«إن المعضلة في الأعوام المقبلة تَكْمُن في البحث عن المعنى في بحرٍ من الرموز المحايدة»بيتر ديفيس

في بعض فصول كتاب «حلم ديكارت»، يناقش أستاذ الرياضيات التطبيقية في جامعة براون بيتر ديفيس خبير البرمجة تشارلز شتراوس حول قراءة الأخير لتأثير دخول الحاسوب على المؤسّسات الرأسمالية. الكتاب نُشر في عام 1986، أي في عصر ما قبل الإنترنت وما قبل الانتشار الواسع للحوسبة وطبعاً قبل غوغل. يقول شتراوس آنذاك: «الحاسوب يجعلنا نتعلّق به. نستطيع أن نقطع مع حاسوب واحد ولكن ليس مع كلّ الحضارة الحاسوبية. للأفضل أو للأسوأ نحن أصبحنا معلّقين». في ذلك الوقت كانت مكانة الكمبيوتر في المؤسّسات هامشية وتقنية وتخلق فئة من الموظّفين الهامشيين، «حيث في الكافيتيريا لا يصادقون الكثيرين من الموظّفين الآخرين». بالطبع مع الانفجار الكبير لعالم الحوسبة، أصبح من الجلي أن ما قاله شتراوس في 1986 هو اليوم أكثر من حقيقة، وأصبح الكثير من هؤلاء المهمّشين سابقاً في أساس عمل الشركات الرقمية والاتصالاتية، التي تشكّل حوالى 11% من أكبر 2000 شركة في العالم. سؤال لينين يطرح نفسه دائماً: ما العمل؟ هل نحاول أن نقطع مع هذا العالم بعدما اتضح أنّنا أكثر من متعلّقين به، والذي قد يكون أصبح مصدراً للتعاسة في المجتمعات المُتصلة دوماً؟ هل هذا سيدفعنا إلى نوع من اللاضية (Luddite) الجديدة؟
أنجل بوليغان ــ المكسيك

طبعاً، في كلّ عصر هناك لاضيون. مثّلهُمْ بشكل صارخ في عصرنا المُفجر تد كازنسكي، صاحب المانيفستو الشهير الذي قال فيه: «إن الثورة الصناعية وتَبِعاتها كانت كارثية على الجنس البشري». شنّ كازنسكي سلسلة من العمليات الإرهابية بين عامي 1978 و1995 التي طالت من بين أهدافها البعض ممّن كان يعمل في مجال الحوسبة. هذا أيضاً كان قبل الانفجار الكبير. اليوم، في نسخة جديدة من هذه اللاضية، ولكن أقل عنفاً، إذ أنها فقط تشجّع على قتل النفس الافتراضية، هناك حركة «آلة الانتحار 2.0»، التي تسمح لك بمحو حسابات الفايسبوك وتويتر ولينكد إن وغيرها. يقول منتجو هذا البرنامج: «إن هذه الآلة تسمح لك بمحو كلّ بروفايلاتك الممتصّة لطاقاتك على دوائر التواصل الاجتماعي وقتل كلّ أصدقائك الافتراضيين الاصطناعيين... كلّ شخص لديه الحقّ بالقطع. إن الاتصال المستمرّ والتجارب الاجتماعية الغنية التي تؤمّنها شركات الويب 2.0 هي الضدّ للحرّية الإنسانية... ماذا سأفعل بعد أن أقتل نفسي بواسطة هذه الآلة؟ حاول أن تتصل ببعض الأصدقاء، اذهب إلى نزهة في المنتزه، أو اشتري قنينة نبيذ وحاول أن تستمتع بحياتك الحقيقية مرة أخرى». لا بأس، أو حتّى هذا قد يكون جيّداً لبعض الأشخاص إن فعلوه؛ ولكن لنتذكّر ما قيل في 1986 «نستطيع أن نقطع مع حاسوب واحد ولكن ليس مع كلّ الحضارة الحاسوبية» في استشراف بارع لما سيحدث لاحقّاً.
