«إن الاعتقاد بأنه لم يعد هناك أي شيء للإيمان به يجعلنا غافلين عن قصر النظر واللاعدالة التي تحيط بنا كلّ يوم»روتجر بريجمان

أتى لقاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب مع الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ، بعد اللقاء العاصف لمجموعة الدول السبع في كندا، كأنه يلقي جانباً، للمرة الأخيرة، الاعتقاد السائد بأن السياسة والاقتصاد في الولايات المتحدة والعالم لا يزالان يعيشان فترة التسعينيات؛ تلك الفترة التي أرساها بيل كلينتون وتوني بلير وغيرهارد شرودر، والتي استمرت حتى أزمة 2008. في هذه النظرة المشككة، لا تزال الوسطية هي المسيطرة، وكل الأمور والمعضلات لديها حلول تقنية، وكل الحروب والصراعات هي مقدمة للبيع والشراء على طاولة المفاوضات، ولا مكان بعد الآن للأحلام الكبرى أو للمشاريع الكبرى للتغيير، أو كما يقول روتجر برجمان مؤلف كتاب «اليوتوبيا للواقعيين: وكيف نستطيع الوصول إليها»، الصادر مؤخراً، إن الخلاف الآن بين اليمين واليسار لا يتجاوز الاختلاف على بضع نقاط مئوية على معدلات الضرائب على أرباح الشركات.
اليوم هذا العالم «الآمن» ينهار، وينظر الليبراليون الحاليون، من ترودو إلى آبيه إلى ماكرون، إلى المشهد بخوف وقلق بالغين. وحدها أنجيلا مركيل تعلم ماذا يحدث (انظر إلى الصورة في اجتماع الـ G7)، وتحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه. بالطبع، ميركل لا تحاول إنقاذ الليبرالية أو الوسطية أو الطريق الثالث، ولكنها تحاول إنقاذ ألمانيا من العواصف القادمة. ألمانيا اليوم ليست وسطية بل هي مسيطرة اقتصادياً في أوروبا من خلال فوائض التجارة التي تملكها مع العالم ومع أوروبا. هكذا تُنافس ألمانيا، وفي نفس الوقت ترفض أن تضع سياسات مشتركة أوروبية من أجل تثبيت وإنعاش الاقتصاد الأوروبي، وتفرض أيضاً على اليونان سياسات تقشفية لم تر مثيلها القارة الأوروبية منذ عودة بريطانيا إلى معيار الذهب بعد الحرب العالمية الأولى، وما تطلب ذلك من انكماش داخلي سحق العمال في سبيل الجنيه البريطاني المُذهّب آنذاك. اليوم تسحق ألمانيا العمال والموظفين والمتقاعدين والشباب في اليونان في سبيل اليورو وسيطرتها المطلقة بلا منازع. هذا ما تدافع عنه المستشارة الألمانية.
(آريس ــ كوبا)

