(تعود هذه المادة إلى صفحة «cultural tutor» على تويتر، وهي حساب يهتم بتأريخ الفن، والإضاءة على أعمال أدبية وفنية، منها ما يكون، أحياناً، مستوحى من صميم الواقع- مثل هذه المقالة التي تتكلم عن أعمدة الإنارة الحديثة وعن تلك القديمة- بغية التعليق عليها، تحليلها وشرحها)
تبدأ الحكاية حوالي عام 9000 قبل الميلاد. عند «غوبكلي تبه» في تركيا. المكان الذي يعتبر أقدم منطقة صخريّة في العالم. ماذا نعرف عن مشيّديها، أو سبب تشييدها؟ نعرف القليل فقط. لكن ما نعرفه يستند إلى ما اكتشفناه من منحوتات زخرفية تركوها وراءهم.
طوال تاريخ البشرية كانت الأشياء يدويّة الصنع، انطلاقاً من رؤوس الأسهم المصنوعة قبل آلاف السنين مروراً بالآلات الموسيقية السومرية، ووصولاً إلى أثاث القرون الوسطى. الملابس، الكاتدرائيات، فراشي الأسنان، وكثير من الأشياء الأخرى كانت تُصنَع على يد نساجين، فنانين، بنّائين، حدادين، ونجارين و القائمة تطول. المصنوعات اليدوية بالطبع لها صفات خاصة، إحداها بطبيعة الحال هي افتقادها إلى الوحدة القياسية. أما الصفة الأخرى البارزة تماماً هي الزخرفة؛ يبدو أن لدينا ميلاً طبيعياً إلى زخرفة ما بأيدينا إما بلمسات شخصية أو عبر الإشارة إلى المعتقدات الاجتماعية الناجمة عن هوية العصر.

لماذا تبدو الإنارة مملّة

باتت الزخرفة، حتى زخرفة الأشياء التقليدية البحتة، سمة ثابتة في تصميمات الألفية، وبات ما هو مفيدٌ، مثير للاهتمام بالضرورة، وجميل أيضاً. هذه الزخرفة منتشرة عبر ماضينا بالكامل: على الكتب، الأبواب، وكل شيء. قليلة هي الأشياء اليدوية الصنع اليوم. ماذا حصل؟ الإجابة بسيطة: الثورة الصناعية.
في القرن التاسع عشر ظهرت المصانع والآلات. وما هو يدوي الصنع وينتمي إلى زمنٍ سحيق، من ملابس ومجوهرات، أصبح فجأة ذا قالب موحد وخاضعاً للإنتاج بكميات كبيرة وعلى نطاق واسع. لكن حتى مع فجر الإنتاج الصناعي الضخم لم تغرب شمس الزخارف. لقد أصبحت تفصيلية طبيعية للأبد؛ وأصبح الناس معتادين عليها، يتوقعونها في كل شيء. الاختلاف الوحيد كان هجر الحرفة اليدوية نحو التقنيات الآلية. وهنا تبدأ حكاية أعمدة الإنارة الحديثة، رغم أن أعمدة الإنارة لها تاريخها الخاص والقديم. ففي القرن التاسع عشر بدأت هذه الأشياء اللافتة للنظر بالظهور للمرة الأولى. بدأت باستخدام مصابيح الغاز، ثم راحت تعمل على الأضواء الكهربائية. بدأ عصر تصاميم أعمدة الإنارة المكلفة بالتزامن مع عصر الإنتاج الضخم، مثلما أصبح الاستخدام الصناعي للحديد مرتبط بميلاد الوحدة القياسية. كانت معظم الأعمدة تصنع في مسابك حديدية ومصانع مخصصة وبالآلاف. لذلك فإننا نجد كل هذه القوالب متشابهة، سواء كانت قوالب لبوابات، أو أنابيب صرف، أو أعمدة إنارة أو تركيبات عديدة أخرى. وبينما كانت صناعة الحديد ذات مرة تتكئ على احتياطي أصحاب الثروة والسلطة، فقد قدمت الثورة الصناعية منتجات حديدية قليلة التكلفة لسدّ كل الاحتياجات، حتى من أجل مقاعد الحدائق.
سريعاً أصبحت الشوارع في كل المدن تتزين بصفوف من أعمدة الإنارة المزخرفة في معظم الأحيان وليس دائماً بالطبع، لكنها كانت بالتأكيد مزخرفة أكثر مما هي عليه الآن.
