في التغطية الأخيرة حول أسباب انهيار «ليمان براذرز» وسُبل ضمان عدم تكراره، كان هناك الكثير من التركيز على تغيير الحتميات الاقتصادية للاتحاد الأوروبي، بعيداً من سياسات التقشّف التي أسهمت في قرار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وصعود اليمين المتطرّف، وزيادة معارضة الهجرة، بالإضافة إلى النشاط الاقتصادي البطيء، لا سيّما في منطقة اليورو. ما كان غائباً هو مناقشة تفصيلية لما يجب القيام به على الأرض. ولكنّنا في تقرير مجموعة Green New Deal (الصفقة الخضراء الجديدة) بعنوان «الخيار الأوروبي: كيف يمكن لبرنامج تيسير كمّي صديق للبيئة وضرائب عادلة أن تحلّ محل التقشّف»، اقترحنا خطّة شاملة لمشروع بنية تحتية مستدامة على مستوى القارة لتوليد «وظائف في كلّ مجتمع». وللردّ على السؤال المُعتاد حول كيفية تمويل المشروع، اقترحنا أن يأتي التمويل من جولة جديدة من التسهيل الكمّي، ولكن هذه المرّة، ستتّخذ العملة الإلكترونية شكل «البنية التحتية الخضراء» لتمويل النشاط الاقتصادي الحيوي والمكثّف. وعلى المدى المتوسّط، يمكن أن يأتي التمويل الكبير من زيادة أكثر فاعلية وإنصافاً للضرائب التي يتمّ جمعها في أوروبا من أفراد أغنياء وشركات.
تشير التقديرات إلى أن قيمة التهرّب الضريبي (التخلّف غير القانوني عن الدفع أو الدفع الناقص للضرائب) في الاتحاد الأوروبي تبلغ حوالى 860 مليار يورو سنوياً. وفي المقابل، من الصعب تقييم تجنّب الضرائب (السعي إلى تقليل الفاتورة الضريبية من دون خداع متعمّد)، وهو المكوّن الرئيسي الآخر للفجوة الضريبية في أوروبا، ولكن من الممكن تقديره بحوالى 150 مليار يورو سنوياً. وبالتالي، من المرجّح أن التهرّب من الضرائب وتجنّبها قد يكلّفان حكومات الدول الأعضاء تريليون يورو في السنة.
فصّلنا في تقرير نشرناه أخيراً، بعنوان «وظائف في كلّ دائرة: إعلان مبادئ لصفقة جديدة صديقة للبيئة»، الشكل الذي سيأخذه هذا البرنامج في المملكة المتّحدة، ويتكوّن من برنامج للبنية التحتية لخفض انبعاثات الكربون على مستوى البلاد ويركّز على:
• جعل مباني المملكة المتّحدة البالغ طولها 30 متراً عالية الكفاءة في استخدام الطاقة لتقليل فواتير الطاقة بشكل كبير ونقص الوقود وانبعاثات غازات الدفيئة.
• تسريع التحوّل إلى إمدادات الطاقة المتجدّدة والتخزين على ضوء الانخفاض الهائل في أسعارها في كلّ أنحاء العالم وزيادة توافرها.
• معالجة أزمة السكن من خلال بناء منازل جديدة بأسعار معقولة ومعزولة حرارياً غالباً في مواقع صناعية مهجورة.
• سياسة نقل تركّز على إعادة بناء خطوط محلّية للنقل العامّ.
• صيانة نظام الطرق والسكك الحديدية في المملكة المتّحدة بأساليب صحيحة ومناسبة.
• تشجيع الشركات والأفراد على استخدام السيّارات والآليات الكهربائية ومشاركتها.
يتطلّب ذلك عملاً مُكثفاً، ويحصل في كلّ منطقة، ويشمل أعمالاً تصعب أتمتتها. كما يسهم في تحسين التماسك الاجتماعي والاستدامة البيئية.
سيعالج برنامج العمل الضخم هذا في مجال الطاقة والنقل مشاكل عدّة موجودة في مجتمعنا. فمن شأنه أن يوفّر هيكلاً وظيفياً آمناً لعقود من الزمن. وسيتطلّب ذلك تدريباً مهنياً كبيراً، وسيوفر نطاق وظائف طويلة الأجل تؤمّن فرصاً متزايدة للعاملين لحسابهم الخاص والشركات المحلّية الصغيرة. وهذا النمو في النشاط الاقتصادي المحلّي بدوره سيتيح وظائف أخرى لخدمة هذا الإنفاق المتزايد.

