تسعى الأرجنتين إلى الحصول على مساعدة من صندوق النقد الدولي، بعدما فشل الرفع المتكرّر لمعدلات الفائدة في وقف تراجع البيزو، وهو ما يدفع البلاد نحو أزمة مالية. وأعلن موريسيو ماكري، الرئيس الأرجنتيني اليميني والمناصر للشركات الكبرى، خطوة التقارب مع صندوق النقد الدولي في خطاب مُتلفز وجّهه إلى الشعب الأرجنتيني، قال فيه إنّ الدعم الدولي سيتيح للحكومة «تفادي أزمة على غرار الأزمات السابقة، التي واجهناها في تاريخنا». إلا أن طلب الأموال من صندوق النقد الدولي سيعني المزيد من التقشّف المالي وسيشكّل ضربة لمستويات المعيشة في البلاد، وهو ما عبّر عنه أحد المستثمرين الأجانب بقوله إنّ «الطريقة الأكثر فعالية (لمواجهة الأزمة) تكمن في منع ارتفاع الأجور».
قلق المستثمرين الأجانب
في الأسابيع الماضية، اضطرت الحكومة اليمينية في الأرجنتين إلى رفع معدل الفائدة كثيراً من 27% في نيسان إلى 40% قبل أسبوعين. وفي كانون الثاني، اختبر المصرف المركزي الأرجنتيني خفض معدل الفائدة، ولكنّه تراجع سريعاً عن ذلك. والأسباب ثلاثة:
أولاً، انتاب القلق المستثمرين الأجانب (العنصر الرئيسي لنجاح تبنّي حكومة ماكري لسياسات تقشّف وسياسات داعمة للشركات) من أن يفلت التضخّم من عقاله، وبدأوا في سحب استثماراتهم. وأقرّت الحكومة بأن التضخّم يتّجه إلى معدل 15% هذا العام. وبدأ البيزو الأرجنتيني يهوي أمام الدولار.
أنقر الصورة للتكبير


ثانياً، بدأ الدولار يقفز في الشهر الماضي بسبب مخاوف من حرب تجارية دولية، وهو ما يدفع المستثمرين دائماً إلى الإسراع بالتوجّه نحو «الملاذ الآمن» للدولار، علماً أن الاحتياطي الفدرالي الأميركي يضغط في اتّجاه رفع معدل الفائدة، ما يخفّف بالتالي من جاذبية الاستثمار في عملات بلدان أخرى بالنسبة إلى المضاربين.
ثالثاً، شهدت أسعار النفط الخام ارتفاعاً حادّاً مدفوعاً بمحاولات في هذا الاتّجاه من قبل دول مجموعة أوبك في الشرق الأوسط، وتزايد التوتّرات السياسية بين الولايات المتحدة وإيران. وهذا يعني المزيد من التكاليف المترتّبة عن استيراد الطاقة لاقتصادات عدّة، مثل الأرجنتين أو تركيا أو جنوب إفريقيا. وهذه الاقتصادات تعاني من عجز تجاري كبير وتضخّم مرتفع وسيطرة ضئيلة على الإنفاق الحكومي، والأهم أنها تعاني من مستويات مرتفعة من الدين، لذلك هي أكثر عرضة لأن يسحب منها المستثمرون الأجانب أموالهم.

