«إن التثوير الدائم للإنتاج والتغيير المستمرّ لكل الأوضاع الاجتماعية واللايقين والاهتزاز المستمرّين هو ما يفرّق العصر البورجوازي عن كل ما سبقه... (حيث) كل العلاقات الجديدة تصبح قديمة قبل أن تتحجر»البيان الشيوعي

دخل العالم عصر الآلة الثاني، أو ما يسمّيه البعض الثورة الصناعية الرابعة، ولبنان لا يزال يصارع مع عصر الآلة الأوّل. وهو لا يتأخّر فقط عن اللحاق بموجة التكنولوجيا العالمية، أو دورة كوندراتييف الجديدة، ولكنه يتأخّر أيضاً عن أترابه في المنطقة العربية، التي هي أصلاً منطقة متأخّرة في اللحاق بغيرها من مناطق العالم، وخصوصاً في مجالات التكنولوجيا والابتكار والاستثمارات التي تؤدّي إلى ارتفاع الإنتاجية وتعميمها في الاقتصاد. أمام هكذا تأخّر في التطوّر والتنمية نسبة إلى الدول الأخرى، لا بدّ من طرح التحدّيات والإمكانات ومعها السؤال الذي يطرح نفسه أيضاً بإلحاح وقوة: ما العمل؟ وهذا السؤال يتردّد حتى في الاقتصادات الرأسمالية المتقدّمة، لأن الرأسمالية هي متحرّكة وديناميكية، فكما قال ماركس وإنجلز ففيها «كل شيء جامد يذوب في الهواء»، وعلى الرأسمالية أن تجتاز دوماً ما يمكن أن نسمّيه «امتحان البيان الشيوعي» من حيث استمرارها في تثوير قوى الإنتاج والقضاء على القديم.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

حالياً، دخل العالم الرأسمالي المتقدّم عصر الآلة الثاني أي عصر الروبوتات والذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الرقمية. هذا العصر الجديد يطرح في حدّ ذاته تحدّيات عدة تنبع من هذه التكنولوجيات الحديثة؛ أبرزها: تأثيرها على البطالة التكنولوجية (أي تلك المتأتية من التكنولوجيا) وتوزيع الدخل وطرق قياس الناتج المحلي. وإزاء هذه التغيّرات، لا يمكن للاقتصادات المتقدّمة، والتي حقّقت قفزات ضخمة منذ الثورة الصناعية في أواخر القرن الثامن عشر، أن تتجاهلها، إذ إن تجاهلها سيكون على حساب رفاه الأجيال القادمة. في هذا الإطار، هناك اقتراحات عدّة يجرى تداولها. على سبيل المثال، اقترح الاقتصاديان أريك برينيولفسون وآندرو مكآفي مجموعة من السياسات القصيرة المدى، التي يجب على الاقتصادات المتقدّمة أن تركّز عليها من أجل التكيّف مع الثورة التكنولوجية الجديدة، وأبرزها: التركيز على/ واستعمال التكنولوجيا في التعليم، ولكن مع إعطاء الأساتذة أجوراً أعلى مقابل محاسبة أكبر ودعم العلوم والعلماء والابتكار وتحديث البنى التحتية ووضع الضرائب على الريوع الاقتصادية غير المُنتجة.
من دون تحليل هذه الاقتراحات، المهمّ فيها أنه عند التحوّلات الكبرى لا يمكن أن تترك الاقتصادات من دون سياسات تدخّلية من الدولة.

