يوم الأربعاء الماضي، التقى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة خمسة نواب (نعمة افرام، ميشال ضاهر، إدي أبي اللمع، شوقي الدكّاش والياس حنكش)، وقال أمامهم أن العودة إلى دعم فوائد القروض السكنية غير مُمكنة، إلا إذا فرضت الدولة ضريبة بقيمة 5 آلاف ليرة على كل صفيحة بنزين وزادت معدّل الضريبة على القيمة المضافة مجدّداً!بعدها بيومين، أي يوم الجمعة الماضي، التقى وزير المال علي حسن خليل رئيس الهيئات الاقتصادية محمد شقير وأمينها العام نقولا شمّاس. وأبلغهما، وفق بيان صدر باسم «الهيئات»، موافقته على «تأجيل تطبيق الرسم السنوي المقطوع المفروض على المكلّفين بضريبة الدخل، وأجرى اتصالاً برئيس مجلس الوزراء سعد الحريري واتّفقا على آلية إقرار التأجيل وإعفاء المكلّفين من الدفع حتى عام 2020». كذلك وافق خليل على «إعداد نصّ قانوني مُعجّل مُكرّر لتمديد مهلة الاستفادة من التخفيض الاستثنائي على الغرامات الضريبية المختلفة من 20/10/2018 إلى 31/12/2018». ووعد أيضاً بـ«إعادة صياغة النصوص المُتعلّقة بإجراء تسويات ضريبية شاملة» (أي العفو الضريبي)، والتي كان المجلس الدستوري قد طعن بدستوريتها أخيراً، لأنها تخلّ بمبدأ المساواة بين المكلّفين وتكافئ التهرّب الضريبي وتشجّع عليه وتهدر الحق العام.
هذان الخبران يوجزان ما نحن مقبلين عليه، في ظل تزايد الحديث عن تفاقم أزمة التمويل في الاقتصاد اللبناني والتهديد بتخفيض سعر صرف الليرة؟ فمن جهة، يجري ابتزاز الأسر في حقّها بالسكن (مثلاً) لتحميلها المزيد من الأعباء الضريبية على استهلاكها. ومن جهة أخرى، يُراكم رأس المال المزيد من المكاسب والامتيازات والإعفاءات الضريبية، والمزيد من الفوائد السخيّة والعوائد الاستثنائية، ويستأثر بالدعم المباشر وغير المباشر، بحجّة الحاجة إلى دعم النمو الاقتصادي وميزان المدفوعات الخارجية، الذي يُسجّل عجوزات متراكمة منذ عام 2011، للمرّة الأولى في تاريخ لبنان منذ الاستقلال.
هذا هو تحديداً ما يعنيه «التقشّف» المدعوون إليه حالياً للمحافظة على النموذج الاقتصادي اللبناني وتأجيل انهياره وحماية المصالح الكامنة فيه أطول وقت ممكن. وهي الوصفة، أو ورقة التعليمات، التي يحملها صندوق النقد الدولي وتتعهّد الحكومة بتطبيقها ويضغط مصرف لبنان لتسريع الخطى إليها، وتهدف في حصيلتها، ومهما تباينت أهداف كل طرف من هذه الأطراف وحججه، إلى نقل قسم مهمّ من الكلفة التي ترتبت على سياسة التثبيت النقدي والهندسات المالية، من ميزانية مصرف لبنان إلى الموازنة العامّة، أي تمويلها مباشرة عبر الضرائب، وهو ما يدحض كلّياً كل ادعاء سابق عن «أن عمليات مصرف لبنان لا ترتّب أي كلفة على المال العام والمكلّفين بالضرائب»، الذي درج سلامة على تكراره منذ انفضاح كلفة الهندسة المالية الضخمة في عام 2016، والتي درّت أرباحاً هائلة للمصارف وكبار المودعين، قُدّرت بنحو 5.6 مليار دولار في 6 أشهر فقط (النصف الثاني من عام 2016).