بدايةً مع الزخارف الكثيرة جداً، والتي تبدو زخرفتها في بعض الأحيان مبالغاً فيها، وصولاً إلى الزخارف الأبسط لكن الأكثر رقياً، حيث تناول الكثير منها تفاصيل زخرفية تشير إلى تاريخ المدينة أو المنطقة التي تنيرها، ذلك من خلال طلاء معين أو مجسمات أو رموز محلية. ارتقى العادي إلى شيء له معنى، مثير للاهتمام، يصل إلى درجة الجمال-في تقليد يتصل بـ«غوبكلي تبه».
هذه الصناعات الحديثة، خرجت إلى النور فقط بفضل مواد ومناهج الإنتاج الصناعي، لكنها رغم ذلك كانت تتبع مبدأ جمالياً قديماً. إن الزخارف الجمالية إذن ليست مستحيلة في عصرنا الصناعي الحالي، بل إنها في الحقيقة منبوذة، ولكن لماذا؟ ذلك التحول القبيح لم يكن فقط نتيجة لعوامل اقتصادية، مثلما استنتج قليلون، إنما بعض الأفكار الخاطئة أدت إلى ذلك. فمثلاً نجد المعماري أدولف لووس الذي رأى في مطلع القرن العشرين أنّ الزخارف المعمارية هي بقايا الحضارات والعصور الأقل عقلانية، من هنا جاءت تصميماته ومبانيه خالية من أي زخارف، والتي كان لها تأثير كبير على العمارة في وقتها. وحتى في القرن التاسع عشر لم يكن هناك نقص في النقاد الفنيين، مثل المصمم الشهير ويليام موريس، الذي رثى الإنتاج الضخم وقتها، ووجده، رفقة آخرين، مجرّد تقليد باهت لمصنوعات يدوية كانت جميلة في السابق-كانت كتالوجات التصنيع الجديدة بالنسبة إليه استهزاء وتزييف، وحتى مع الازدهار المتأخر لحركة «الفن الجديد» (Art Nouveau) وحركة «الفن الزخرفي» (Art Deco) لم تهدأ موجة الحداثة- التي لم تكن حركة جمالية بقدر ما كانت حركة تضامن مع النمو السكاني والعولمة، الحداثة التي يساء فهمها ويُقبَل شتمها في العادة، كانت بلا شك، وبشكل واضح، قطيعة مع الماضي الذي اشتهر بزخرفته.
من المغري أن نعتبر كل هذا نتيجة حتمية لاستبدال الصنعة اليدوية بالآلات، التغير الذي ازدهر على عاتقه العالم الحديث بالطبع. لكنه في الحقيقة يمثل التحوّل في العقلية والأولوية، تحول في مفهوم ما هو مهم وكيف على الأشياء أن تبدو.
رأينا أعمدة الإنارة المزخرفة، بين السخيفة والمهيبة والبسيطة، وقد كانت ذات يوم صناعة ضخمة. أما الآن فقد أصبحت مجرد أعمدة إنارة مملّة، تعكس موقفاً أشمل عن البيئة العمرانية، لم يعد للزخرفة مكان فيه. الهدف الأساسي من أعمدة الإنارة بالطبع هو إنارة الشوارع. ولكن هل هذه هي وظيفتها الوحيدة؟ بالطبع لا. إذ مثلما سبق ورأينا، إن الفعالية لا تتنافى مع الجمال. يمكن لأعمدة الإنارة أن تكون جميلة ومثيرة للاهتمام وجذابة للعين، بالرغم من بساطة وظيفتها. هذا التحوّل في العقلية والأولوية (وفي سياق اجتماعي واقتصادي أشمل) يتمثل بامتياز في أعمدة الإنارة الموجودة على نهر التيمز. فبعدما عقدت مسابقة لاختيار تصميم أعمدة الإنارة الجديدة، كانت النتيجة: أعمدة إنارة مزخرفة بالدلافين، والتي قد تبدو جميلة أو غريبة، ذلك يعود بالنسبة إلى من يراها، لكنها بالتأكيد ليست مملة. وأعمدة الإنارة تلك يمكن أن نعتبرها «مصممة» أو «مصطنعة» تقول الكثير عن التغيّر في تصورنا للبيئة العمرانية.
بالتأكيد هناك أمور أهم من أعمدة الإنارة التي نقابلها يومياً، لكن ليس من الخطأ أن نقول أن تأثيرها البصري لا مفر منه. ومثل كل شيء، الاختيار بين أيدينا. اختيار لا يختلف كثيراً عن ذلك الذي اختاره البناؤون المجهولون عند «غوبكلي تبه» قبل 11000 عام.