في السنوات الـ15 الأخيرة (2003-2017)، أرسل المهاجرون اللبنانيون نحو 100 مليار دولار إلى أسرهم المُقيمة في لبنان. شكّلت هذه التحويلات مصدراً مهماً لتمويل الاستهلاك ودعم النمو الاقتصادي، ومنحت الكثير من الأسر ما يشبه «طوق نجاة» في مواجهة كلفة المعيشة المرتفعة وسوء توزيع المداخيل وتراجع فرص العمل. ولكن، هل ما يفيد الأسر المُتلقية للتحويلات يفيد بالضرورة الاقتصاد؟يُعَدّ لبنان من الحالات الفريدة في العالم، فهو يجمع، في آنٍ واحدٍ بين موقعين متقدّمين على قائمتي أكبر 20 بلداً مُستقبلاً لتحويلات العمّال المهاجرين، وأكبر 20 بلداً مُصدّراً لها، إذ يستقبل تحويلات تزيد على 15% من مجمل ناتجه المحلي، ويصدّر تحويلات تزيد على 7% من هذا الناتج.
أنقر الصورة للتكبير

هذه الحالة ليست مُستجدّة، بل هي سمة بارزة من سمات الاقتصاد اللبناني، تشكّلت نتيجة مسار طويل من السياسات والمصالح، وأدّت إلى تحويل اليد العاملة اللبنانية، ولا سيما المُتعلمة والمؤهلة، إلى سلع للتصدير ومصدر للتدفقات المالية الخارجية، وصارت التحويلات بديلاً من صادرات السلع والخدمات وبديلاً من الإستثمارات الأجنبية المباشرة. كذلك أدّى النزف البشري المديد والمتواصل إلى إحلال اليد العاملة الأجنبية المتدنية الأجور، ولا سيما في النشاطات التي تساهم هذه التدفقات في زيادة الطلب الداخلي عليها، كالتجارة والبناء والسياحة والخدمات ذات القيمة المضافة المتدنية... وهو ما أفقد الاقتصاد اللبناني الكثير من إمكاناته وقدراته التنافسية، وأدّى إلى تدهور إنتاجيته وتقلّص فرص العمل والقوّة الشرائية للأجور... وبالتالي أوجد حلقة مُغلقة، إذ يضطر المزيد من العمّال اللبنانيين إلى الهجرة نحو بلدان أغنى من لبنان، طلباً للعمل والدخل، فيما يستقطب لبنان المزيد من العمّال الأجانب من بلدان أفقر منه.

تقديرات البنك الدولي
لا توجد أرقام «رسمية» موثوقة عن عدد العمّال اللبنانيين المهاجرين والعمّال الأجانب الوافدين إلى لبنان، ولا عن قيمة تحويلاتهم الواردة والصادرة، لكن قاعدة بيانات البنك الدولي تقدّم معطيات في هذا الشأن تعكس الواقع إلى حدّ كبير. تخبرنا هذه البيانات أن هناك نحو 817 ألف لبناني مهاجر، يحوّلون سنوياً إلى أسرهم في لبنان نحو 8 مليارات دولار، بمعدل وسطي يبلغ أكثر من 9700 دولار سنوياً من كلّ مهاجر.
أنقر الصورة للتكبير

في المقابل، يوجد في لبنان نحو مليوني لاجئ ومهاجر (يشكّلون ثلث السكّان)، يحوّلون سنوياً نحو 4.7 مليارات دولار إلى الخارج.
هذه الأرقام قد لا تعني الكثير لمعظم القرّاء، إلا أنها تفسّر جانباً مهمّاً مما يسمى «المعجزة اللبنانية»، التي يختصرها السؤال المُحيّر: كيف نعيش؟ ومن أين ننفق؟ فتقديرات إدارة الإحصاء المركزي (الحسابات الوطنية 2004-2015)، تُبيّن أن الاستهلاك يقترب كثيراً من 100% من مجمل الناتج المحلي، ما يعني أن عدداً كبيراً جداً من الأسر المقيمة في لبنان تمتلك قدرات استهلاكية أكبر مما يتيح لها الدخل المُحقّق محلياً! وهذا يفسّر أيضاً واحداً من أسباب كثيرة لتراجع ميل المجتمع اللبناني إلى التغيير، وهو ما ظهر في الإنتخابات النيابية الأخيرة.

التحويلات الواردة والصادرة
بالاستناد إلى التقرير الدوري الذي يصدره البنك الدولي تحت عنوان «موجز الهجرة والتنمية» (عدد نيسان 2018)، يتبيّن أن وزن تحويلات اللبنانيين المهاجرين يرتفع باطراد، وبات يمتلك تأثيراً حاسماً على المؤشرات المختلفة، الاجتماعية والاقتصادية والمالية والنقدية. فقد نمت التحويلات الواردة إلى لبنان في السنوات الـ15 الماضية بنسبة 313%، من نحو 2.54 مليار دولار في عام 2002 إلى أكثر من 7.95 مليارات في عام 2017، وبلغ مجموعها التراكمي (2003-2017) نحو 99.2 مليار دولار، بمتوسط سنوي بلغ نحو 6.6 مليارات دولار على مدى هذه الفترة، وهذا الرقم كبير جداً قياساً إلى حجم الناتج المحلي، الذي ارتفع في الفترة نفسها من 19.15 مليار دولار في نهاية عام 2002 إلى 49.60 مليار دولار في نهاية عام 2016 (بالأسعار الجارية وفقاً لبيانات البنك الدولي).

