«إذا قررنا أن نعمم هذه المقدرة على خلق الأعمال على كل الولايات المتحدة، عندها سنقوم كلنا باقتلاع ريش الدجاج»روس بيرو

ما لا شك فيه أن المنطقة العربية، التي كانت حتى القرون الوسطى إحدى أهم المناطق تقدماً على المستوى الاقتصادي، أصبحت الآن في تأخرٍ مستمر، وهي مهددة بأن تستمر في التراجع أكثر فأكثر في العقود المقبلة، على الرغم من وجود الثروات الطبيعية (أو بسببها ربما). وتتكرر في الكثير من الأدبيات وبعض الخطط والنقاشات الاقتصادية الحاجة إلى التنويع (diversification) في الاقتصادات العربية، بعيداً عن الاعتماد على النفط والغاز، كشرط من أجل إطلاق عجلة التقدم الاقتصادي. مثلاً في تقرير لصندوق النقد الدولي في عام 2016 يقول إنه «بسبب كون النفط هو مورد يُستنفذ فيجب تطوير قطاعات جديدة تأخذ مكان الصناعات النفطية... وبالتالي فإن التنويع الاقتصادي عندئذ يمكنه إحداث نمو خالق للوظائف... ويُحسن من فرص الأجيال القادمة». كما أن النقاشات والتعليقات لم تهدأ حتى الآن حول مشروع السعودية «رؤية 2030»، الذي يطمح إلى إحداث التنويع الاقتصادي، والذي يعتبر مشروعاً ليس فقط اقتصادياً بل سياسياً تعتمد عليه بشكل ما استمرارية نظام الحكم السياسي في المملكة.
(أنجل بوليغان ــ المكسيك)

إذاً الأمر يبدو مصيرياً على عدة صعد، وهذا كله صحيح، فالابتعاد عن الاعتماد على النفط وتنويع الاقتصادات نحو إقامة قطاعات إنتاجية وتصديرية ذات تكنولوجيات متقدمة هو شرط أساسي من أجل وقف التأخر إن لم نقل التدهور في المنطقة ككل. إذ إنه حالياً، لا تبلغ جميع صادرات المنطقة غير النفطية من السلع حجم صادرات بعض الدول المنفردة. لكن المسألة الأساسية التي تطرح نفسها هي أن التأكيد على التنويع لا يعني حصوله، إذ إنه أمر من السهل طرحه ولكن من الصعب جداً تنفيذه ودونه شروط عديدة بعضها ينتمي ربما الى عالم المهمات المستحيلة. وهنا لا بد من طرح بعض الأمور في هذا الإطار.
أولا، إن المنطقة العربية حالياً تنطلق من وضع سيئ جداً من ناحية إمكانيتها على إحداث التنويع، خصوصاً إذا كان ذلك يعني أيضاً ولوج الأسواق العالمية عبر قيام قطاعات تصديرية. فمؤشر «التعقيد الاقتصادي»، الذي يقيس مدى استعمال المعرفة ودرجة تعقيد الإنتاج الصناعي، هو متدنٍّ جداً في جميع الدول العربية، وتقبع هذه الدول أو اكثريتها ما عدا تونس ولبنان في أسفل الترتيب العالمي وذات مؤشر سلبي. وهذا ليس بنذير يبعث على التفاؤل، إذ إن الانطلاق إلى الأمام الآن، خصوصاً بعد عقود على العولمة وصعود الاقتصاديات الجديدة، سيكون أمراً صعباً جداً.
من الصعب على أية طبقة صناعية صاعدة أن تخترق سيطرة «راسمالية الأصحاب» في الدول «الاشتراكية العربية سابقاً» أو فئات التجار في بعض دول الخليج