طبعاً هذا الطريق هو معادٍ للحداثة وقد فشل منذ بداياته في أواخر القرن الثامن عشر، على الرغم من النوايا «الحسنة» لبعض محازبيه. لكن إذا كانت اللاضية ليست هي الحلّ فما هو؟ يتصارع الآن إلى حدّ كبير تيّاران أساسيان. الأوّل، يرى في هذه التكنولوجيا أداة لتحقيق أرباح احتكارية للرأسمال. والتيار الثاني، هو خليط مِن مَن يريد أن «يُنظّم» هذه التكنولوجيا مع من يريد أن يجعل منها مدخلاً لنوع من الاقتصاد التشاركي.
في أواسط تشرين الأوّل/ أكتوبر الحالي أطلقت لجنة التجارة الفيدرالية في الولايات المتّحدة ما قالته مجلّة فاست كومباني «أنها أوسع دراسة للتمركز المؤسّساتي في أميركا منذ 20 عاماً». والهدف الأساسي من هذه الحملة هو محاولة تنظيم الشركات الكبرى وتخفيف سيطرتها الاحتكارية المتزايدة في الولايات المتّحدة. وتذكر المجلّة في هذا الإطار القلق المتزايد من سطوة شركات غوغل وأمازون وفايسبوك وغيرها «من العمالقة الرقميين». الأمر جيّد، ولكن المجلّة تقول أيضاً إن اللجنة تستمع للأشخاص الخطأ في جلساتها، فهم كلّهم اقتصاديون يعملون جزئياً لدى هذه الشركات أو لدى شركات استشارية تعمل لحساب «العمالقة» (أحدهم من جامعة شيكاغو راكم 100 مليون دولار من هذا العمل بدوام جزئي!) . وكلّهم يعارضون تدخّل الدولة الأميركية عبر قوانينها ضدّ الاحتكار. يقول أحدهم إن «السؤال عمّا إذا كانت فايسبوك وغوغل وأمازون شركات احتكارية هو أمر مثير للاهتمام وعظيم أن نقرأه على صفحات نيويورك تايمز، ولكن السؤال غير مهمّ إطلاقاً في مجال القوانين المضادّة للاحتكار». البعض بالطبع ركّز على أهمية النظر إلى هذه الشركات أو البلاتفورمات التكنولوجية لناحية ابتكاراتها وتطويرها للتكنولوجيا وليس من جانبها الاحتكاري، وصولاً إلى أن تعتبِر مثلاً كاتيا ستييم من كلّية وارتون أن «الأرباح فوق ـــ الطبيعية عليها ألّا تكون بالضرورة مصدر اهتمام النظاميين الحكوميين عندما يتعلّق الأمر بالبلاتفورمات التكنولوجية»!
في المقلب الآخر، وفي 19 شرين الأوّل/ أكتوبر، كتب يانيس فاروفاكيس مقالاً بعنوان «ماذا فعلت غوغل في زمانها لنا؟» يطرح فيه أمرين أساسيين. الأوّل، الحاجة إلى أن تكون غوغل ومثيلاتها مدخلاً إلى نوع من الاقتصاد التعاوني ضمن الرأسمالية، إذ يدعو إلى أن تصبح 10% من أسهم الشركة مملوكة من قبل صندوق اجتماعي تذهب عوائده إلى المجتمع بشكل عام. والثاني، وهو المُبرر للأوّل، أن المستخدمين لخدمات غوغل هم جزء من العمّال الذين ينتجون السلع، وبالتالي لديهم الحقّ في العوائد الناتجة عنها أو ما يُعرف بالعمل الرقمي غير المدفوع. لن أدخل في موضوع «العمل غير المأجور» ومدى صحّته فهذا للحلقة المقبلة. لكن ثلاثة أمور يمكن مناقشتها في مقالة فاروفاكيس، الذي يعتبر نفسه بأنه ماركسي انتقائي أو (eclectic)، وطبعاً كان قتاله مشرّفاً ضدّ الترويكا وضدّ تراجع سيريزا عن برنامجها الانتخابي تحت ضغط «الانقلاب من قبل المصارف».
