«لو كان ظاهر الأشياء مطابقاً لجوهرها لما كان هناك حاجة إلى العلم»كارل ماركس

في مقالته «ماذا فعلت غوغل في زمانها لنا؟»، يضع يانيس فاروفاكيس دعوته لإشراك المجتمع ككلّ في ملكية غوغل، ضمن إطار أن عوائد الصندوق المشترك ستكون جزءاً من «المدخول الأساسي العامّ»، الذي يُطرح الآن كجزءٍ من حلّ لارتفاع احتمالات البطالة التكنولوجية وانخفاض الطلب الكلّي الناتج منها، والتي من المرجّح أن تتفاعل في السنوات أو العقود المقبلة. حسناً، فحصول المجتمع ككلّ على شيء من أرباح غوغل ربّما هو أفضل من لا شيء، وإذا ما تمّ تعميم هذا الأمر على جميع المؤسّسات، التي بالنسبة إلى فاروفاكيس وغيره تستخدم العمل غير المدفوع، فإن هذا سيشكّل نوعاً جديداً من ديموقراطية اشتراكية جزئية تَستبدل دولة الرفاه الاجتماعي التي عنوانها الأساسي «استخدام الضرائب وإعادة التوزيع» بالملكية المشتركة بين الرأسماليين والمواطنين لبعض وسائل الإنتاج. هل هذا الحلّ هو النهائي أو الأمثل؟ وهل لديه مُبرّرات غير اعتباطية؟ وهل فعلاً أن «شيء» هو أفضل من «لا شيء»؟
أنجل بوليغان ــ المكسيك

إن المُبرّر الذي يُساق عادة من قبل بعض الاقتصاديين الماركسيين وغيرهم، ومن ضمنهم فاروفاكيس، لإقامة هذا الاقتصاد التشاركي الجزئي، هو أن غوغل ومثيلاتها تستخدم «العمل الرقمي غير المدفوع»، أي أنها لا تدفع أجراً للمعلومات والتحرّكات الشخصية لمستخدمي خدماتها، والتي تستعمله هي بدورها لـ«بيع» هذه المعلومات أو هذا «العمل» للمعلنين وغيرهم. بالتالي يشكّل هذا العمل أو الاستخدام جزءاً من أصل أرباحها. لنقرأ فاروفاكيس مرّة أخرى «إن الأسباب الموجبة لردّة الفعل على شركات التكنولوجيا الكبرى هو أننا كلّنا أصبحنا مُستخدمين مُحوّلين إلى بروليتاريا... فكلّ مرّة تستعمل فيها محرّك البحث لدى غوغل للبحث عن كلمة أو مفهوم أو مُنتج أو تزور مكاناً على «خرائط غوغل» فإنك تغني رأسمال غوغل. بينما الخوادم وتصميم البرامج، مثلاً، تمّ إنتاجها بطريقة رأسمالية، فإن جزءاً كبيراً من رأسمال غوغل هو مُنتج تقريباً من الكلّ. إذاً، كلّ مستخدم في المبدأ لديه حقّ شرعي في أن يكون هو أيضاً من حملة الأسهم (shareholder)».
في الشكل، يبدو هذا الطرح شبيهاً جدّاً بـ«الرأسمالية الشعبية» أو «رأسمالية حملة الأسهم» من أيّام مارغريت ثاتشر والتي يمكن تلخيصها بالآتي: إذا أصبح رأس المال مملوكاً من الجميع أو من العمّال أو الموظّفين أيضاً (طبعاً جزئياً وفقط عبر الأسواق)، ألا يلغي هذا مفهوم رأس المال VS العمل، الذي هو أساس نظرية ماركس؛ وألا يعني هذا أن لا حاجة للاشتراكية أيضاً بعد اليوم؟ شيء من هذا القبيل الذي أطاح «عصفورين بحجر واحد» راج لفترة طويلة وأصاب الدوار الكثيرين من هذا الاكتشاف المذهل! بعدها تبيّن، وخصوصاً بعد 2008 وبدء ظهور تمركز الثروة والدخل الذي بدأ منذ عهد تاتشر نفسها، أن هذه الرأسمالية الشعبية لم تكن إلّا رأسمالية، بل ربّما أسوأ أنواعها، والتي جعلت الكثيرين يحاولون الآن التبرّؤ منها ومن نتائجها. هذا في الشكل، أمّا في المضمون فهناك أمران.
