في تشرين الأول/ أكتوبر من عام 2016، أصدرت محكمة العمل في لندن حكماً شكّل سابقة في تاريخ التقاضي ما بين العمّال وشركات التطبيقات الإلكترونية بشكل عام، وشركة «أوبر» بشكل خاص. نصّ القرار على اعتبار سائقي أوبر «عمّال» يخضعون للسيطرة والتحكّم المباشر من الشركة. وكان لهذا التصنيف تبعات مرتبطة بحق الحصول على حدّ أدنى من التقديمات الاجتماعية، بالإضافة إلى الحدّ الأدنى للأجور.اعتبرت هذه السابقة القانونية محطّة مفصلية في النزاع القانوني المتزايد ما بين العمّال وشركات التطبيقات حول تصنيفهم كعمّال دائمين أو عاملين لحسابهم الخاص أو كروّاد أعمال، فيما أطلق بعض الباحثين صفة «أعمال الريادة التهرّبية» (evasive entrepreeurship)، في محاولة أكاديمية للإضاءة على البعد التهرّبي من كلّ القوانين والأطر التشريعية الناظمة لعلاقات العمل، عبر جنوح الشركات لتصنيف العاملين فيها كروّاد أعمال أو متعاقدين مستقلّين.
أتى هذا القرار بُعيد رفض القضاء لتسوية بين «أوبر» وسائقيها في كاليفورنيا وماساشوستس الأميركيتين، والتي وافقت الشركة بموجبها على دفع مبلغ 100 مليون دولار كتعويض للسائقين. وقد اعتبر القاضي المبلغ زهيداً وغير كاف. كما استبق قرار محكمة العمل في لندن قرار آخر لمحكمة العدل الأوروبية، التي صنّفت «أوبر» كشركة مُقدّمة لخدمات النقل عبر سائقين غير محترفين بالضرورة، وطالبت من دول الاتحاد الأوروبي استثناء الشركة من القوانين التي تُعنى بشركات البرامج أو التجارة الإلكترونية.
قدّم قرار محكمة لندن في متنه توصيفاً دقيقاً لمجمل علاقة العمل بين السائق والتطبيق، بالإضافة إلى آليات تحديد البدل المادي وحصّة السائقين من التعرفة التي يتحمّلها الركّاب (الفقرات 15-27). كما تطرّق إلى طبيعة العلاقة التعاقدية بين الشركة والسائقين والركّاب على حدّ سواء (فقرات 28-57). وبناء على هذه المطالعة، اعتبر القرار السائقين مستخدمين بصفة عمّال لدى شركة «أوبر» في لندن، رافضاً ادعاء الشركة بأن العلاقة التعاقدية هي مع شركة «أوبر» المُسجّلة في هولندا، بما يعنيه ذلك من إعفاء الشركة لنفسها من المستلزمات القانونية تجاه المتعاقدين وحصرها بآليات التحكيم التجاري بين المتعاقدين.
إلا أن القرار نفسه ربط تصنيف السائقين كعمّال بشروط ثلاثة:
أولاً، أن يكونوا ناشطين logged-in على الشبكة.
ثانياً، أن يعملوا في النطاق الجغرافي المُحدّد لهم وفق الترخيص.
وثالثاً، أن يعبّروا أن رغبتهم بقبول رحلات عبر شبكة «أوبر».
هكذا، حصر القرار القضائي علاقة العمل بنطاق مكاني مُحدّد وبالإطار الزمني المُحدّد بنشاط السائقين على الشبكة. بمعنى آخر، فإن علاقة العمل أصبحت محصورة بالوقت الذي يكون فيه السائق جاهزاً ليبيع قوّة عمله عبر شبكة «أوبر»، وسيفقد هذه الوضعية في اللحظة التي يخرج بها من شبكة «أوبر» (logged-off). لذا فإن القرار القضائي، الذي اعتُبِر انتصاراً للسائقين هو بمكان ما يشرّع علاقة عمل هشّة تجتزئ مفهوم مسؤولية رأس المال تجاه العمّال، وتحصره بالوقت الذي تتحقّق به عملية بيع وشراء قوّة العمل (لحظة ولوج السائق للشبكة)، وتُحرّره من أي التزامات خارج هذه الفترة الزمنية (لحظة خروج السائق من الشبكة)، بما في ذلك التزامات استمرارية العمل.
لا تقف الملاحظات على القرار عند هذا الحدّ، بل تطال التصنيف الذي اعتمده القاضي، والذي يمنح السائقين صفة عمّال وليس موظّفين، وهو أحد التصنيفات الرسمية المُعتمدة في المملكة المتحدة. هذا التصنيف يحسم طبيعة العلاقة التعاقدية ويحصرها بين مشترٍ لقوّة العمل (ربّ العمل) وبائع لها (العامل)، إلا أنه لا يحمي العمّال من الصرف التعسفي دون سابق إنذار، ولا يمنح العمّال الحقّ بالمطالبة بساعات عمل مرنة، أو التوقف عن العمل في حالات الطوارئ، وفي حالة «أوبر» يمكن أن يمسّ ذلك الحق برفض القيام برحلات من دون أن يتأثّر تصنيف السائقين أو محاسبتهم. كما لا يتطرّق القرار إلى مسؤولية الشركة تجاه الرعاية الصحية للسائقين والتقديمات الاجتماعية الأخرى.