الأمر الأوّل، يقول فاروفاكيس إنه بسبب كون هذه الشركات تنتج سلعاً مجانية، بالإضافة إلى أنها تستطيع التهرّب من الضرائب على الأرباح عبر «نقل» أرباحها من منطقة شرائية إلى أخرى، فإن البديل عن الضرائب هو نقل جزء من الملكية إلى العامّ. صحيح ما يقوله فاروفاكيس، ولكن البديل عن الضريبة على السلعة أو الضريبة على الأرباح يمكن أن يكون ضريبة على حجم الأعمال أو على الأسهم أو على عدد المشتركين أو المستخدمين، وهذه كلّها لن تسمح بالتهرّب من الضرائب. الأمر الثاني، يُوحي فاروفاكيس أن أرباح غوغل ومثيلاتها هي غير أرباح الشركات الأخرى، إذ يقول: «عندما بنى جايمس وات أحد محرّكاته البخارية الشهيرة فهذا كان ابتكاره ومنتجه. أمّا الشاري الذي وضع هذا المحرّك، لنفترض في مصنع نسيج، يستطيع أن يُفكر أن تدفّقات أرباحه هي فقط مكافأة على كونه أخذ مخاطر شراء المحرّك وابتكاره في وصله مع الحائك الميكانيكي. لكن غوغل لا تستطيع أن تدّعي أن منسوب ربحها كان منتجاً بنفسها بشكل كامل». لن أدخل الآن في طبيعة أرباح غوغل، ولكن القول إن أرباح الشركات، ما عدا غوغل ومثيلاتها، هي ناتجة عن «أخذ المخاطر» وليس عن القيمة الزائدة وفق النظرية الاقتصادية الماركسية لهو استسلام فكري لمنطق الرأسمال (ربّما من أجل تسجيل نقطة ضدّ غوغل)، وهذا غير صحيح أصلاً لا بالأمس ولا اليوم، وهو تفسير تخلّى عنه الكثير حتى من الاقتصاديين البورجوازيين في ظلّ التباعد بين الإنتاجية وبين الأرباح وفي ظلّ صعود الاحتكار والبلوتوقراطية في الولايات المتّحدة. ثالثاً، إن الدعوة إلى تخصيص 10% لصالح العامّة هو اقتراح لا بأس به، بل هل هو أكثر واقعية من فرض الضرائب؟ في الواقع، لقد برهنت غوغل ومثيلاتها على أن حلم البرامج المفتوحة والعامّة التي برزت لفترة خلال ظهور عصر الحوسبة قد انتهى. فهي كلّها الآن تنتمي إلى ما يُسمّى «مؤسّسات السوبرستار» التي تحصل على السوبر - أرباح وتؤدّي إلى تزايد عدم المساواة بين الرأسمال والعمل. وبالتالي، فالطرح يجب أن لا يركّز عليها فقط. فالاقتصاد التشاركي يجب أن يُفرض من الدولة على جميع المؤسّسات، حتّى ولو لم تكن رقمية، كما يفعل برنامج حزب العمّال البريطاني لأن غير ذلك ليس مُمكناً سياسياً، كما أنه يشكّل اعترافاً ضمنياً بأن الأرباح في الاقتصاد غير الرقمي، وحتى في أجزاء كبيرة من الاقتصاد الرقمي نفسه، يجب ألّا تكون خاضعة للاجتمعة.
من الواضح أن الرياضيات والحوسبة لم يعودا «رمزين محايدين»، بل أصبحا جزءاً من الرأسمالية بكلّ تجلّياتها فهي تدفع بقوى الإنتاج إلى الأمام. لكن إريك برينيولفسون في مناقشة TedTalk يقول إن الظروف الحالية لا تسمح لنا بأن نكوّن «أثينا رقمية». الجواب بالطبع لا، ولكن التناقض بين ما يمكن أن تنتجه هذه «الرموز» وبين سيطرة القلّة يتزايد يوماً بعد يوم، ومن الواضح أنه لا يمكن الاستمرار في هذا المنع للأكثرية من التمتّع بثمار هذا التقدّم من سلع ومن أوقات حرّة؛ وهذا سيُنذر بنهاية الرأسمالية لا بإصلاحها.