بعض التجارب من شرق آسيا
وهنا يمكننا أن نلقي الضوء بسرعة على بعض التجارب التي كان فيها للتدخّلات المنهجية للدولة دور أساسي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. اليابان، على سبيل المثال، من خلال وزارة التجارة الدولية والصناعة (MITI) أطلقت خططاً طُبقت على التوالي من 1970 إلى 1990 مؤدّية الى التحوّل من الصناعات الثقيلة ذات الرأسمال الكثيف، والتي سادت بعد الحرب، إلى الصناعات المعرفية في الثمانينيات، ثم إلى القطاعات غير الاستراتيجية في تسعينيات القرن العشرين. وعلى المنوال نفسه، اجتازت خطط التصنيع في سنغافورة خمس مراحل من 1959 إلى 1990، بدءاً من استبدال الواردات الكثيفة العمالة إلى النمو الموجّه نحو التصدير في الفترة بين 1966 و1973 وانتهت بالتطوير التكنولوجي وتنويع الصناعة التحويلية في الثمانينيات. ومرّت السياسة الصناعية الكورية الجنوبية في ثلاث مراحل: في الأولى من 1961 إلى 1973، أطلقت كوريا حمائية قوّية للصادرات، ومن 1973 إلى 1981 كانت فترة الصناعات الثقيلة والكيميائية التي ركّزت على خلق صناعات كبيرة ذات رأس مال كبير مثل: الآلات الصناعية، بناء السفن، الصلب والبتروكيماويات. والمرحلة الثالثة ركّزت على الحوافز الوظيفية. والآن، بحسب مقالة في الفايننشال تايمز في 19 آب الماضي، فإن كوريا الجنوبية تواجه مفترق طرق تاريخياً، إذ إن المنافسة الصينية أدّت إلى أن يفقد النموذج الكوري التصديري زخمه مع انخفاض الصادرات من 55% من الناتج إلى حوالى 40%. وهذا المنحى الهبوطي مرشّح للاستمرار في ظلّ هذه المنافسة؛ وتنقل الفايننشال تايمز عن أحد أساتذة الاقتصاد في جامعة يونسيه «أن كوريا بحاجة إلى التركيز على البحث والتطوير في مجالات التكنولوجيا المتطوّرة، فالصين بدأت تسبق الشركات الكورية الجنوبية عبر الاستثمارات الضخمة». إذاً، الأمر لا ينتهي في هذا العالم الرأسمالي اللايقيني والمهتزّ دائماً.

تقرير التنافسية العربي
في 14 آب الماضي، أصدر المنتدى الاقتصادي العالمي تقريراً حول التنافسية في المنطقة العربية. ويتناول التقرير 12 بلداً عربياً هي: الإمارات، لبنان، الأردن، قطر، مصر، الجزائر، تونس، السعودية، الكويت، عمان، البحرين والمغرب. ويقيس التقرير درجة التنافسية عبر مؤشرات عدّة، أبرزها: البنى التحتية، البيئة الماكرو اقتصادية، الاستعداد التكنولوجي، الابتكار وكفاءة سوق العمل. ويصنّف هذه الدول وفق مؤشّر مركّب للتنافسية العالمية. وللمفاجأة، احتلّ لبنان الموقع الأخير بين الدول العربية والمرتبة 105 على المستوى العالمي من 137 بلداً.
إذاً، وضع لبنان سيئ، بل سيئ جداً. طبعاً، مؤشّر البيئة الماكرو اقتصادية (133) ومؤشر البنى التحتية (113) هما ذات أهمية كبرى، ولكن لن أتناولهما هنا. أكتفي بالقول إنهما ليسا نتيجة سوء حظ، بل بسبب السياسات الاقتصادية والنموذج الاقتصادي اللبناني الحالي. إذا حقّقنا أكثر في تفاصيل المؤشّرات الأخرى، نستطيع أن نرى أن المعضلات تشير إلى أزمة بنيوية عميقة.
أولاً، الكفاءة في سوق العمل. يحتلّ لبنان المرتبة 109 بين الدول. ولكن نظرة تفصيلية تشير إلى أن المعضلة ليست في عدم مرونة سوق العمل التي دائماً يحاول البعض وضع اللائمة عليها. في مرونة سوق العمل، يحتلّ لبنان الموقّع 50 مثلاً في التوظيف والصرف، والمرتبة 65 في مرونة تحديد الأجور. ولكن في مؤشّرات «الاستعمال الكفوء للمواهب»، احتلّ لبنان الموقع 105 في قدرة البلد على جذب، كما الحفاظ على المواهب، والمرتبة 128 في مشاركة الإناث في سوق العمل. هذا يعني أن الاقتصاد لا ينتج الوظائف التي تستعمل المهارات والكفاءات لدى الشباب اللبناني المتعلّم. في هذا الإطار، الرقم من التقرير الذي تداوله الجميع أخيراً أن لبنان يحتلّ الموقع الرابع عالمياً في جودة تعليم الرياضيات والعلوم، وإذا أضفنا إليه أن لبنان يحتلّ المرتبة 15 في توفّر المهندسين والعلماء، يؤشّران أيضاً إلى هذه الأزمة؛ إذ إن الاقتصاد اللبناني يحوّل هذه الإيجابيات الكبرى إلى الموقع 105 عالمياً في التنافسية!