إذاً العواصف آتية، والكثيرون لا يزالون يدافعون عن عالم ينتهي ويموت. في دفاعهم هذا يستعملون أساليب قديمة ويظنون أن الحلول التقنيّة لا تزال ممكنة. مثلاً بدأ الليبراليون والأكاديميون وغيرهم مقارنة اتفاق ترامب مع كيم جونغ أون بالاتفاق الأميركي-الإيراني، معتبرين أن الأخير هو أفضل بكثير، وبالتالي كيف يتخلى عنه ترامب بينما يوقع اتفاق أسوأ منه مع كوريا الشمالية؟ الجواب على هذا التساؤل هو أن العالم لا يسير هكذا بعد الآن. الولايات المتحدة تتراجع إلى موقف قومي اقتصاديّ متشدّد، ولم تعد ترى العالم من خلال عدسة العولمة والليبرالية وحسابات الربح والخسارة المضجرة. فترامب يريد أن يجعل أميركا «عظيمة مرة أخرى»، حتى ولو أنهى فعلياً مجموعة السبعة ومزّق اتفاقاً وعقد أسوأ منه في اليوم التالي. كما أن الحزب الجمهوري اليوم هو الحزب الذي لا يرى في الوضع الدولي القائم أو status quo أمراً يمكن التعايش معه؛ إذ أصبح الحزب الذي قال بول كروغمان إنه أصبح فعلياً «تحالفاً بين البلوتوقراطيين والعنصريين والذي يحمل أجندة من سياسات خفض الضرائب على الأغنياء وضرب البرامج الاجتماعية للدولة والانتصار في الانتخابات بواسطة اللعب على مشاعر الخوف والعداء».
إذاً الأمور واضحة إلى حدٍّ كبير، ولكنّ المدافعين عن ما يمكن أن نسميه «المعتاد» من سوء توزيع دخل أو فقر أو عن سيطرة بلد أو طبقة أو أيّ من المظاهر التي اعتادت الشعوب عليها في الأربعين سنة الماضية يعتبرونها ناتجة من قدر محتوم تحيكه آليات اقتصادية مجهولة أو حتمية أو عولمة أو طبيعة إنسانية. وهنا نستطيع أن نرى المشترك بين أيديولوجيي الطريق الثالث والمدافعين عن سيطرة ألمانيا اليوم. الاثنان سخّرا الاقتصاد والاقتصاديين وما أسماه المعلق الاقتصادي وولفغانغ مونشاو في الفايننشال تايمز في 11 حزيران «القصص التي تؤثر على السياسة... وعلى السياسات العامة». فحسب مونشاو فإن الألمان يعتقدون بـ«قصة» أنهم يمولون الاتحاد الأوروبي وإيطاليا وأن فرنسا هي كارثة اقتصادية، ويضيف «إن ما يَصْدُم في هذه القصص ليس فقط الازدراء والجهل اللذين ينمّان عنه وإنما أيضاً الطريقة العرضية التي تُقدّم بها، بحيث أصبحت فولكلوراً صحيحاً فقط لأنّ الكثيرين يرددونه لسنوات». ويضيف مونشاو أن بعض الاقتصاديين يقولون في السرّ غير ما يقولونه في العلن، ويستعرض تقريراً لمجموعة من الاقتصاديين الألمان والفرنسيين، حول أفضل الطرق لمعالجة الأزمة الاوروبية، لم يتجرّأ على طرح أفكار تتعارض مع سياسة ألمانيا الرسمية. كما ذكر في نفس الإطار، اجتماع خبراء دُعي إليه في قمة أزمة منطقة اليورو لاجتراح اقتراحات حول سبل حلّها، حيث افتتح الجلسات اقتصادي ألماني قائلاً إن المجموعة يجب ألّا تقترح سياسات أو إجراءات كانت ألمانيا رفضتها في السابق!
إذا، الإيجابية في صعود ترامب وبعض بهلوانيته أنه بدأ بكسر القديم المعتاد على أنواعه، لكنه في نفس الوقت يطرح أموراً أسوأ بالطبع. وهنا يبرز السؤال الأساسي: إلى أين من هنا؟ هل يتجه العالم إلى التفكك وصعود القوميات من هنا ومن هناك، ويتجه للقضاء على ما هو تقدميّ في العولمة وفي التقدم التكنولوجي بحجة الدفاع عن مصالح الدول وعن مصالح العمال والرأسماليين فيها على حدّ سواء. التاريخ والنظرية يذكراننا أنه عندما يحدث الجمع بين مصالح الدولة والرأسمال والعمال في آن، بالإضافة إلى العداء للأجانب، نحصل على الفاشية. وهل الحلّ بالاستمرار بالدفاع عن القديم النيوليبرالي الذي قدم نفسه يوماً على أنه نهاية التاريخ؟ وهل الحلول «التقنية» القديمة لا زالت صالحة أمام تفكك النموذج الليبرالي وأمام ما يطرحه ترامب وأمثاله؟ الجواب بالطبع كلا. الأمر يتطلب شيئاً جديداً.
الولايات المتحدة تتراجع إلى موقف قومي اقتصادي متشدّد ولم تعد ترى العالم من خلال عدسة العولمة والليبرالية وحسابات الربح والخسارة المضجرة


على المستوى السياسي الأمور غير واضحة. فالعالم حالياً، إذا أردنا المقارنة التاريخية يعيش في ظروف هي خليط بين تلك التي كانت عشية الحرب العالمية الأولى وتلك التي كانت سائدة عشية الحرب العالمية الثانية. وهذا الخليط يتكون من: بداية صراعات بين الدول المسيطرة اقتصادياً، أو ما كان يُعرف بالإمبريالية قبل 1914؛ ظهور متسارع للفاشية وإن بأشكال جديدة؛ إرهاصات أزمة اقتصادية رأسمالية كبرى شبيهة بإرهاصات الكساد العظيم في الثلاثينيات؛ بداية حرب تجارية شبيهة بسياسات «إفقار الجار» التي حدثت بعد الكساد العظيم أيضاً. هذه المتغيّرات والأزمات تطلّبت حربين عالميتين وثورة كبرى لحلها وتغييرها. اليوم، من الصعب التكهّن بماذا سيحصل لأنه على الرغم من كلّ شيء لا تزال هناك هيكلية نظام عالمي سياسي-اقتصادي أُنشئ بعد 1945، وهو أمر لم يكن موجوداً لا في 1914 ولا في 1939. كما أن الظروف الثورية التي نشأت في روسيا عام 1917 غير موجودة الآن، أي إننا لا نعيش ظروف «راهنية الثورة»، كما كان يقول المفكر الماركسي المجري جورج لوكاش.
على الرغم من ذلك، العالم بحاجة إلى ثورة في الاقتصاد ضد الفكر الاقتصادي المعتاد، وضد الفكر الاقتصادي للقوى المسيطرة حالياً أو التي تريد السيطرة، إن كانت على المستوى الداخلي كطبقة الـ 1 في المئة أو المصارف أو إن كانت على المستوى الدولي كألمانيا حالياً أو الولايات المتحدة عندما تصبح «عظيمة ثانية»! كتاب «اليوتوبيا للواقعيين» يطرح أفكاراً للمستقبل تخرج علم الاقتصاد من الرتابة والخنوع للسلطة ومن الاستسلام للواقع الحالي. اليوم العالم بحاجة إلى هذا ونحن في المنطقة العربية ولبنان بحاجة إليه أيضاً، لأنه في المنطقة العربية هناك سيطرة الرأسمال والنفط والاحتكار، وسيطرة أفكار صندوق النقد الدولي، وفي لبنان هناك سيطرة الاحتكار والمصارف والرأسمال الريعي والمحاصصة الاقتصادية بين الطوائف. كلّه يبدو الآن قدراً محتوماً. لكنه لن يكون دوماً كذلك كما ستُبيّن لنا أحداث وتغيّرات السنين القادمة.