محمد خير
منذ أن أصدر ديوانه السابع «جمال كافر» عام 2005، لم يأت عماد أبو صالح بجديده بعد. «أحسّ بأنني صرخت الجزء الأكبر من صرختي»، يقول متابعاً «الآن أتيح لنفسي قدراً من التأمل والبطء والكسل». لكنّ التأمل لم ينقطع قبلاً وأبداً من قصائد أبو صالح. هو أحد أبرز الأصوات الشعرية المصرية. دواوينه التي تتابعت منذ منتصف التسعينيات ولمدة عشر سنوات، راكمت تجربة شديدة الخصوصية، كأنّها قارب جذّف صاحبه بعيداً عن مياه مجايليه. لغة خاصة وأسئلة إنسانية كبرى لم يكن منها بدّ، إذ «ليس هناك شعرية من دون سؤال كبير». كلاسيكي؟ ربما، في الواقع يعترف بكلاسيكيّته في إحدى قصائد ديوانه «مهندس العالم» الذي أقرّ في بدايته «لي خمسة كتب وأخاف، لا أزال، من الكتابة (...) أنظر للذين يتكلمون عن متعة الكتابة، وأضحك».
لكنه لم يضحك كثيراً خلال موعدنا في المقهى القاهري المنزوي، وخوف الكتابة لا يزال يبدو أزلياً حين يكتب وحين يتحدث أيضاً. الشاعر يقف دائماً على حافة الحركة، اللحظة الحرجة، لا شيء يطمئن ولا شيء يجب أن يطمئن، حتى لحظة الشعر. «حين أتأمل كتبي أشعر أنني خطفتها/ سرقتها من العالم». لا يقين ولا ضمانة، حركة الشعر تختلف عن ثبات الرواية، يشرح «الروائي كلما زادت حركته وخبرته زادت تجربته، الشاعر قد تنطفئ جذوته مبكراً كرامبو أو تتأجّج متأخراً مثل كفافيس» الأخير هو الشاعر الوحيد الذي يغار منه عماد أبو صالح.
في لحظته الآنية، لا يبدو الشاعر مختلفاً ــــ في الروح ــــ عن الطفل الذي ولد في الريف المصري قبل أربعين عاماً. لم يسمع كثيرون عن قرية «دملّاش» في محافظة المنصورة (دلتا مصر). اللغة الغنية في قصائد عماد لا تنبئ بتاريخه الشخصي: «لم أقرأ أو حتى أر كتاباً خارج كتب المدرسة حتى تقدمت بأوراقي إلى الجامعة في المدينة». طفولة موغلة في القسوة لأسباب عدّة، وعلاقة شديدة التركيب بالأب والأم، تنضح بها قصائده في العديد من المواضع. لنقرأ مثلاً في قصيدة «اكره أمك» «الكلاسيكي، المشاع، السهل، هو أن تكره الأب، أي ولد في أي حارة يعمله (...) سقط الأب على الأرض، بجسده الضخم، لا مثل ثور، بل ككلب ذليل. أغمضت عينيّ، لحظتها، لئلّا أحب منظر الدم».
لكنّ الأم أخطر كثيراً، تتابع القصيدة «المنسي، الصعب، الحتمي، هو أن تكره الأم. حبل الحنان الذي يلتف، كحيّة، حول رقابنا (..) قلب الأم؟ كلام رخيص. تافه. يوسخ الفم لو نطق به (...) حبّ مجاني، غريزة. لا خصوصية، ولا مكابدة، ولا اختيار حر». «كثيرون يظنّون أن أبويّ متوفّيان بسبب تلك القصائد» يقول عماد بابتسامة نادرة. في قصيدته «عيد ميلاد أمي» لمحة أخرى (عيد ميلاد/ وhappy birth day to you? / ووردة ؟/ إنّه حتى لم يفكر في أن يهديها حزمة عشب/ من التي يهديها كل صبا ح لبقرته».
لكنّ التّماس بين علاقته بالأب الحقيقي من جهة، والأب الثقافي من جهة أخرى، هو تماسّ مدهش، وحتمي أيضاً. هذا «إذا كنت معنيّاً بثقافتك حقاً، بأن تضيء نقاطها العمياء. أنا وأنت مصريون وعرب ومسلمون بالمعنى الثقافي، ومن السهولة أن تقع في وهم القدرة على نفي تلك الحقيقة، تلك الثقافة. هي تماماً كالأب والأم، قد تنفيهما، تقاطعهما، الأصعب هو أن تقيم علاقة جدلية، أن تسعى إلى فهم هذا المزيج من الحب والكراهية، القسوة». هذا الجدل، هذا المزيج، هذه الدوائر، تتبدّى في شعر عماد قدراً هائلاً من سخرية تنحو دائماً نحو العد، هكذا يفتتح ديوانه «عجوز تؤلمه الضحكات»: «حين نموت/ وتنهش الديدان لحم وجوهنا/ التي خربتها الحياة/ تبتسم جماجمنا ابتسامة كبيرة».