برنامج بقيمة 50 مليار جنيه استرليني
فيما يتعلّق بالتمويل، من المرجّح أن تبلغ الكلفة الأولية لهذا البرنامج الضخم للبنية التحتية أكثر من 50 مليار جنيه إسترليني سنوياً. ويمكن جمع التمويل من خلال الاقتراض الحكومي التقليدي بأسعار الفائدة المنخفضة الحالية، بالإضافة إلى استخدام «التسهيل الكمّي الصديق للبيئة» للمساعدة في إعادة بناء الاقتصادات المحلّية. (من شأن ذلك استغلال قدرة الحكومة على توفير أموال جديدة من دون أي كلفة على دافعي الضرائب، هذه القدرة التي تم استخدامها حتى الآن فقط لإنقاذ قطاع الخدمات المالية). ويمكن جمع تمويل إضافي من ضرائب أكثر عدلاً عبر إتاحة فرص ادّخار في سندات السلطات المحلّية وحسابات ادّخار فردية، بما يرسي حالة من التضامن عابرة للأجيال بين المدّخرين (من الأجيال الأكبر سنّاً في معظم الأحيان) والجيل الأصغر سنّاً الذي سيستفيد من الوظائف المُستحدثة.
ومن المقدّر أن تحقيق التحوّل في اقتصاد المملكة المتّحدة على مدى السنوات العشر المقبلة يتطلّب ما لا يقلّ عن 500 مليار جنيه استرليني من الاستثمار في البنية التحتية الجديدة ذات انبعاثات الكربون المنخفضة، يذهب 230 مليار جنيه استرليني منها لكفاءة الطاقة وحدها. وأشارت شركة النقل من أجل الشمال (TfN) إلى أن استثمار ما بين 60 و70 مليار جنيه استرليني في شبكة الطرقات وسكك الحديد القديمة شمال إنكلترا، بين عامي 2020 و2050، يمكن أن يضيف ما يقارب 100 مليار جنيه استرليني من الفائدة الاقتصادية الحقيقية للمملكة المتّحدة، إلى جانب استحداث 850 ألف وظيفة جديدة. وعلى مستوى البلاد، ستشمل التدابير الصغيرة والقليلة الكلفة، تحسين المحطات وخدمات النقل بالحافلات ومرافق ركن السيّارات المربوطة بشبكة النقل، من خلال منح الأولوية للحافلات وممرّات الدرّاجات ومخطّطات تسيير حركة المرور ونوادي السيّارات ومخطّطات تأجير الدرّاجات.
يجب استخدام هذه المبالغ الهائلة بحكمة لضمان وضع مبادرة وطنية ذات جدول زمني واقعي ومدروسة الكلفة، وبالتالي لا تقود إلى التضخّم، لتدريب وتوظيف «جيش كربون» بأجر عادل للعمل في هذا البرنامج.
وبالطبع إن المشاريع المقترحة هي مجرّد اقتراحات. وكما هو واضح، ثمّة الكثير للقيام به. وسيتعيّن القيام باختيارات عند تحديد أولويات الصفقة الجديدة. فالقضية ليست نقصاً في الطلب أو الأفكار بل نقصاً في الاستعداد لتقديم ما هو ضروري ومطلوب.

إعلان مبادئ لوظائف في كلّ دائرة
يجب على الحكومة الالتزام ببرنامج مفصّل يشرح كيفية توليد فرص العمل في كلّ دائرة انتخابية، وذلك مثلاً عبر استخدام مقترحات الطاقة والنقل المُدرجة في الصفقة الجديدة. وهذا يتطلّب مشاورات مكثّفة مع الحكومات المحلّية والشركات والسكّان لتحديد كيف يجب أن يبدو برنامج كهذا على أرض الواقع.
يجب على الحكومة الالتزام ببرنامج تدريبي ضخم يولّد مجموعة كبيرة من المهارات لتشكيل «جيش الكربون» اللازم لتحقيق مستقبل منخفض انبعاثات الكربون. كما ستكون هناك حاجة إلى قطاع تمويل لنشر الدعاية وتقديم النصح ووضع التمويل موضع التنفيذ.
ويجب أن تشرح الحكومة بعد ذلك كيف يمكن لهذا النهج أن يخفّف من آثار أي انكماش اقتصادي عالمي مستقبلي، وأن يساعد في التعويض عن الاتجاهات المتوقّعة في الأتمتة. كما يجب أن توضح أن الميزة الرئيسية لمثل هذا النهج هي المساعدة في الوفاء بالتزامات المملكة المتّحدة بموجب اتفاقية باريس للحدّ من انبعاثات الكربون.

إنه الوقت لصفقة أوروبية جديدة صديقة للبيئة
ثمّة الكثير من القلق من جانب الخضر واليسار وأحزاب الوسط حول كيفية وقف صعود اليمين في القارة الأوروبية. ومن الممكن لهذه الأحزاب أن تقدّم مساهمة هائلة إذا ما أيّدت إعلان المبادئ هذا، لما يولّده من أمل للمستقبل وما يقدّمه من أمن اقتصادي للجميع، وفي الوقت نفسه ما يحمله من ضمانات لحماية البيئة بالكامل.

* كولن هاينز: هو منسّق مجموعة «الصفقة الخضراء الجديدة» ومؤلّف كتاب Localization: Global Manifesto

* نشر بترخيص من Social Europe
* ترجمة: لمياء الساحلي