البلدان المديونة في ورطة
انخفض البيزو الأرجنتيني الآن إلى مستوى قياسي (ما زاد من حدّة التضخّم) بالتوازي مع تراجع كبير في أسعار السندات الحكومية. وكانت حكومة ماكري قد أصدرت العام الماضي سندات لأجَل استحقاق بلغ 100 عام، وكلّها ثقة بأنّ الحماسة لانتهاء حكم إدارة كريشنر اليسارية الإصلاحية، الذي دام 12 عاماً، ستقود إلى تدفّق الطلب الأجنبي. لكن سعر السند تراجع الآن إلى 83 سنتاً من الدولار. وتأمل الحكومة تحريك تدفّق الرساميل مع عرضها فائدة بنسبة 6% على السند مقارنة بأقل من 3% للسند الحكومي الأميركي «الآمن». وبدّد البنك المركزي في بوينس أيرس 5 مليارات دولار من احتياطات النقد الأجنبي في غضون أسبوع، ورفع الفائدة ثلاث مرّات بنحو مفاجئ، في محاولة لوقف تدهور قيمة البيزو.
في المقابل، قد يؤدّي ارتفاع معدلات الفائدة في الولايات المتحدة إلى مشاكل جديدة للاقتصادات الناشئة، سواء الشركات فيها أو القطاعات الحكومية. عدد من الاقتصادات الناشئة اقترض بالدولار لتغطية عجزه أو للاستثمار أو المضاربة، والآن سترتفع كلفة هذه الديون. تركيا، مثلاً، في ورطة حقيقية اليوم، فالليرة التركية تهوي على الرغم من تدخّل المصرف المركزي. وارتفعت عائدات السندات الحكومية المقوّمة بالدولار إلى مستويات جديدة ما بعد الأزمة واستمرّت البورصة في التراجع هذا العام إلى 22%، وهو أسوأ أداء لأي بورصة في العالم خارج فنزويلا. وإذا رفع البنك المركزي أسعار الفائدة كما حصل في الأرجنتين، فمن المحتمل أن يلحق ضرراً خطيراً بالاقتصاد المحلي.
في مقالات سابقة تطرّقتُ إلى خطر رفع معدلات الفائدة من قبل الاحتياطي الفدرالي على أزمة الدين، ولا سيما في ما يسمّى الاقتصادات الناشئة حيث بلغ الدين مستويات قياسية من الارتفاع. كذلك فإنّ ارتفاع الدين ناجم عن اقتراض الحكومات والشركات بكميات كبيرة وبمعدّلات فائدة منخفضة من أجل إرساء الاستقرار في النظام المصرفي وتعزيز الأسواق المالية والإنفاق. ويشير المعهد المالي الدولي IIF في واشنطن، إلى أنّه بالإضافة إلى الأرجنتين وتركيا، تعاني أوكرانيا وجنوب إفريقيا من هشاشة نسبية أمام أي تغيير حاد في «الشهية للمخاطرة» لدى المستثمرين الأجانب.
تشهد تركيا أكبر ارتفاع في الدين الأجنبي منذ الركود الاقتصادي عام 2009


يعتقد المعهد اليوم أنّ الدين العالمي ارتفع بمقدار 21 تريليون دولار إضافية عام 2017 ليبلغ 237 تريليون دولار. وصحيح أنّ الصين تتحمّل جزءاً كبيراً من هذه الزيادة، إلّا أن اقتصادها أكثر قدرة على إدارة هذا الدين. ومعظم هذا الدين بالعملة المحلية وليس بالدولار، ولدى الصين احتياطات هائلة من العملات الأجنبية بالدولار (3 تريليونات دولار) تشكّل حماية لها في حال حصول أزمة ديون. ولكن الاقتصادات «الناشئة» الأخرى ليست في وضع جيّد. فالدين بالدولار واليورو لديها يبلغ 8 تريليونات، أو 15% من مجمل ديونها. ففي الأرجنتين مثلاً يملك الأجانب أكثر من 60% من الدين، بينما شهدت تركيا أكبر ارتفاع في الدين الأجنبي منذ الركود الاقتصادي عام 2009.

الشركات «المأزومة»
مع ارتفاع معدلات الفائدة على هذا الدين، تصبح خدمته أصعب بكثير. وبحسب معهد IIF، تبلغ نسبة الشركات «المأزومة» أكثر من 20% من أصول الشركات في البرازيل والهند وتركيا، كذلك فإنّ الشركات التي تجني أرباحاً أعلى من كلفة الفوائد تتراجع سريعاً. وأضاف المعهد أنّه «رغم المعدلات العالمية المنخفضة، تعاني شركات غير مالية عدّة من المتاعب مع خدمة الدين». في الأرجنتين مثلاً، تجاوزت معدلات الفائدة 15% للشركات الأصغر. ويقول أحد المحللين إن «الشركات أنفقت من رأسمالها العامل منذ ذلك الوقت نظراً إلى عدم قدرتها على الحصول على تمويل رشيد. أما الشركات الكبيرة التي لديها قدرة للوصول إلى التمويل الدولي فهي في وضع أفضل، ولكن الشركات الصغيرة والمتوسطة تواجه متاعب».
ستقع الأزمة عندما تبدأ أرباح الشركات في اقتصادات عدّة بالانخفاض مع ارتفاع تكاليف خدمة الديون. وقد أظهر تقديري الأخير لأرباح الشركات العالمية (استناداً إلى المتوسط المرجّح للأرباح في الولايات المتحدة وألمانيا والمملكة المتحدة واليابان والصين) انخفاضاً في الفصل الأخير من عام 2017 للمرّة الأولى منذ منتصف عام 2016. ويبقى أن نرى كيف سارت الأمور في الفصل الأول من عام 2018.
Michael Robert`s blog