ثانياً، إن المنطقة العربية، على الرغم من تمتّعها بمعدلات استثمار عالية نسبياً، إلا أنه عندما يتم احتساب استنفاد الموارد الطبيعية، أو ما يمكن أن نسميه الراسمال الطبيعي، فإن معدلات الاستثمار الحقيقية تصبح سلبية. وكانت في الفترة ما بين 1976 و2001 ناقص 7.1 بالمئة؛ أي إنه بعد طرح درجة استنفاد النفط والغاز تصبح المنطقة العربية في وضع آخر، حيث لا تستفيد من تحويل الرأسمال الطبيعي الى راسمال حقيقي إنتاجي، ما يعني أن جزءاً كبيراً منه يذهب نحو النشاطات الاستهلاكية. كما أن معدل نمو «الثروة الحقيقية» للفرد، وذلك يحتسب بعد إضافة معدل النمو السكاني ومعدل نمو الإنتاجية العام، بلغ في نفس الفترة ناقص 3.82 بالمئة وهو المعدل الأدنى في العالم (في الصين مثالاً بلغ 8.33 بالمئة). وهذا يعني أن النمو السكاني الكبير وركود الإنتاجية في المنطقة لا يعوضان استنفاد الموارد الطبيعية، ما يؤشر إلى عدم وجود إمكانية الخروج من الوضع الركودي الحالي إلا بسياسات استثمارية ضخمة ورفع الإنتاجية والسيطرة على النمو السكاني وكلها مهمات صعبة جداً.
ثالثاً، لكن السؤال الذي يطرح نفسه بعد ذلك: من أين ستأتي هذه الاستثمارات الضخمة؟ إن الاعتماد على القطاع الخاص أو الأسواق الحرة أو الاستثمارات الخارجية هو أمر قد تم ترداده لعقود، منذ الثمانينيات على الأقل، من دون طائل. فأكثرية الدول التي أتت الى حقل التصنيع متأخرة عن غيرها، مثل روسيا وكوريا الجنوبية والصين وتايوان... أجابت عن هذا السؤال عبر عملية نقل مخططة من قطاع إلى قطاع أو قطاعات أخرى. وهنا لا بد من دراسة هذه التجارب بعمق وليس بسطحية كما تجري العادة. الأساس في هذه التجارب هو أهمية فكر الاقتصادي السوفياتي يفجيني بريوبراجنسكي الذي أجاب عن هذا السؤال الذي طرح نفسه بقوة في العشرينيات إبان مرحلة "النيب". بريوبراجنسكي تقدم بطرح الحاجة الى "استغلال" القطاع الزراعي الذي كان مسيطراً في روسيا في 1917 وتحويل الموارد منه إلى القطاع الصناعي. ففي ظل التأخر الاقتصادي الروسي، لا سياسة أقل من ذلك كان يمكنها تحديث الاقتصاد السوفياتي آنذاك. بالتالي، اليوم وفي المنطقة العربية التي يسيطر على اقتصادياتها، حتى تلك غير النفطية، القطاعات الريعية، لا يمكن إلا لسياسة أقلها استغلال هذه القطاعات وتحويل الموارد منها الى التصنيع، أن تنجح. كل ما هو أقل من ذلك ما هو إلا آمال كاذبة.
رابعاً، إن طرح التنويع بشكل مبهم أو Generic لا يفي بالغرض أبداً. فالتصنيع هو أساس التنويع فعلى الرغم من الموضة الاقتصادية التي سادت في الأربعين سنة الماضية حول أهمية القطاع الخدماتي، يبقى نمو القطاع التصنيعي هو المؤشر الأساسي لحدوث أو عدم حدوث التنمية الاقتصادية. كما أن صعود الدول العربية على سلم «التعقيد الاقتصادي» إلى الأفضل يتطلب ذلك. في هذا الإطار فإن التنويع يجب أن يسبقه «دفعة كبرى» big push نحو التصنيع. وهنا لا يمكن حدوث ذلك إلا بقفزة لا تأخذ بعين الاعتبار حسابات الربح والخسارة