أهالي المخيّم ليسوا كغيرهم، ومن أجل ذلك، كلمّا هبّوا رفضاً واحتجاجاً لأمر ما، أدرك المرء على الفور أنّ هناك أمراً جللاً يُصيبه ومنه وجب الوقوف إلى جانبهم. وليست هذه مُبالغة تفضي إلى تقديس المخيّم، وإن وجب، برأيي، معاملته بقدسية. كونه احتضن الوطن المشرد فأصبح وطناً جديداً مؤقتاً، منذ هجرة النازحين الإجبارية من مدنهم وقراهم إثر نكبة 48، ليصبح عدد المخيمات/الأوطان الجديدة في قطاع غزة... ثمانية.
نعم هناك مخيمات على أرض فلسطين وليس فقط في الشتات. ثمانية بقع تزدحم بساكنيها في كل جنب منها. وبالرغم من ضيق الحال وتطلع ساكني المخيمات لحياة أفضل، إلا أنهم كانوا أوفياء فاحبوا مخيماتهم خاصة أنها على أرض بلادهم. لكن، وعلى حين غفلة، تأتيهم الأنروا لتذكرهم بأنّهم لا يمتلكون زمام الأمر في تلك البيوت، وأنّ هناك أوصياء آخرين عليها أدرى بشؤونها منهم! لذا، هبّ الأهالي، وبالذات أهالي مخيم دير البلح للاحتجاج، حيث بدأت وكالة غوث اللاجئين بتنفيذ ما يُسمى بمشروع "تطوير المخيمات".
"وكيف لا تكون هناك هبّة ما دام هذا المشروع سيمحو هوية المخيّم كما رست عليه منذ لإنشائه؟" يقول الكاتب الفلسطيني عاطف أبو سيف لـ"الأخبار"، ذلك أنّ جزءاً كبيراً مما يشكل هوية المخيّم سيذهب أدراج الرياح مع هدم بيوت المخيّم وتحويلها إلى عمارات سكنية تتسع لأكبر عدد من السكان كما يهدف المشروع، وذلك خلال ثلاثة أعوام. تلك كانت ردّة فعل الأهالي الأولّية. في المقابل لا يرى الحقوقي صلاح عبد العاطي أنّ انتفاضة أهالي المخيم صائبة بالمطلق، قائلاً: "إنّ تطوير المخيمات لا يُبدّل من الأمر شيئاً، مضيفاً أنّه المفروض مشاركة المسؤولين عن تنفيذ المشروع في عملية التطوير بما يُسهّل العملية"، مؤكداً من جانبه أنّ تطوير المخيّم لا يلغي هويته! فاللاجئ لاجئ أينما كان، إلى جانب أن تحسين جودة حياة المخيم لا يلغي حق العودة، رافضاً فكرة الاحتجاج على التطوير، لمجرد أنّ السبب هو الحفاظ على حميمية البيوت المتلاصقة والزواريب الضيقة، كما تروي العديد من القصص والروايات التي تتغنّى بهيئة المخيم!
انطلاقًا من أهمية هذه الخطوة، أو من أنّها محاولة لامتصاص غضب المخيم، إلى جانب نوع من الترتيب الطبيعي لما سيجري، سبق مرحلة البدء اجتماع تحضيري جمع سكان المخيم، وكبار المسؤولين، ومدير عمليات الأونروا في غزة، والفريق العامل على المشروع، وموظفي الأونروا والأمم المتحدة، إضافةً إلى بيان أهداف المشروع. خُصص جزء كبير من الوقت للاستماع إلى الأسئلة التي طرحها سكان المخيم والإجابة عليه. ومن خلال المشاورات حول تحديد أولويات الاحتياجات، المشاركة في الاستبيانات ومجموعات الدراسة والوصول إلى الأدوات الإلكترونية، ستُتاح الفرصة أمام سكان المخيم للمشاركة في تحديد الأولويات ووضع خطة تطوير رئيسية، ستحدد سبل إنفاق التمويل الخاص بتطوير المخيم.
لكنّ الحكاية وما فيها أنّ قطاع غزة، بات يتحوّل شيئاً فشيئاً إلى مخيّم كبير، وخصوصاً أنّ البيوت المدمرة، تلك الموزّعة في أرجاء المكان كافة لم تزل على حالها منذ الحرب الإسرائيلية الأخيرة، ليصبح القلق الحقيقي هنا حول مدى تحمّل الفرد داخل غزة القدرة على المحافظة على هويته الإنسانية لأطول وقت ممكن، أكثر أهمية من محاولة الحفاظ حتى على بيته من الدمار في حال دمّر أو أصابه حادث ما، خصوصاً أنّ الحياة في غزة مفتوحة على جميع الاحتمالات، بالذات بعد خوضها حروباً متتالية عدة، ليُصبح الهم الأكبر هو التشبث بالهوية الإنسانية، بالقدر الذي يُناسب قدر المعاناة التي عاشها الفلسطيني، والتي أوشكت على تطهيره من آثامه البشرية أيّاً كانت.