في سياق متصل، وجد القاضي أن السائقين، كعمّال، يقدّمون عملاً ماهراً يدخل في صلب نموذج أوبر لخدمات النقل ومسعاها لتوسيع هوامش أرباحها. إلا أنه لم يتطرّق لملكية السائقين لجزء أساسي من رأس المال المادي المُستخدم في عملية الإنتاج والمتمثّل بالسيّارات والهواتف الذكية (حوالى ثلاثين ألف سيّارة في لندن وحدها وثلاثة ملايين سيّارة في أكثر من 600 مدينة في العالم). فهذا الجزء الحيوي من رأس المال يتحمّل العمّال حصراً كلفته الاستثمارية المباشرة وصيانته وتطويره. ناهيك عن كلفة المحروقات التي تستخدم في عملية النقل، بالإضافة إلى كلفة الإنترنت المُستخدم. بالتالي، لم يتمكّن القرار القضائي من ملاحظة أن من وصفهم بالعمّال الماهرين هم في الواقع مالكين لرأس مال ثابت، يجبرون على وضعه تحت إشراف الشركة، ومنح الحق باستغلاله كشرط أساسي لتشتري الشركة قوّة عملهم. عملياً ما تشتريه «أوبر» من السائقين لا يمكن حصره بقوّة عملهم الحيّة، بل يتخطّاه إلى الحقّ باستغلال قوّة عملهم الميتة (وفق التعبير الماركسي)، والكامنة في شكل ملكياتهم الفردية (سيّارات أو أجهزة اتصال). أمام هذا الواقع، يصبح من الواجب التساؤل حول ماهية الحدّ الأدنى الذي مُنح السائقين حقّ الحصول عليه، فهل هذا يجب احتسابه قبل أو بعد اقتطاع أكلاف الإنتاج التي يتحمّلها العمّال بأنفسهم عوضاً عن الشركة؟ وبالتالي، كم سيبقى من الحدّ الأدنى للأجور بعد هذا الاقتطاع، الذي سيمثّل حقيقة الأجر الذي يتقاضاه السائق؟
ما لا شكّ فيه أن السابقة القضائية، التي أرستها محكمة العمل اللندنية، شكّلت تغييراً مفصلياً في تفسير العلاقة بين شركات التطبيقات الإلكترونية كـ«أوبر» والعمّال، وقدّمت نموذجاً عن إمكان الوقوف في وجه موجة إعادة التعريف الأحادية لعلاقات العمل، التي تفرضها الشركات الكبرى من موقع القوّة. إلّا أن اندفاعة العمّال نحو التقاضي، بوصفه الحلّ الأسلم والأنسب لتفسير النزاع بينهم وبين الشركات الجديدة، يجب أن يأخذ في الاعتبار أن التقاضي هو مسار طويل ومُستنزف للموارد المالية تحديداً، ولا سيّما في ظل نأي معظم المنظّمات النقابية التقليدية بنفسها عن هذه القضية (علماً أن الدعوى القضائية في لندن كانت برعاية واحد من أكبر الاتحادات النقابية البريطانية). كما يجدر الانتباه إلى مدى قدرة مسار التقاضي على فهم المتغيّرات الاجتماعية المباشرة (تحديداً في علاقات العمل المُستجدة)، ومدى قدرته على تفسيرها من خارج النص القانوني المُتاح وهامش الاجتهاد الذي تسمح به المعايير القانونية المُعتمدة. وكذلك تجدر دراسة الواقع المؤسّساتي والسياسي المُتحكّم بالنظم القضائية والمؤثّر فيها، ناهيك عن مقدرة الجهاز القضائي نفسه على فرض الالتزام بقرارته. ففي حالة «أوبر»، على سبيل المثال، نشطت الشركة ولفترات طويلة في الكثير من المدن في ظلّ فراغ تشريعي، زاد من صعوبة اللجوء للتقاضي.
إن التقاضي مسألة أساسية للفصل في النزاع بين المُستَغَل والمُستغِل إلّا أنه لا يمكن له أن يحلّ محل النضال الاجتماعي والسياسي لإعادة تشكيل قوّة العمّال كشريك في عملية الإنتاج، وهذا لا يتأتّى إلّا من خلال العودة إلى نقطة البداية، أي من تنظيم صفوف العمّال في أطر تنظيمية سياسية جماعية تمكّنهم من فرض أنفسهم كقوّة مؤثّرة في عملية الإنتاج، وقادرة على تعطيلها، بكلّ ما للكلمة من معنى، إذا ما دعت المصلحة. فالعلاقة ما بين رأس المال والعمّال قائمة على ميزان قوّة لا يمكن التأثير بها إلّا عبر بناء قوّة العمّال، ومحاولة تعديل هذا الميزان عبر نضال يومي مباشر على خطوط الإنتاج الإلكترونية، كما حصل سابقاً على خطوط الإنتاج في المصانع والمشاغل.

* باحث في اقتصاد المنصّات الالكترونية