«إن لوثر بالتأكيد انتصر على العبودية المبنية على التقية ولكنه استبدلها بالعبودية عن اقتناع. وهو حطم الإيمان بالسلطة لكن فقط عبر استعادة سلطة الإيمان. لقد حوّل الكهنة إلى أشخاص عاديين لكن عبر تحويل الأشخاص العاديين إلى كهنة. وقد حرر الإنسانية من الدّين الخارج عنها بِتَحْويلِهِ الدِين إلى داخل الإنسان. وقد حرر الجسد من أغلاله ليضع القلب في الأغلال»في أحد اجتماعات لجنة الإدارة والعدل النيابية أخيراً، اعترض النائب غازي زعيتر على وصف النائبة بولا يعقوبيان الدولة اللبنانية بـ«الدولة المهترئة». بالنسبة إلى معظم اللبنانيين بدا اعتراض النائب زعيتر أمراً مستغرباً لأنهم، وخصوصاً في الفترة الأخيرة، أصبحوا يرون هذا الاهتراء بالعين المجردة أو يلمسونه بالتجربة المباشرة. لكن كيف وصل لبنان إلى هذا الوضع، إذ يبدو الأمر أنه أصبح يتعدّى أزمة اقتصادية أو سياسية عابرة؟ كلّنا يعرف التسلسل الزمني للرحلة من نهاية الحرب الأهلية إلى اليوم، لكن إذا كان صحيحاً أن الدولة مهترئة، هل الأمر فقط هو نتاج مجموعة من «السياسيين الفاسدين» أو «سياسات خاطئة» أو فقط «سياسات نيوليبرالية»؟ أم أن ما كان يدافع عنه النائب زعيتر هو دولة الطائف، التي أصبحت بالنسبة إلى البعض على درجة «القداسة» نفسها التي كانت عليه المارونية السياسية بالنسبة إلى غيرهم قبل الحرب الأهلية، وبالتالي هي المسؤولة؟

المؤشّرات تبرهن اهتراء الدولة
ربما يعتقد البعض أنه لا حاجة للمعطيات لتحليل مدى اهتراء أو فشل الدولة في لبنان، فكما ذكرت، إن الأمر واضح ويختبره اللبنانيون كل يوم، ولكن «للعلميين» الذين يدافعون عنها حتى ضد الأغاني، لا بد من عرض بعض هذه الأرقام للتذكير. ففي تقرير التنافسية العالمية، الذي أصدره المنتدى الاقتصادي العالمي، احتل لبنان المرتبة الأخيرة عربياً والمرتبة 105 في العالم. وكما للقطاع الخاص دوره في إنتاج أرقام بائسة كهذه، كذلك هناك دور للدولة. بالنسبة إلى الأخيرة، فالمراتب (بين 137 بلداً) التي يحتلها لبنان في مؤشر «المؤسسات» متدنية جداً: تلك المتعلقة بالفساد (121)، الكفاءة في الإنفاق الحكومي (130)، الشفافية في السياسات الحكومية (124)، الثقة بالسياسيين (128)، هذا بالإضافة إلى المؤشرات الأسوأ على صعيد الدين العام (135) وعجز الخزينة (122) وجودة البنى التحتية (122). إذا أضفنا إلى كل هذا أن لبنان يحتلّ المرتبة 44 من أصل 178 دولة في تراتبية «مؤشر الدول الهشة»، الذي يصدره «صندوق السلام»، فإننا نستطيع أن نرى أن المعطيات هي إلى جانب فرضية «الدولة المهترئة» لا العكس.