أنقر الصورة للتكبير

في المقابل، نمت التحويلات الصادرة من لبنان بنسبة تفوق 145%، من نحو 2.5 مليار دولار في عام 2002 إلى 3.7 مليارات دولار في عام 2016 (يورد البنك الدولي تقديرات لعام 2017 غير مفهومة، إذ انخفضت إلى 1.2 مليار دولار، وهذا لا يوجد تبريراً له في الواقع) وبلغ مجموعها المتراكم في 15 سنة نحو 61.5 مليارات دولارات. وبالتالي بلغ رصيد تحويلات المهاجرين الصافي المتراكم في هذه الفترة نحو 38 مليار دولار.

هدايا بلا مقابل
يشبّه الاقتصاديون تحويلات المهاجرين إلى بلدانهم بـ«الهدايا». وهذا ما يميّزها عن أنواع التدفقات الأخرى. بمعنى أن المتلقين لها (سواء الأسر أو الاقتصاد عموماً) يحصلون عليها من دون أي مقابل، ولا يترتّب عنها أي حقوق أو مطلوبات تجاه مرسليها. وتحاجج أوراق بحثية عدّة (منها ورقة رالف شامي وكونيل فولينكامب - ما وراء الأسرة المعيشية - صندوق النقد الدولي - أيلول 2013) في ما إذا كان هذا النوع من التحويلات له تأثير إيجابي أو سلبي على الاقتصاد الكلي. وعلى الرغم من وجود خلافات كبيرة في هذا الشأن، إلا أن الخلاصات التي توصلت إليها معظم هذه الأبحاث تفيد بأن هذه التحويلات تؤثر على الاقتصاد بطرق مختلفة كثيرة، وفي نهاية الأمر، يعتمد أثرها على طريقة استخدامها من قبل متلقّيها.
عزّزت التحويلات الواردة إلى لبنان الاستهلاك بما يفوق حجم الإنتاج


في الحالة اللبنانية، هناك أدلة كثيرة على أن الأسر المتلقية أنفقت معظم التحويلات على تمويل استهلاكها المعيشي، بما في ذلك التعليم والصحّة والسيارات والأثاث والتجهيزات المنزلية، بالإضافة طبعاً إلى شراء المساكن والعقارات... وزيادة الودائع لدى المصارف المحلية، وبالتالي زيادة المديونية العامة والخاصة (ولا سيما القروض السكنية والاستهلاكية)... أدّى كل ذلك إلى تعزيز الطلب الداخلي على السلع والخدمات بما يفوق حجم الإنتاج، فازداد الاستيراد باطراد وارتفعت الأسعار، ولا سيما أسعار العقارات، وارتفعت معها أكلاف الإنتاج والعمل والسكن وتدهورت حصة الأجور من الناتج، ما دفع بالمزيد من المقيمين إلى الهجرة، ودفع بالمزيد من الرساميل للتوظيف في النشاطات التي تلبّي الطلب المدفوع بالتحويلات، وهي غالباً نشاطات ذات قيمة مضافة متدنية ولا تحتاج إلى عمالة ماهرة، وهذا ما يفسّر عملية الإحلال المتواصلة للعمالة الأجنبية الوافدة المتدنية الأجر.
شجّعت السياسات المُعتمدة على هذا الاستخدام للتحويلات، ولم يظهر أن هناك إرادة لتشجيع الأسر على التوظيف والاستثمار في الاقتصاد الحقيقي، ولذلك لم يقابل التحويلات المُرسلة أي عمل في الاقتصاد المحلي، ولم تضف أي قيمة مباشرة على الناتج المحلي الإجمالي، في حين أتاحت للحكومة حشد المزيد من الموارد لتمويل إنفاقها التوزيعي من خلال الضرائب على الاستهلاك وإعفاء الأرباح والريوع من أي عبء... وعلى هذا الأساس، لعبت التحويلات دوراً مهماً في زيادة التفاوتات وتركيز الثروة والدخل لدى الأقلية وترسيخ الفساد وغياب المساءلة.



من إسرائيل وإليها!
تضمّنت قاعدة بيانات البنك الدولي لعام 2016 أرقاماً لافتة عن تبادل تحويلات العاملين بين لبنان وإسرائيل، إذ ورد فيها أن 506 إسرائيليين يقيمون في لبنان وقد حوّلوا إلى إسرائيل نحو مليون دولار. في المقابل، يقيم 6341 لبنانياً في إسرائيل وقد حوّلوا إلى لبنان نحو 57 مليون دولار!
حاولت «الأخبار» الإستقصاء عن هذه المعلومات، ولا سيما أن هناك حظراً قانونياً للتعاملات من هذا النوع، فنفت مصادر مصرف لبنان معرفتها بهذه الأرقام، في حين عمد البنك الدولي، بعد طلب التوضيحات من مكتبه في بيروت، إلى حذفها من جداوله واستبدالها برمز (N A) أي غير متاح أو غير موجود.
عام 2017، لم يذكر البنك الدولي قيمة التحويلات المالية بين لبنان وإسرائيل، على الرغم من إشارته إلى وجود نحو 2270 عاملاً إسرائيلياً في لبنان. في حين تبيّن قاعدة بيانات الأعوام 2010 إلى 2015، أن قيمة التحويلات المتراكمة الواردة إلى لبنان من إسرائيل بلغت 283 مليون دولار، وقيمة التحويلات الصادرة منه إليها بلغت 3 ملايين دولار.


38 مليار دولار
هي قيمة رصيد تحويلات المهاجرين الصافي المتراكم بين عامي 2003 و2017