أوّلاً، هل عندما يستخدم أي شخص خدمات غوغل وغيرها، هو فعلاً يقوم بعمل غير مدفوع الأجر؟ الجواب هو كلا. أصل هذه النظرية يعود إلى السبعينيات عندما أطلق «الماركسي الثقافي» دالاس سمايث على عملية الاستماع إلى الدعايات التي يبثّها التلفزيون آنذاك مفهوم «العمل المشاهدي» أو (Audience labor)، أي أن المشاهدين هم جزئياً عمّال غير مدفوعي الأجر يقومون بإنتاج الأرباح لأصحاب محطّات التلفزة من بيعهم وقت الهواء هذا. لكن بقيت هذه «النظرية» أو هذه المحاولة لتوسيع نطاق تطبيق نظرية ماركس هامشية. أمّا اليوم، ولأن الأمر يتعلّق باستخدام البلاتفورمات مثل فايسبوك ومحرّكات البحث وغيرها، أصبحت النظرية أكثر شيوعاً، ولكن ذلك لا يعني أنها أصبحت صحيحة. فبيع الشركات وقتاً لبث دعاياتها هو جزء من اقتطاع من قِبل غوغل وغيرها، مثلها مثل المحطّات التلفزيونية في السابق، من أرباح الشركات التي تستطيع عندها أن ترفع من سعرها الاحتكاري، إذا استطاعت، بسبب هذه الدعايات لا أكثر ولا أقلّ. وأيضاً هنا يمكن توسيع هذه النظرية على شكل سؤال: هل إذا استطاعت شركة مثل كرايسلر عبر الدعاية أن تبيع المستهلك سلعة بأعلى من سعرها التنافسي، هل هذا يعني أنه عندما استمع الشاري إلى الدعاية واشترى السيارة قام بذلك عبر عمل بلا أجر ليس فقط لدى غوغل بل لدى كرايسلر أيضاً؟ نستطيع أن نرى هنا أن هذه «النظرية» تنقل عملية إنتاج القيمة الزائدة من عمليات الإنتاج (أي داخل غوغل وفيسبوك وكرايسلر) إلى مجال الاستهلاك والتبادل، وهذا ما كان ماركس قد نفاه بشكل مُطلق في خلال بحثه عن سرّ القيمة الزائدة؛ أي أن القيمة الزائدة لا تُنتَج بشكل إيجابي كلّي في عمليات التبادل التي هي بمثابة لعبة صفرية أو zero sum game، إذ لكلّ رابح هناك خاسر. وهنا الرابحون هم: غوغل والشركة المُعلنة. والخاسرون هم: الشركة المُعلنة والمستهلك. لنأخذ مثلاً أسهل، أظن أنه يستطيع أن يلقي الضوء على هذه المسألة: لنفترض أنك كنت تعيش في زمن قبل الرأسمالية وأنك كنت مُنتجاً مستقلّاً تنتج خضرواتك وفاكهتك بنفسك لنفسك. لنفترض أيضاً أنك فجأة انتقلت عبر آلة زمنية إلى القرن العشرين، وأصبحت عاملاً في مصنع، وبالتالي هذا يعني أنك لم تعد تملك الأرض التي كنت تنتج عليها منتجاتك سابقاً، أو أنها لم تعد منافسة للشركات الزراعية الكبرى العالية الإنتاجية. إذاً، أنت الآن مُضطر للذهاب الى السوبر ماركت لشرائها وهذا يستغرق وقتاً على الطريق وداخل المكان، لنقل ساعة في الأسبوع لم تكن تستغرقك للحصول على الخضروات والفواكه من قبل. وفي الطريق أيضاً قرّرت أن ترفّه عن نفسك ودفعت المال أو الوقت من أجل ذلك. فهل هذا يعني أن الرأسمالية (التي لم تكن سابقاً) فرضت عليك عملاً غير مدفوع من أجل تحقيق ربح للسوبر ماركت؟ كلا. لمرّة أخرى، ماركس اكتشف أصل القيمة الزائدة في الرأسمالية ليس كعملية تبادل غير مُتكافئة أو غير متساوية بين مؤسّسة أو شخص يبيع عميلاً اقتصادياً أمراً فوق قيمته، بل في الإنتاج ووقت العمل. وبالتالي فإن غوغل (كما السوبر ماركت) هي جزء من تعميم التسليع الذي تحدّث عنه ماركس وليس جزءاً من عملية إنتاج القيمة الزائدة عبر عمل المجتمع. الفرق أنك في غوغل وغيرها تدخل للتسلية والترفيه أو للبحث وربّما تشتري شيئاً؛ أمّا في السوبر ماركت فأنت مضطر لقضاء هذا الوقت في عملية الشراء، لم تكن مضطراً عليه من قبل؛ لكن ليس هناك عمل غير مدفوع ولا هنا أيضاً.