في صحيفة «الوفد»، يعمل أبو صالح منذ 1991 صحافياً في قسم... الاقتصاد! «لم أشأ أن أشتغل بالثقافة، ربما خوفاً من التعامل مع المثقفين، ربما هرباً من أن أجد نفسي في «دكان» ثقافي، أو من أن أصير صاحب سلطة ما، وغالباً لأنّ الشعر ـــ المنطقة الحميمة في حياتي ـــ لم أشأ أن أخلطها بالعمل». لكن «الصحافي» عماد مقلّ جداً، في الواقع لا يذكر كثيرون أنهم قرأوا له مقالاً. «أهرب إلى الكواليس» يقول «حتى لا أتورط في الكتابة، أخاف أن أتخذها مهنة».
هذا التخوّف، هذا الهروب، هذه «العزلة» تبدو محيطة به من كل جانب، اختيارية إلى حد كبير. «الشعر يساوي غياب الحياة، لا أؤمن بأن «تقترب فترى». رأيي أنّه «مَن ابتعد رأى»». عزلة تحيط قصائده أيضاً، لا يرى الناس قصائد عماد إلا مطبوعة في دواوينه، لا نشر في الصحف أو الدوريات، لا أمسيات شعرية تقريباً، العزلة ليست موقفاً شعرياً فحسب، هي أثر الماضي أيضاً «أنت تؤسس حياتك في طفولتك وطفولتي كانت بيتية مرغماً». ولد عماد حبيس مرض كان منتشراً آنذاك «بعد سلسلة من العمليات الجراحية، استطعت أن أمشي، ثم أمشي من دون ألم، وكنت وقتها في الثانية والعشرين».
ما زال أثر المرض بادياً عليه من خلال «عرج» خفيف في رجله. مع قامته الطويلة النحيفة ومشيته الهائمة متأبطاً كتبه يبدو شبيهاً بشعرائه الكلاسيكيين، باستثناء قبعة رياضية يعتمرها نهاراً وليلاً. «أما هذه فلإخفاء بوادر صلع» يبتسم مرة أخرى، ليس منعزلاً تماماً رغم كل شيء.
هو الشاعر الذي يطبع كتبه، يرسم أغلفتها، ويوزعها بنفسه. في الواقع اشتهر بذلك، يؤكد أنّه فضّل تلك الطريقة لكن بلا أساطير. «عندما بدأت طبع دواويني لم تكن «هوجة» دور النشر الخاصة قد ظهرت بعد، فكان الحل الذي اخترته هو الأفضل والأقل كلفةً. إذ كان البديل هو مؤسسات الدولة. دولة حاولت تدميري إنسانياً». إذ اعتقل عماد سياسياً لمدة شهر في سجن «أبو زعبل». كان ذلك في عام 1989، لكنّه لا يحبذ الحديث عن تلك التجربة «لا أنكر أنّ هذه التجربة منحتني فخراً بسيطاً».
ما ليس فخوراً به هو أزمة الوعي، هناك «أرواح موهوبة عظيمة» بين الشعراء العرب، ولكن من السخرية أن السياسيين يخططون «وصفة الكتابة». لتكن قومية عربية مرة، ثم لتكن تجريدية مواكبة للعولمة، حيث الشعر سلعة للتسويق، بلا أي معنى يحول دون عبور الجنرالات والسماسرة والقتلة.
أليس الحديث عن المعنى والأسئلة الكبرى غريباً على قصيدة النثر؟ قصيدة العابر والزائل؟ ينفعل قليلاً «مَن قال إنّنا نكتب قصيدة نثر؟ سواء بالمعنى البودليري أو الرامبوي، أو معايير سوزان برنار؟ نحن نكتب قصيدة لها إيقاعها الشعري الحر، لا النثري. فقط هو إيقاع يختلف عن إيقاعات الخليل بن أحمد، إيقاع لم يتمّ اكتشافه بعد وقد لا يتمّ اكتشافه».
جدل في الأسئلة وجدل بالمعنى المادي، ربما يستريح الآن عماد أبو صالح من الكتابة، لكنّه لا يستريح من جدله مع نفسه، مع ماضيه، مع ثقافته... «الجدل ليس واجباً، بل قدر» يقول. وقوله ـــ القدري ـــ ليس غريباً عنه، فهو يصف نفسه في مفتتح ديوان «جمال كافر» بالقول: «طلعتُ شاعراً». هكذا وجد نفسه، وهكذا يستمر.


5 تواريخ

1967
الولادة في المنصورة، شمال القاهرة
1988
آخر عملية جراحية استطاع بعدها المشي بصورة طبيعية
1989
الاعتقال في «أبو زعبل»
1991
الاستقرار في القاهرة والعمل في صحيفة «الوفد»
2005
أحدث دواوينه بعنوان «جمال كافر». وكانت الانطلاقة مع «أمور منتهية أصلاً» (1995)، تلاها «كلب ينبح ليقتل الوقت» (1996)، «عجوز تؤلمه الضحكات» (1997)، أنا خائف (1998)، «قبور واسعة» (1999)، «مهندس العالم» (2002)