قيام دولة الطائف وصعود رأس المال الريعي
قبل قيام نظام الطائف بعد الحرب الأهلية، اعتبر البعض نظام المارونية السياسية مساوياً للبنان، وكان لبنان «في ذاته» مساوياً للاقتصاد الحر والتجارة والخدمات. وفي «قدسية» النظام هذه، كانت العلاقة بين النظام والكيان والاقتصاد علاقة بسيطة، وإن أخذت الشكل الأسطوري، لا ترتبط لا بالسياسة ولا بالأيديولوجيات كما وصفها كل من ميشال شيحا وشارل مالك. في هذا الإطار، يقول شيحا في كتابه «السياسة الداخلية» إن «الليبرالية، الشيوعية، الاشتراكية، الديمقراطية الحقيقية، الديمقراطية الزائفة إلخ... هل هي معدّة لنا، نحن الذي يربطنا موطن روحي منذ الأزل؟... هذه التجارب البائسة هي للآخرين».
أنجل بوليغان ــ المكسيك

أمّا مالك فقال: «إن الفرنسيين يقولون عن لبنان-والفرنسيون أكثر من يعرفنا- لبنان بلد التوازن». لكن كلّ هذه القدسية وكل تلك البساطة تهاوت في الحرب، وكان على الجمهورية الجديدة أن تقيم شكلاً جديداً لهذه العلاقات كلّها.
بعد الحرب، أتى نظام الطائف يقطر مالاً، وذلك بعد أن تم تشريكه مع الرأسمال في 1992. ففي بدايات عهد الطائف، خلال حكومة عمر كرامي، كانت العلاقة بين أطراف النظام ملتبسة، وكانت بحاجة إلى الرأسمال الذي يربط بين الطوائف والرأسمالية، وهو الرابط الذي تفكّك خلال الحرب. لكن هذه المرة تغيّر الرأسمال أو مرّ بمرحلة «الانمساخ»، فبينما كان النظام القديم مبنيّاً على أسطورة التجارة والخدمات، قام النظام الجديد على المال السريع والسهل من الدين والفوائد وريع العقار. فكانت مهمّة الرأسمال تحديد العائد على بناء «الدولة» الطائفية عبر الدين العام.
في كتابه «الدين: الخمسة آلاف عام الأوائل»، ينقل دافيد غرايبر عن الصين القديمة القصة التالية. عندما علمَ ابن أحد التجار أن أحد الأمراء يعيش في الجوار، سأل أباه:
- ما هو الرّبح على الاستثمار الذي على المرء أن يتوقعه من حراثة الحقول؟
* عشر مرات الاستثمار.
- والعائد على الاستثمار في اللآلئ واليشم، كم هو؟
* مئة مرة
- والعائد على الاستثمار في تنصيب حاكم وتأمين الدولة، كم هو؟
* هذا لن يكون أحد قادراً على عدّه
وكما في هذه الأسطورة من الصين القديمة، كانت «الصفقة الكبرى» بعد الحرب بين الرأسمال والطوائف: «الدولة» الطائفية تستدين لتبني نفسها، والرأسماليون يُقرضونها لتحقيق الأرباح منها. وبهذا نستطيع أن نفهم بشكل أعمق لماذا تم استبدال الضرائب بالدين بدءاً من 1993 والتي استُعملت لتبريره آنذاك بعض النظريات الاقتصادية التي كانت قد أصبحت بائدة حتى في ذلك الوقت. وبهذه الصفقة أصبح لبنان يشبه بلاد ما بين النهرين قديماً، التي قال عنها غرايبر، وكأنه يتحدث عن لبنان اليوم، «إن القروض بفوائد من قِبل أصحاب القصر والهيكل استبدلت بشكل كبير أي نظام ضريبي شامل». وكان لهذا التنظيم الاقتصادي، الذي تراكمت معه عجوزات الخزينة والدين العام وفوائد خدمته وتحولها إلى مداخيل وثروات أساساً للمصارف وللرأسماليين الكبار واشتقاقاً عبر «الافتراس» لممثّلي الطوائف، النسخ الحديثة لأصحاب القصر والهيكل، الدور الأساسي في تحوّل الدولة الحقيقية إلى خواء والرأسمال اللبناني إلى رأسمال ريعي. وبقيام الأخير، تحوّلت حتى «الطغمة المالية»، التي اعتبرها اليسار في الماضي معضلة الرأسمالية اللبنانية الأساسية، والتي انبثقت كالشرنقة من أسطورة لبنان القديم، إلى أخطر منها: إلى شمولية مالية أنهَت الآمال بإمكانية إقامة رأسمالية متقدّمة أو عصرية بعد الحرب.