الأمر الآخر، في المقالة الثانية حول غوغل ذكرت أنه تمّ احتساب الوقت الذي يوفّره كلّ باحث أميركي على محرّك غوغل، ليتبيّن أن كلّ عامل أميركي بالغ يحصل على ما يعادل 500 دولار سنوياً من البحث على محرّك غوغل. فهل علينا، إذا سلّمنا جدلاً بأن البحث على غوغل هو عمل غير مدفوع، أن نعتبر أن هذا التوفير إذاً أجر مقابل هذا العمل؟ وهو أمر غير قليل القيمة بالمناسبة. فإذا أخذنا عدد العمّال البالغين في الولايات المتّحدة البالغ عددهم 145 مليوناً، ما يجعل «أجرهم» من البحث على غوغل يساوي 72.5 مليار دولار سنوياً، أي أن «الأجر السنوي» يساوي تقريباً قيمة أسهم الصندوق العامّ الذي يساوي 10% من قيمة غوغل السوقية البالغة الآن حوالى 740 مليار دولار. كما أن هذا «الأجر» هو أكبر بكثير من العائد الذي سيحصل عليه هؤلاء من اقتراح فاروفاكيس، الذي لا يمكن عائده السنوي أن يكون لكلّ أميركي عامل أكثر من 50 دولاراً (إذا كان العائد 10% على الصندوق). وماذا عن غير الأميركيين؟ هنا نرى أن هذه الحسابات تدخلنا في متاهات لا طائل منها. فهنالك أيضاً للتذكير قيمة «السعادة» (أو التعاسة) التي يحصل عليها مستخدمو فايسبوك وإنستغرام وغيرهما، فهل هي «أجر» أيضاً؟ وإذا كانت «تعاسة»، فهل هذا يعني أن هناك استغلالاً مزدوجاً؟
من الواضح أن هناك استسهالاً لعملية توسيع نطاق عمل النظرية الماركسية. إن نظرية القيمة الزائدة هي ليست وجهة نظر ولا هي نظرية أخلاقية للاستغلال يمكن تطبيقها بشكل عشوائي، إذ عندها تصبح عملية لغوية وغير دقيقة. كما أن الأمر قد يكون له عواقب غير حميدة. ففي حالة غوغل مثلاً، إذا كان الحلّ هو بدفع هذا الأجر غير المدفوع أو أن المستخدم يحصل عليه أصلاً عبر توفير الوقت أو عبر الرفاه، فماذا يبقى من نقد الرأسمالية عندها؟ والأمثلة على الأخطاء في هذا المجال كثيرة: من محاولة توسيع النظرية الماركسية في تفسير الإمبريالية إلى ما سُمّي «التبعية»، إلى عمل المرأة المنزلي. البعض يقوم بهذا التوسيع خدمة لأجندات سياسية أو فئوية، والبعض لأهداف نبيلة، ولكن بائسة، من أجل اكتشاف مكامن جديدة للظلم أو الاستغلال في الاقتصاد والمجتمع، والبعض بالطبع من أجل الاكتشاف العلمي. في ما عدا الأخير، كما رأينا هنا وفي العديد من الأوقات، يمكن للسحر أن ينقلب على الساحر.