تعيش اقتصادات العالم، وخصوصاً تلك التي تربط عملتها بالدولار وتملك معدّلات دولرة مرتفعة مثل لبنان، آثار الاتجاه التصاعدي الحادّ لمعدّلات الفائدة في الولايات المتحدة. ومنذ بدء هذه المعدّلات بالارتفاع في أواخر 2015، اعتاد الإعلام انتظار الإعلانات الدوريّة من قبل «نظام الاحتياطي الفيدرالي» (الذي يقوم بعمل المصرف المركزي في الولايات المتحدة)، لمعرفة قراره في ما يخصّ رفع نسب الفوائد أو الإبقاء عليها.في الواقع، وعند الحديث عن نسب الفوائد واتجاهاتها في الولايات المتحدة، لا بدّ من التمييز بين ثلاثة أشكال من هذه النسب التي يتناولها الإعلام عادةً. فهناك أوّلاً «معدّل الأموال الفيدرالية الفعلي»، الذي يشكّل عملياً أهم المؤشّرات التي يلجأ إليها الاقتصاديون لقياس التحوّلات الحقيقية في معدّلات الفوائد في الولايات المتحدة. يشكّل هذا المعدّل بالتحديد متوسّط أسعار الفوائد التي تقوم على أساسه المصارف في الولايات المتحدة بتسليف مصارف أخرى بين يوم وآخر، ومن دون ضمانات. وهكذا، يشكّل هذا المعدّل النسبة المرجعية التي تدرس النشرات الاقتصادية رسومها البيانية للحديث عن مسار الفوائد في السوق.

وعلى عكس ما يعتقد كثيرون، لا يُحدّد الاحتياطي الفيدرالي هذا المعدّل بشكل صريح ومباشر، فهو يخضع بطبيعة الحال لعوامل عرض وطلب النقود في السوق. ما يحدّده الاحتياطي الفيدرالي في نشراته المُعلنة بالضبط هو المعدّل «المستهدف للأموال الفيدرالية». بمعنى آخر، يحدّد الاحتياطي الفيدرالي هامشاً معيّناً مستهدفاً «target» يحاول وضع المعدّل الفعلي ضمنه، من خلال التدخّل –وبأدوات مختلفة- بحجم الكتلة النقدية المعروضة في السوق (أي وفق آليّة «خلق النقود» التي يقوم بها القطاع المصرفي في أي دولة). وهكذا، حين تعلن وسائل الإعلام رفع الاحتياطي الفيدرالي لمعدّلات الفوائد، فهو يقوم عملياً برفع هامش النسبة التي يستهدف رفع معدّل الأموال الفيدرالية إليها.
وبالتأكيد يختلف كل من المعدّلين عن مؤشّر ثالث هو «معدّل الخصم»، والذي يتم خلطه أحياناً بأحدهما. ويمثّل هذا المعدّل نسبة الفائدة التي يقوم على أساسها الاحتياطي الفيدرالي بإقراض المصارف، وتكون عادةً أعلى من معدّلات الأموال الفيدرالية، لترك الاحتياطي الفيدرالي بمثابة الملجأ الأخير للإقراض.
في بداية هذا الشهر، أعلن الاحتياطي الفيدرالي إبقاء المعدّل المستهدف للأموال الفيدراليّة ضمن نطاق 1.75%- 2%، لكنه في الوقت نفسه أكّد البقاء في مسار نحو رفع هذه المعدّلات في المستقبل. في هذا الوقت، يقف معدّل الأموال الفيدرالية الفعلي عند نسبة 1.91%، بعد مسار تصاعدي طويل بدأ في كانون الأول 2015 من معدّلات تقلّ عن 0.15%.
ومثّلت إجراءات رفع الفوائد مسألة شائكة داخلياً في الولايات المتحدة. فترامب أعلن بوضوح معارضته لهذه الإجراءات، منطلقاً من الحروب التجارية التي يخوضها ضد دول مختلفة في العالم. فرفع الفوائد في الولايات المتحدة يعني رفع الطلب على الدولار، وبالتالي رفع سعره مقارنةً بباقي العملات، وهو ما يرفع أسعار الصادرات الأميركية مقارنةً بغيرها من الصادرات. أمّا الاحتياطي الفيدرالي فينطلق من اعتبارات أخرى عند رفع معدّلات الفوائد، حيث يسعى لاحتواء الضغوط التضخّمية في ظل ارتفاع النمو الاقتصادي وتحسّن سوق الوظائف.
وبمعزل عن الشؤون الداخلية الأميركية، ترتفع اليوم المخاوف من تأثيرات ارتفاع الفوائد الأميركية على أسواق الدول النامية، وخصوصاً الدول الشبيهة للبنان من ناحية الدولرة المرتفعة وربط سعر العملة بالدولار. التأثير الأول في لبنان ظهر بارتفاع معدّلات الفوائد بالدولار الأميركي هنا بالتوازي مع ارتفاعها في الولايات المتحدة. فارتفع معدّل الفائدة المرجعية في سوق بيروت للدولار بالتوازي وتدريجاً من 6.16% في كانون الأول 2015 إلى 7.5% في آب الماضي. في الواقع، يحتّم ارتفاع معدّلات الفائدة الأميركية رفع مثيلتها في لبنان، خصوصاً في ظل معدّلات دولرة الودائع المرتفعة التي تجاوزت 68%، إذ إنّ عدم رفعها في لبنان سيعني هجرة هذه الودائع إلى الخارج طمعاً في الفوائد المرتفعة.
في حالة الولايات المتحدة جاء قرار رفع الفوائد في ظل ارتفاع معدّلات النمو، والخشية من ارتفاع نسبة التضخّم. لكن لبنان يعاني اليوم من ارتفاع نسبة الفائدة على الدولار في ظل الأزمة الاقتصادية، التي يفاقهما رفع معدّلات الفوائد بهذا الشكل. تعكس هذه الحالة تحديداً انعدام قدرة لبنان على صوغ إجراءات نقدية تناسب ظروفه الاقتصادية، في ظل السياسات التي تصرّ على ربط عملته بالدولار وإبقاء اقتصاده مدولر ومفتوح إلى حدّ بعيد.
ستظهر آثار ارتفاع الفوائد الأميركية في نواحي مختلفة، منها ارتفاع كلفة تمويل وإعادة تمويل الدين العام بالدولار الأميركي، ولبنان شهد أساساً موجة انخفاض أسعار سندات اليوروبوندز بالتوازي مع رفع الفوائد الأميركية. كما ستظهر في الضغط المضاعف على ميزان المدفوعات، حيث سيعني ارتفاع الفوائد في الأسواق الأخرى وجود منافسة فعلية على اجتذاب الودائع الموجودة.
في النقاشات التي ترافق الحديث عن الأزمة المالية في لبنان، يذكر كثيرون مشكلة ارتفاع الفوائد الأميركية كأحد العوامل الخارجية الخارجة عن إرادة أو مسؤوليّة السلطات النقدية في لبنان. لكن الواقع أن هذا الترابط بين معدّلات الفوائد الأميركية ومخاطر السوق اللبنانية سببه سياسات محدّدة على مدى سنوات، أصرّت على المزاوجة بين ربط الليرة بالدولار وتثبيتها من جهة، والإبقاء على سوق مدولرة ومفتوحة على مخاطر الأسواق الخارجية من جهة أخرى.