ثانياً، في الاستعداد التكنولوجي، يحتلّ لبنان المرتبة 64، وهو تقريباً في منتصف التراتبية. ولكن المؤشّرات المكوّنة لهذا الاستعداد تشير إلى أن هذا الترتيب المنتصفي مدفوع باستعمال تكنولوجيا المعلومات والإنترنت، وهما أمران يمكن أن تكون علاقتهما بالإنتاجية ضعيفة إذا اقتصر استعمالها على التواصل والترفيه. في الإطار نفسه، المكوّنات الأخرى تشير إلى وضع لبنان السيئ، إذ يحتلّ المرتبة 108 في توفّر أحدث التكنولوجيات والمرتبة 86 في استيعاب المؤسّسات للتكنولوجيا والمرتبة 122 في الاستثمار المباشر ونقل التكنولوجيا!
ثالثاً، يحتلّ لبنان المرتبة 114 في شراء الحكومات لمنتجات التكنولوجيا المتطوّرة و81 في جودة المؤسّسات البحثية و120 في سياسات مكافحة الاحتكار و71 في كلفة الخدمات المالية.
كل هذا يشير إلى أن الأزمة بلغت مدى لم يعد بالإمكان حلّها بتكرار الماضي، ويشير الى أن الانتقال من اقتصاد إلى اقتصاد آخر لن يأتي عبر الترداد الببغائي لبعض الاقتصاديين والسياسيين حول الاقتصاد الحرّ والمبادرة الفردية والخصخصة ومكافحة التهريب والفساد والهدر والتهليل للانتساب إلى نادي النفط أو الى التسوّل الخارجي، مثل سلسلة باريس التي يبدو أنها بلا نهاية، ووضع اللائمة على اللاجئين السوريين أو سلسلة الرواتب وغيرها من التبريرات التي تمّ تكرارها في السنوات الخمس والعشرين الماضية. فالذي أوصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم هو هذا الفكر الذي لم ينفع لشيء إلّا لإطالة أمد إثراء الريعيين وسيطرتهم، بينما الاقتصاد ينتهي شيئاً فشيئاً. فالوقائع الآن بدأت تظهر تباعاً من تقرير الـ MILES للبنك الدولي في 2012 إلى تقريره في 2015 الذي تناول فيه الحوكمة الطائفية الى اليوم مع تقرير التنافسية من المنتدى. الكلام لم يعد ينفع، والمصالح الاقتصادية السياسية الطائفية والريعية يبدو واضحاً أنها تعيق أي تقدّم اقتصادي وتعيق اجتياز الرأسمالية اللبنانية لامتحان «البيان الشيوعي»، وهي التي تجعل لبنان ذا المرتبة العالية في التعليم العلمي وتوفر العلماء والمهندسين أن يحتلّ المرتبة 105 في التنافسية! وبسبب ذلك، ومن أجل الرفاه الاقتصادي للأجيال القادمة، التي تعتمد أولاً وأخيراً على رفع الإنتاجية، علينا إلقاء جانباً كل الأساطير ومَنْ وراءها والتي حكمت العقل والاقتصاد اللبناني لمدة أطول مما يجب؛ وعلينا اتباع سياسات جديدة من أجل تحويل جهود وعمل ومواهب اللبنانيين إلى تطوّر تكنولوجي بدلاً من أن تضيع هباءً في إثراء أرستقراطية مالية وفي غياهب صراعات أحزاب المحاصصة.