الأكثر عدالة... الأسوأ اقتصادياً
مع نظام الطائف بقي النظام طبعاً طائفياً ولكن أكثر عدلاً من نظام المارونية السياسية. وهذه «الأكثر عدالة» هي مفتاح فهم ليس فقط الاشتباك الذي حصل في قاعة من قاعات مجلس النواب، بل ما يحصل اليوم من شلل كبير في السلطة التنفيذية وفي السياسة الاقتصادية أيضاً. فهذه العدالة هي التي فتحت الباب أمام تحوّل النظام الطائفي من نظام الهيمنة إلى نظام المحاصصة، الذي استعمل المالية العامة كوسيط بين البورجوازية وقوى التحاصص الطائفي. وهذا النظام الجديد جعل لبنان ليس ككل الدول حيث هناك حفنة من الفاسدين أو يمرّ عليها حاكم فاسد مع حاشيته، فمنذ الطائف أصبح الفساد جزءاً من الحوكمة في النظام؛ فالتوزيع يتم على الأساس المذهبي من وزارات ووظائف كبرى وصغرى وحتى مايكروية وفي المجالس المركزية والمناطقية، والمؤسسات العامة والتلزيمات والخدمات العامة وصولاً إلى الفدرالية والإقطاعيات. وهذا كلّه عمّق إعادة التوزيع الطائفي الذي استبدل إعادة التوزيع الطبقي. وهذا أغبط الرأسمال الريعي، وحتى غير الريعي، الذي تُركت الساحة الطبقية خالية له من أي منافس؛ فعندما تكون الانقسامات الاجتماعية غير مرتبطة بالطبقة، ينتصر الرأسمال على العمل.
وهذا النظام التحاصصي-الريعي أنهك الاقتصاد المنتج وعطّل النمو الاقتصادي وأبطأ نمو الإنتاجية من جهة، وضخّم الثروات الريعية والعمل غير المنتج من جهة أخرى؛ فأدّت العدالة الطائفية في نهاية الأمر إلى إنهاء الاقتصاد كما أنهت إمكانيّة قيام سياسة اقتصادية جديدة يمكنها أن تُخرج الاقتصاد من المأزق الكبير الذي يراوح فيه، ووصلت الأمور إلى حدّ عدم تمكنها من تنفيذ سياساتها هي نفسها كما يحصل الآن مع باريس 4.
وعد اتّفاق الطائف أن يزيل الطائفية من النصوص ولكنه عمّقها في التجربة والواقع وفي النفوس أيضا. في أكتوبر الماضي وضع وزير الإعلام اللبناني ملحم الرياشي تعليقاً على حسابه في التويتر حول لقائه مع رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، نافياً أنهما تطرّقا إلى موضوع تشكيل الحكومة، وقال إن «جوهر حديثنا كان المصالحة المسيحية التاريخية، وأهميّتها الكبرى الفلسفية والاستراتيجية منذ سقوط القسطنطينية عام ١٤٥٣ وحتى اليوم!»، هنا نرى كيف أن الطائف حوّل الجميع إلى «كهنة»، كما أعاد التاريخ ولكن هذه المرة بمهزلة آن أوان إنهائها. فهذا النظام المهترئ يجب تفكيكه كما كتب ماركس عن كومونة باريس، على «أنها تبدأ تحرير العمل بالتخلّص من العمل المؤذي وغير المنتِج لطفيليي الدولة، بواسطة قطع الأوصال التي تضحّي بجزء كبير من الناتج الوطني من أجل إطعام هذه الدولة المسخ». إذاً، فرنسا التي نريدها أن تعرفنا هي التي رفعت آنذاك شعار «الحرية، المساواة، الإخاء أو الموت» فلنرفعها اليوم ضدّ نظامنا القديم المتهالك.