«هؤلاء المهرّجون أعلنوا مراراً وتكراراً لمدة مئة وستين سنة عن موت أفكاري... ألا تتعجّبون لماذا؟»ماركس في سوهو

هل يخيّم شبح الاشتراكية على الولايات المتّحدة؟ الأمر يبدو كذلك. ففي تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي، أصدر مجلس المستشارين الاقتصاديين في إدارة ترامب تقريراً أسماه «أكلاف الاشتراكية»، (ربّما) للمرّة الأولى في تاريخه، بما في ذلك أيام الحرب الباردة! ففي عام 1991، لو فكّر أحدهم أن أعلى مجلس اقتصادي حكومي في الولايات المتّحدة، الذي يتولّى «تزويد الرئيس الأميركي بالمشورة بخصوص السياسات الاقتصادية»، سيصدر تقريراً كهذا لكان اتُّهم بالسذاجة، إن لم يكن بالجنون. لكن يبدو أن الأمر تحوّل إلى هاجس عند بعض الأوساط الأميركية. وهذا الهاجس بدأ منذ أن ترشّح برني ساندرز للانتخابات الأولية الأميركية في 2016، وعلى إثرها أصبحت الاشتراكية للمرّة الأولى منذ الثلاثينيات في صلب النقاش السياسي الأميركي، وبدأ يرتعب منها عتاة اليمين من الجمهوريين والأغنياء ومجلّة وول ستريت جورنال وفوكس نيوز وغيرهم.
في 6 تشرين الثاني/ نوفمبر أسفرت الانتخابات النصفية عن دخول يسار الحزب الديموقراطي إلى الكونغرس عبر ألكسندريا كورتيس ورشيدة طليب عن نيويورك وميشيغان، بالإضافة إلى بعض المقاعد في برلمانات الولايات. وكانت رسالة الديموقراطيين الاشتراكيين واضحة: من التغطية الصحية المجانية إلى التعليم العالي المجاني إلى رفع الحدّ الأدنى للأجور ومحاربة سيطرة الرأسمال الكبير على مقدرات الاقتصاد الأميركي.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

إذاً، يعلم اليمين الأميركي اليوم أن ما يواجهه هذه المرّة ليس أقلّية غير فاعلة سياسياً تحتجّ أو أكاديميين في الجامعات أو البعض من ذوي الميول اليسارية، بل يواجه حركة سياسية، ربما لا تزال أقلّية، ولكنها واعدة سياسياً. وما يخيفه أيضاً، وربّما أكثر، هو انتشار الأفكار الاشتراكية خصوصاً بين الجيل الجديد، والمتعلّم منه على الخصوص، إذ أكّد استطلاع رأي لمعهد غالوب في 2018 أن 51% من الشباب الأميركي بين 18 و29 سنة لديهم رؤية إيجابية عن الاشتراكية في مقابل 45% فقط عن الرأسمالية. والأسوأ أن هذا الأمر يعكس منحى مستمرّاً إذ أن الرؤية الإيجابية للرأسمالية انخفضت 12 نقطة في العامين الماضيين، كما تدنّت بشكل كبير عمّا كانت عليه في عام 2008 (68%). إذاً الفزّاعات التي كانت أيام الحرب الباردة والإشاعات التي كانت تطلق أيام «الخوف الأحمر» (red scare) انتهت كلّها من دون رجعة. فالحرب الباردة انتهت والمفارقة التي تحير الكثيرين أن الاشتراكية لم تنتهِ! فحتى فرانسيس فوكوياما مُنظّر نهاية التاريخ وانتصار النيوليبرالية يقول في مقابلة في 17 تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي مع مجلّة نيوستيتسمان «على الاشتراكية، إن عنت برامج إعادة التوزيع، أن تعود. إن المرحلة التي بدأت مع ريغان وثاتشر كان لها نتائج كارثية... ففي حقل المساواة الاجتماعية أدّت إلى إضعاف النقابات... وإلى صعود طبقة أوليغارشية تسيطر سياسياً أيضاً.. وفي هذا المفصل التاريخي يبدو لي أن الكثير ممّا قاله كارل ماركس أصبح واقعاً من أزمة فائض الإنتاج إلى إفقار العمّال إلى فقدان الطلب الكلّي».