أوصى صندوق النقد الدولي في تقريره الأخير (الممنوع من النشر) بتخفيض ملموس للعجز المالي بنسبة توازي 5% من مجمل الناتج المحلي، أي نحو 3 مليارات دولار بأسعار الناتج في عام 2018. وتعهّدت الحكومة في اجتماع «باريس 4» الأخير بإجراء هذا الخفض، عبر تخفيض الإنفاق العام، لا سيّما إلغاء الدعم لسعر الكهرباء وتوسيع الشراكات مع القطاع الخاص، وعبر زيادة الإيرادات (من دون تحديد مصادر هذه الزيادة). إلا أن خبراء الصندوق يعتبرون ذلك غير كاف، ولا بدّ من إجراءات جذرية أكثر، فهم لا يوصون بخفض العجز المالي فقط بل يوصون أيضاً بالعودة إلى السياسة النقدية «التقليدية»، أي استخدام أداة رفع سعر الفوائد مباشرة، بدلاً من الهندسات المالية، للمحافظة على الودائع وتحفيز التدفّقات الخارجية وتمكين المصرف المركزي من الاحتفاظ بموجودات عالية بالعملات الأجنبية، وكذلك يوصون بالإقلاع عن عمليّات «الرفع المالي» للأسر والشركات والتوقّف عن استخدام أدوات السياسة النقدية في دعم الفوائد على الودائع والقروض لجذب التدفّقات وتحفيز الطلب الداخلي والخارجي... وهذه التوصيات، التي يُشدّد عليها صندوق النقد الدولي، تعني أن على الموازنة العامّة أن تتحمّل أكلاف إضافية ترتّبت على سياسات مصرف لبنان في الفترة السابقة وأدّت إلى ربط نمو الطلب في الاقتصاد بزيادة المديونية العامّة والخاصّة، وعليها في الوقت نفسه أن تتحمّل كلفة رفع سعر الفائدة على الدَين العام لتفادي الأزمة المصرفية، وعليها أيضاً أن تُخصّص مساحة مالية كافية ومُطمئنة لتسديد الديون وفوائدها، وعليها فوق كلّ ذلك أن تُخفّض العجز المالي للحدّ من طلبها المتزايد على التمويل، في ظلّ ظروف شحّ واضحة وكلفة متعاظمة... لذلك، يضغط صندوق النقد الدولي، ويلتقي حاكم مصرف لبنان معه، من أجل فرض المزيد من الضرائب على الاستهلاك (الضريبة على القيمة المضافة والضرائب على المحروقات)، وفرض المزيد من «التقشّف» في الإنفاق العامّ المباشر على الاستثمار والتجهيز والصيانة والإنفاق الاجتماعي والدعم والإنفاق على الأجور ومعاشات التقاعد.
لماذا يحدث مثل هذا التمييز الاجتماعي الفاقع؟ ولما على الطبقة العاملة وفئات الدخل الأدنى والمتوسّط أن تتحمّل كلفة الأخطار المُحدقة وحدها؟
علينا أن نعلم أن نقل كلفة دعم فوائد الودائع وفوائد القروض، السكنية وغير السكنية، من ميزانية مصرف لبنان إلى الموازنة العامّة، لن يكون له أي معنى، من وجهة نظر السياسة النقدية، إذا كان مصرف لبنان سيواصل عمليّات طبع العملة وزيادة عرض النقود لتعويض نقص التمويل للموازنة والقطاع الخاصّ، وهو ما يحصل الآن ويساهم في زيادة الضغوط النقدية، إذ أصبح مصرف لبنان يلعب دور المقرض الأول للحكومة، وباتت حصّته من الدين الحكومي تبلغ نحو 41.5% فيما تراجعت حصّة المصارف التجارية إلى 32%، كما باتت قروض مصرف لبنان إلى المصارف نفسها تمثّل المصدر الأول لنمو موجوداتها، بما يفوق نمو ودائع الزبائن، ووصلت قيمة هذه القروض إلى نحو 24 مليار دولار، أو 10% تقريباً من مجمل مطلوبات المصارف. وكذلك بات أكثر من 62% من مجمل مطلوبات المصارف موظّفة في أدوات الدَين السيادي، ومعظمها كودائع لدى مصرف لبنان نفسه. ما يعني أن المصرف المركزي لم يعد يلعب دور المُنظّم أو المُحفّز في السوق، بل دور المموّل الأول للأرباح، وهذا وضع غير قابل للاستمرار. لذلك يجري العمل على نقل أخطاره من رأس المال إلى سائر فئات المجتمع عبر أدوات الفائدة والضرائب والتقشّف.
هنا يكمن الصراع الفعلي، على هذه الجبهة، حيث سيُجبر المقيمون في لبنان على القبول بمستوى معيشي أقل ممّا هو اليوم: أجور أقلّ وضرائب أعلى. في حين أن رأس المال المُهيمن لن يتحمّل أي كلفة، بل بالعكس فهو موعود بالاستثمار في التعويض عن الدولة وجني المزيد من الأرباح من تدهورها.
في النهاية، قد لا نحتاج إلى أكثر من طرح سؤال بسيط لإثبات مدى فداحة ما يجري على هذه الجبهة: كيف يمكن لأي كان أن يفسّر الضغوط لفرض ضريبة بقيمة 5 آلاف ليرة على كل صفيحة بنزين، سيتحمّلها الجميع من خلال رفع كلفة النقل المباشرة وتأثيرها على مجمل الأسعار. وفي الوقت نفسه، تشتدّ الضغوط لتأجيل تطبيق ضريبة أقرّت في عام 2000 ولم تنفّذ حتى الآن، وهي عبارة عن رسم سنوي مقطوع تُسدّده الشركات على اختلافها وأصحاب المهن الحرّة والتجّار، من دون الطبقة العاملة؟