منذ عام 1993، تدفّقت على لبنان رساميل وتحويلات ضخمة تجاوزت قيمتها 280 مليار دولار، إلّا أنها لم توجّه للاستثمار، بل موّلت عجزاً تجارياً بقيمة 261 مليار دولار، وغذّت مضاربات عقارية (المبيعات العقارية) قُدّر حجمها بأكثر من 170 مليار دولار، ورتّبت مديونية عامّة وخاصّة تبلغ اليوم 4 أضعاف مجمل الناتج المحلّي السنوي. هذه الأرقام تروي القصّة الأكثر إثارة لكيفية وصولنا إلى ما نحن عليه اليوم من حالة بائسة. وتفسّر سبب حاجتنا المُستمرّة إلى المزيد من الدولارات وإدماننا على التحويلات وتدفّقات الودائع وطبع العملة!بلغت التدفّقات الخارجية التراكمية إلى لبنان نحو 280 مليار دولار بين عامي 1993 و2018 (حتى حزيران/ يونيو). لفهم دلالات هذا الرقم، لجأ البنك الدولي إلى المقارنة بين ما تدفّق إلى لبنان بعد الحرب الأهلية وبين ما تدفّق إلى كلّ أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية. فقد بلغت قيمة حزمة المساعدات الشاملة، في إطار خطّة «مارشال» لإعادة الإعمار، نحو 170 مليار دولار (بأسعار عام 2005)، ولم تتجاوز حصّة ألمانيا منها أكثر من 10 مليارات دولار فقط. وخلُص خبراء البنك (في تقرير إلى وزارة العمل ضمن برنامج مايلز ــــ 2010) إلى طرح السؤال الآتي: هل وضع لبنان اليوم يُقارن بوضع ألمانيا في عام 1965؟
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

طرح السؤال على هذا الشكل يدفع إلى تخيّل ما ستكون عليه حالنا لو أننا استثمرنا ملياراتنا الـ280 كما استثمرت ألمانيا ملياراتها الـ10. حتّماً كنّا الآن نعيش في ظروف أفضل وبحبوحة أكثر ونحظى بخدمات جيّدة ومستوى معيشي مقبول. ولكن ما حصل عندنا كان بعكس السير تماماً، فقد عمد لبنان إلى طرد الدولة كلّياً وتجيير وظائفها لرأس المال الخاصّ وخفّض الضرائب على الأرباح ووسّع الإعفاءات الضريبية ورفع أسعار الفوائد وزاد المديونية العامّة والخاصّة وشجّع المضاربات على أسعار الأراضي وفورات البناء وتقشّف في الإنفاق الاستثماري وجمّد الأجور لفترات طويلة وأبقى حدوده مُشرّعة على تدفّقات رأس المال والعمالة الأجنبية وخفّض الرسوم الجمركية إلى أدنى مستوى على استيراد السلع والخدمات.
ماذا كانت النتيجة في لبنان؟ لنفترض أن شخصاً ما يمتلك مليون دولار في مكان ما، ولا يستطيع أن يجني عليه عائداً مضموناً قليل المخاطر بأكثر من 1% مثلاً (سجّلت أسعار الفائدة أحياناً معدّلات سلبية، أي ناقص (ـــ)، في اقتصادات عدّة). فإذا عُرض عليه عائد حقيقي مضمون يتجاوز هذه النسبة بأضعاف مُضاعفة (لنفترض 25% كما يجري العرض حالياً)، فمن الطبيعي أن نتوقّع أن يقوم هذا الشخص بتوظيف المليون دولار حيث العائد يكون أعلى وأسهل وأسرع، بمعزل عمّا إذا كان هذا العائد سيتحقّق في مقابل عمل أو لا. هذا تماماً ما حصل في لبنان منذ نهاية الحرب الأهلية، فقد جرى عرض أسعار فائدة سخيّة جدّاً ومعفاة من الضرائب لتحفيز تدفّقات الرساميل، وهي بمعظمها ديون خارجية (بما فيها ودائع غير المقيمين) وتحويلات من اللبنانيين العاملين في الخارج واستثمارات مباشرة في العقارات. هذه التدفّقات أدّت بدورها إلى تضخيم موجودات المصارف، فعمدت إلى توظيفها في قروض الدولة والقطاع الخاصّ، ولا سيّما القروض السكنية للأسر. بمعنى أوضح، انتهت هذه التدفّقات إلى تمويل الاستهلاك الذي بلغ أكثر من 100% من مجمل الدخل السنوي المُنتج محلّياً، وقام بدور محرّك النمو الاقتصادي شبه الوحيد، إلى جانب الاستثمارات في شراء الأراضي وتشييد الأبنية والأنشطة والخدمات المُرتبطة بهما.
لتبسيط القصّة أكثر، أدّت آلية جذب التدفّقات الخارجية، المُعتمدة على تثبيت سعر صرف الليرة ورفع أسعار الفائدة على الودائع وسندات الدين ودعم الأرباح العقارية، إلى رفع الأسعار المحلّية وزيادة كلفة الإنتاج المحلّي، وبالتالي الاعتماد أكثر على الاستيراد لتلبية الحاجات الاستهلاكية المُتنامية. ففي الفترة بين كانون الثاني/يناير 1993 وحزيران/يونيو 2018، استورد لبنان سلعاً بقيمة تصل إلى 317 مليار دولار، ولم يصدّر في المقابل إلّا بقيمة 55 مليار دولار، ما أنتج عجزاً تجارياً مع الخارج تجاوزت قيمته 261 مليار دولار، أي أن لبنان صرف أكثر من 93% من تدفّقات الرساميل التي حصل عليها في هذه الفترة على تمويل عجزه التجاري، ما أدّى إلى هدر طاقات وموارد هائلة وفوّت عليه فرصة مراكمة رأس مال مُنتج وثروة وأصول كافية، تقيه «المرض الهولندي»، أي تلك الحالة التي تؤدّي فيها التدفّقات الخارجية إلى جعل عملة البلد المعني أقوى بالمقارنة مع عملات الشركاء التجاريين، فترتفع كلفة صادراته ويصبح الاستيراد أرخص من الإنتاج، وتصبح الأنشطة الزراعية والصناعية عاجزة عن المنافسة.
لقد نجحت هذه الآلية في توفير التمويل للاستهلاك حتى عام 2010، ولو من دون استثمار. ولكن منذ عام 2011 انقلبت الآية، فتدفّقات الرساميل لم تعد تكفي لتمويل العجز التجاري، ووفق حسابات البنك الدولي، بلغ العجز التجاري المُتراكم في السنوات الثماني الماضية أكثر من 126 مليار دولار، في حين بلغت قيمة التدفّقات الخارجية أقلّ من 118 مليار دولار، أي أن لبنان عانى من نقص فادح في الدولارات المطلوبة لتمويل عجزه التجاري، بقيمة بلغت 8.5 مليارات دولار، وفق تقديرات مصرف لبنان على أساس المنهجية المُعدّلة اعتباراً من تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي لاحتساب نتائج ميزان المدفوعات، علماً بأن حسابات «بلوم بنك» على أساس المنهجية السابقة المُعتمدة عالمياً تبيّن أن النقص الفعلي في هذه الفترة تجاوز 13 مليار دولار، وهو ما دفع مصرف لبنان إلى دعم رفع الفوائد مجدّداً وإجراء الهندسات المالية للتحكّم بالسيولة المُتاحة وإغرائها للبقاء، في ما يشبه عملية المُصادرة، والدفع بالاقتصاد اللبناني إلى المزيد من التراجع والركود وفقدان التوازن والاستقرار.