الضيقة والقصيرة الأمد للمؤسسات الراسمالية، بل يجب تخطي ذلك عبر التوظيف والاستخدام الضخم للعمالة الفائضة وغير النظامية، التي تصل إلى حدود 50 بالمئة في المنطقة، والتي تهدر حالياً في أعمال غير منتجة وسطحية. في هذا الإطار، وفي محاكاة حديثة للاقتصاد السوفياتي خلال الخطط الخمسية الثلاث الأولى، وبالتحديد ما بين 1928 و1940، تمكن الاقتصادي البريطاني روبرت آلن من تبيان أن هذه الاستراتيجية أو ما سمي بـ "معوق الموازنة الناعم" كان السبب الرئيسي في تحويل الفلاحين من فائض في العمالة الى الطبقة الصناعية السوفياتية. ويضيف أنه لو لم يحدث ذلك لكانت التنمية السوفياتية شبيهة بالتنمية في أميركا اللاتينية حيث تسود العمالة غير النظامية كما في المنطقة العربية اليوم.
خامساً، الأمر الأخير الذي يكاد يكون بذات الأهمية، والذي يغيب عن الطروحات حول التنويع: من هي الطبقة أو الطبقات الاجتماعية التي ستقوم بهذه العملية الكبرى؟ فالمنطقة العربية تعيش في حالة مزيج من مرحلة ما بعد حطام الدولة التدخلية/التوزيعية في ما سمي «الاشتراكية العربية» ومن مرحلة الدول الريعية الخليجية والنفطية والمصدرة للعمالة إليها. في كلتا الحالتين لم تنمُ طبقة اجتماعية إنتاجية قد تحمل لواء هذا التغيير الكبير، أو كما قال الاقتصادي جياكومو لوشياني، صاحب نظرية «الدولة الريعية»، إن الطبقات الراسمالية الموجودة لم «تتخرج» بعد لتصبح طبقات مستقلة. إذاً وعلى الرغم من ان القطاع الخاص أصبح يلعب دوراً أكبر في الاقتصاد، لكن الرأسماليين عموماً ليسوا متماسكين ولا يعملون كطبقة أو على الأقل كطبقة صناعية. ومن هنا فإنه من الصعب على أي طبقة صناعية صاعدة أن تخترق سيطرة «رأسمالية الأصحاب» في الدول «الاشتراكية العربية سابقاً» أو فئات التجار في بعض دول الخليج، التي على رغم خسارتها جزءاً كبيراً من قوتها بعد اكتشاف النفط لا تزال لاعباً قوياً داخل الدولة وخارجها، وتستفيد من سياسة تثبيت وارتفاع سعر الصرف التي لا بد من تغييرها لاستحداث اية عملية تنويع جدية.

عدم وجود إمكانية الخروج من الوضع الركودي الحالي إلا بسياسات استثمارية ضخمة ورفع الإنتاجية والسيطرة على النمو السكاني وكلها مهمات صعبة جداً


«إذا قررنا أن نعمم...» قالها المرشح الديمقراطي من تكساس روس بيرو في عام 1992 خلال معركته مع المرشح بيل كلينتون، وذلك رداً على تعداد الأخير لإنجازاته كحاكم لولاية اركنساس الأميركية. اليوم في المنطقة العربية نحن بحاجة الى تغيير راديكالي على جميع الصعد الاقتصادية، وذلك من أجل الخروج من حالة التأخر المرشحة للمزيد من التدهور نسبة الى بقية مناطق العالم. نحن بحاجة الى ذلك لأنه اذا ما تم تعميم ما تفعله الدول العربية حالياً وما يفعله القطاع الخاص ورأسماليوه فيه فسيبدو أي أمل بالتنويع كأمل أميركا آنذاك في ان تكون كأركنساس ويعمم «اقتلاع ريش الدجاج»، لكن بفارق وحيد: أن لا ضمانة في أن الصعود الى الأعلى سيكون هو الاحتمال الوحيد أو الأرجح.