لكلّ هذا تُخيف الاشتراكية اليمين، وتُخيف الطبقة التي تحتكر الثروات، والتي عملت في الثلاثين عاماً الماضية على إنهاء الحلم الأميركي والطبقة المتوسطة والكينزية، وما حلم به هنري فورد من رخاء اقتصادي ونمو وإخاء طبقي وتوزيع للدخل والثروة بعد الحرب العالمية الثانية جعلت من أكثرية الأميركيين يقبلون بالرأسمالية الأميركية ولا يبحثون عنها بديلاً. اليوم، بإنهائهم هذا «الحلم» من أجل تركيز الثروة أكثر وأكثر بأيدي القلّة، أصبحت الرأسمالية الأميركية تكشف عن وجهها البشع.
في هذا الإطار، يوجد بعض الأرقام التي لم يكن يسمع بها أحد في الولايات المتّحدة منذ 40 عاماً:
• ثلاثة من الأميركيين يستحوذون على ثروة تعادل ثروة نصف الأميركيين الذين هم في أسفل الترتيب في الثروة.
• ثلاثة عائلات تمتلك ثروة تعادل 348.7 مليار دولار، أي أكثر من ما تمتلكه 4 ملايين عائلة وفق تقديرات الثروة الوسطية.
• يحتاج العامل الذي يحصل على الحدّ الأدنى الفدرالي إلى أن يعمل 99 ساعة في الأسبوع لمدّة 52 أسبوعاً في السنة ليستطيع أن يتحمّل كلفة إيجار شقّة من غرفة نوم واحدة.
• شركات مثل شركة تابعة لطيران أميركان إيرلاينز ومثل آمازون يعيش الكثير من موظّفيها على نظام الإعاشة الحكومي الأميركي المعروف بـ«الطوابع للطعام».
• في 2017، أربعة أشخاص من عائلة والتون الذين يملكون متاجر «والمارت» حقّقوا دخلاً يبلغ 12.7 مليار دولار في يوم واحد. في المقابل، يحتاج عامل و«المارت» الذي يحصل على 11 دولاراً في الساعة إلى حوالى 635 ألف سنة ليحقّق دخلاً كهذا.
• 60% من الأميركيين يقضون سنة على الأقل في حياتهم تحت خطّ الفقر.
• جيف بيزوس، صاحب شركة آمازون، يحقّق دخلاً يوازي حوالى 9 ملايين دولار في الساعة، بينما الكثير من عمّال آمازون أصبح أجرهم 15 دولاراً في الساعة فقط بدءاً من هذا الشهر انصياعاً للضغط من ساندرز.
• مدينة نيويورك أعطت شركة آمازون 3 مليارات دولار كتقديمات وإعفاءات من أجل أن تبني مقرّها الثاني في المدينة، بعد أن فازت في منافسة قال عنها أحد مخطّطي المدن «فكرة أن شركة تريليونية يملكها أغنى شخص في العالم تجري مباراة شبيهة بـ«أميركان آيدول» لأكثر من 230 مدينة... وتأخذ على إثرها 3 مليارات دولار من أموال دافعي الضرائب لهو شاهد حزين على قوّة الشركات الرأسمالية في يومنا هذا».
وبالتالي يمكننا فهم ما يحدث الآن. فالأمر لم يعد خارجياً. ولم يعد فيلماً مثل «الفجر الأحمر» عن اجتياح الشيوعيين الروس والكوبيين لأميركا هو الذي يخيف الأميركيين، بل أصبح الأمر مدفوعاً بهاجس الصراع والحرب الطبقية داخلياً. قبل عشر سنوات، قال وارن بافيت (وهو أحد الثلاثة) «إنها حرب طبقية وإن طبقتي، الطبقة الغنية، التي تشنّ الحرب، تنتصر» في خليط من الحقيقة والمباهاة. أمّا اليوم فهذه الطبقة متوجّسة ولا أظن أن بافيت لديه الجرأة أن يقول الأمر نفسه. وهنا يأتي تقرير المجلس، الذي وصفه أحد الاقتصاديين بأنه شبيه ببحث صوفوموري أو مبتدئ، من أجل التغطية على هذه الأرقام وما تعني إنسانياً واقتصادياً. أمران حول التقرير، الذي سأتناوله مستقبلاً: الأوّل، طبعاً محاولة برهنة أن الاشتراكية المحقّقة أدّت إلى كوارث اقتصادية. الثاني، محاولة برهنة أن الولايات المتّحدة أفضل من الدنمارك والسويد. وكمثال على ذلك يقول التقرير إن كلفة «البيك آب» في أميركا أقلّ من تلك في الدول الاسكندينافية كإحدى مؤشّرات تفوّق الرأسمالية الأميركية على الاشتراكية الاسكندينافية!
