّ عوائد الرأسمال. وقد آن الأوان لإنهاء كلّ هذا، وإنهاء النسخة اللبنانية لعملية السطو الضريبي الكبرى.
ثالثاً، البدء بالإعداد لبناء اقتصاد مُنتج وعصري وديناميكي. إن الحصيلة النهائية أيضاً لهذه المرحلة كلّها كانت اقتصاداً تُسيطر عليه القطاعات المتدنية الإنتاجية ولا يخلق الوظائف بنحو كافٍ. اقتصادٌ ذو أجور متدنّية، يبدّد ويهدر الطاقات العلمية والتكنولوجية اللبنانية، كما يبيّن تقرير التنافسية العالمية الأخير الذي أصدره المنتدى الاقتصادي العالمي. ومن أجل ذلك علينا أن نتخلّص أوّلاً من وهم أن لبنان مركز مالي أو كما كان يُعرف قبل الحرب بـ financial entrepot.
فعلى الرغم من بلوغ أصول المصارف نحو 3.25 مرّة الناتج المحلّي، إلّا أن ذلك لم يلغِ حاجة لبنان المستمرّة إلى الإعانات والقروض الخارجية من التسعينيات وصولاً إلى باريس 3 في 2007. واليوم مع باريس 4، الذي وإن كان يشكّل قروضاً لمشاريع، إلّا أنه يُنظر إليه أيضاً كتدفّق للعملة الصعبة لحلّ أزمة في ميزان المدفوعات. إذا فشلت الطبقة المالية حتّى في هذا الدور، فإن أي مركز مالي في العالم يحتاج إلى دفق نقدي مستمرّ، وحتّى مزمن، لا يعود مركزاً مالياً، بل دوّامة مالية financial whirlpool. أمّا الأهمّ بعد التخلّص من هذا الوهم، فهو الانطلاق إلى حشد الموارد وتحويلها من هذا القطاع المالي، الذي أصبح قطاعاً داخلياً مفترساً (predatory)، إلى القطاعات المُنتجة عبر النظام الضرائبي و«استغلال» القطاع الريعي. فأي شيء أقلّ من ذلك هو وهم ليس أكثر. أخيراً، علينا أن ندرك أن لبنان أصبح «اقتصاداً مزدوجاً» بين الداخل والخارج، وعلينا أن نؤسّس لسياسة تتعامل مع هذا الأمر، وليس فقط أن ننظر إلى العاملين والمغتربين بمركنتيلية، أو إلى كونهم «مُستَعْمِرين ماليين» جُلّ ما يفعلونه تحويل المليارات إلى لبنان. فهذا «القطاع الخارجي» يجب أن يصبح جزءاً من الاقتصاد عبر النظام الضريبي، ونقل المهارات والتكنولوجيا وحتّى التجارب السياسية التقدّمية للبنانيين في أوروبا وأميركا.
هذا ما نحن بحاجة إليه اليوم، كذلك فإننا بحاجة إلى تحالف واسع يحمل مشروعاً يبتعد عن اثنين: الشعبوية والإصلاحية التقليدية التي تريد فقط أن تُجمّل القديم. اليسار بدأ بالتحرّك بقيادة الحزب الشيوعي الذي جذب الكثير من غير الذين، عادة، في صفوفه. لكن المطلوب انضمام قوى أكثر إلى هذا التحرّك تمثّل قطاعات واسعة من الشعب اللبناني الأكثر تقدماً وذات المصلحة المادية في التغيير واتباع طريق الإنقاذ. في هذه المرحلة تقف قوى وتيّارات كثيرة على الحياد أو إلى جانب النظام: من الرأسماليين والرياديين الذين لديهم المصلحة في بناء اقتصاد مُنتج وعصري، لكن يُسْحَقون اليوم تحت الماحقة الريعية والاحتكارية والطائفية. ومن الشباب من الطبقة الوسطى الذين لا أمل لهم في المستقبل في ظلّ هذا النظام المتخلّف. ومن يعتبرون أنفسهم ديموقراطيين اجتماعيين، وصولاً إلى ما يُسمّى الليبراليين الذين يسكتون عن النظام، مع أنه لا يلتقي مع فلسفتهم ولا مع «اقتصادهم» اللذين صيغا في عصور العلمانية والثورة في فرنسا والاستقلال في أميركا. أخيراً، ينطبق هذا حتّى على بعض من المانحين، الذين تفرض شروطهم، في النهاية، على العمّال والموظّفين والقطاعات الاجتماعية بدلاً من فرضها على الرأسمال.
إذاً، هؤلاء جميعهم بأكثريتهم يقفون، إمّا عن وعي أو موضوعياً، في صفّ المحافظين الذين يريدون الحفاظ على التقليد وعلى القديم. وهم اليوم مدعوون على الأقلّ إلى أن يطبّقوا ما قالته الإيكونوميست في مانيفستو الليبرالية حين كتبت: «ولكن خلافاً للمحافظين الذين يريدون الحفاظ على الاستقرار والتقاليد، فهم (أي الليبراليون) يسعون إلى تحقيق التقدّم، سواء من الناحية المادية أو من ناحية الأخلاق. وهكذا، كان الليبراليون عادةً إصلاحيين، وكانوا يحثون على التغيير الاجتماعي. واليوم تحتاج الليبرالية إلى الإفلات من تماهيها الحالي مع النخب ودفاعها عن الحفاظ على الوضع الراهن، وعليها إعادة إحياء روح الإصلاح تلك».
عشية السنة الجديدة، على كلّ لبناني اليوم أن يسأل نفسه أين يريد أن يكون. الجواب واحد من اثنين لا ثالث لهما: إمّا إلى جانب أحلام استرجاع «الزمن القديم»، لكن في الواقع إلى جانب نظام حيّ-ميّت يفرز اللبنانيين إلى أرستقراطية مالية ومهاجرين وطبقة متوسّطة تنهار وفقراء ومذهبيين وشعبويين يمينيين وبروليتاريا رثّة وبورجوازية رثّة وعاطلين من العمل ومن دون أمل بالمستقبل، وإمّا إلى جانب الحرّية وزمن النضال من أجل العلمانية والحداثة والتقدّم.