بعيداً من الأرقام وضحالة التحليل، يحاول التقرير أن يخفي تغيرات بنيوية تحصل في الرأسمالية الأميركية. في هذا الإطار يقول إريك واينشتاين، مدير شركة بيتر ثايل للاستثمارات، في مقابلة بعنوان «لماذا الرأسمالية لن تستطيع أن تعيش من دون الاشتراكية»، إن نظرة العالم إلى الرأسمالية حكمتها ثلاث صدف أو تزامنات: الأولى، بين إنتاجية الأفراد وحاجاتهم الاستهلاكية بشكل مقبول اجتماعياً؛ الثانية، بين اقتصاد مبني على إنتاج السلع الخاصّة وقابلية الدولة على فرض الضرائب لتمويل عدد قليل من السلع العامة؛ والثالثة، المصادفة بين قدرة الأشخاص على تعلّم بعض المهارات في شبابهم وارتباط ذلك بمهنة مستدامة لاحقاً في الحياة. يقول واينشتاين إن «هذه المصادفات تتحطّم الآن لأنه لم يكن هناك أصلاً قانون أساسي يجمعهم».
من الواضح تماماً لماذا الشباب والألفيون الأميركيون ينظرون إلى الاشتراكية بإيجابية أكثر من نظرتهم إلى الرأسمالية، فهم الآن سيواجهون مستقبلاً اقتصادياً قاتماً إذا استمرّت هذه المتغيرات البنيوية في الاقتصاد الأميركي. وعندها يتمّ التأكيد على أن لا عودة إلى تلك الظروف التي طرحها الاقتصادي ريتشارد ثالر، الحائز على جائزة نوبل 2017 عندما قال: «السؤال سيكون في النهاية: هل نريد مجتمعاً حيث الأغنياء يأخذون حصّة متزايدة من الفطيرة أو نفضّل أن نعود إلى الظروف التي تسمح لكلّ الطبقات أن تتوقّع أن يزيد مستوى معيشتها». وهنا تكمن وستكمن ربّما الحماقة الكبرى للرأسمالية الأميركية التي ستعيد حتى أمثال فرانسيس فوكوياما إلى كارل ماركس.
حالياً في سانت بيطرسبرغ في روسيا، يُقام معرض، يمتدّ حتى الرابع عشر من كانون الثاني/ يناير المقبل، للأعمال الفنية والأدبية في الذكرى المئوية الثانية لميلاد مؤلّف رأس المال بعنوان «ماركس للأبد؟»؛ الجواب على العنوان - السؤال واضح جدّاً عندما نرى ما يحدث في الولايات المتّحدة. فتزايد النظرة الإيجابية للاشتراكية تعني أن الشباب الأميركي يرون بؤس الأوضاع الحالية، كما يعبّرون أنهم لن يقبلوا أن تذهب الثروة إلى القلّة، ولن يقبلوا أن تزداد الإنتاجية ليستحوذ عليها الرأسمال، وأن لا يستطيعوا أن يذهبوا إلى الجامعات وأن لا يحصلوا على رعاية صحّية كغيرهم في البلدان المتقدّمة، وأن تبقى أجورهم تراوح مكانها وأن يربح شخص مثل جيف بيزوس في الدقيقة الواحدة ما يوازي الأجر المتوسّط السنوي لأربعة عمّال، ويحصل أيضاً من مدينة نيويورك على 3 مليارات دولار؛ فهذه بالتأكيد لم تعد رأسمالية ما بعد الحرب العالمية الثانية ولا حتّى رأسمالية آدم سميث بل رأسمالية الغرب الأميركي المتوحّش مرّة أخرى.