خليل صويلح
الشمّاس الشاب الذي هجر الكنيسة السريانية في حلب، بعد تعرّفه عن كثب إلى كنوزها الموسيقية المجهولة، شُغف بالتراتيل الكنسية والألحان السريانية القديمة، فقرر دراسة الموسيقى أكاديميّاً. هكذا وجد نوري اسكندر اسمه على لائحة أول بعثة سوريّة إلى مصر، زمن الوحدة (1959)، فانقلبت حياته رأساً على عقب: «انبهرت بفرقة الأوركسترا السمفونية، والفرق الموسيقية العالمية التي كانت تزور القاهرة حينذاك، وفي المقابل كنت أشعر بالأسى على حال الموسيقى العربية وما أصابها من خدر».
إثر إنهاء دراسته في القاهرة، عاد إلى حلب مدرّساً للموسيقى في مدارسها، وظل منشغلاً بسؤال الموسيقى العربية، وأسباب توقّفها عند حدود التطريب لا أكثر: «بعد الموشحات الأندلسية، لم يطرأ أي نوع من التجديد على المقامات الشرقية». لهذه الأسباب انكب نوري اسكندر على كتابة موسيقى عربية حديثة تواكب التطور الذي رافق الموسيقى الغربية، لجهة تعدد الأصوات (البوليفونيا) والحوار بين الآلات الموسيقية وخلخلة القوالب الجاهزة. المشكلة الأولى التي واجهته هي صعوبة تطبيق الهارموني الغربي على المقامات الموسيقية الشرقية. لكنّ التجارب الموسيقية التي خاضها خلال عقدين من الزمن، سلّطت ضوءاً صغيراً في النفق: «تمكّنت أخيراً من إيجاد توليفات مناسبة، لكنها محدودة... ذلك أن الجملة اللحنية العربية جملة تقليدية يصعب تطويعها، عدا محاولات قليلة أتت على يد سيد درويش ومحمد عبد الوهاب والرحابنة».
ينفي نوري اسكندر وجود سمفونيات عربية خالصة تضاهي السمفونيات العالمية، معتبراً تجارب أبو بكر خيرت في مصر أو صلحي الوادي في سوريا، أو وليد غلمية في لبنان محاولات ناقصة: «معظم الموسيقيين العرب ترجموا الأعمال الكلاسيكية الغربية، وأدخلوا عليها صيغاً شرقية، تفتقد النكهة المحلية، ولم تقترب من صلب المقام الشرقي».
خلال استرجاعه أحوال المقامات، واجه إشكالية ثانية: كيف نصوغ كتابة موسيقية جديدة تخرج من حالة الخدر التي ورثناها منذ ثلاثينيات القرن العشرين، للانتقال من التطريب إلى الجدل العقلاني؟ يقول منفعلاً: «لا يعقل أن تبقى الأغنية العربية أسيرةً للفراق والأشواق والتكرار الكلثومي حتى يومنا هذا». ويستدرك على الفور: «أستثني هنا محاولات القصبجي والسنباطي في الثلاثينيات والأربعينيات، فقد كانا طليعيين على صعيد توضيح الجملة الموسيقية وتخليصها من الشوائب... لكننا اليوم نحتاج إلى تثوير هذه المحاولات ووضعها في قوالب حداثية مدروسة».
بدأ مشروع نوري اسكندر حين دوّن التراث السماعي للموسيقى السريانية، وإذا به يكتشف نحو 900 لحن، يرى أنّها منبع الموسيقى السورية، وإحدى أبرز مرجعياتها: «هذا التراث، لم يكن دينياً صرفاً، بل استند في أنغامه إلى الموسيقى الشعبية في المنطقة، على عكس التراتيل البيزنطية». هكذا أنفق الرجل نحو عشرين عاماً في التدوين والبحث والتأليف الموسيقي، فجرّب أكثر من صيغة لتثوير المقامات بمزج أصوات العود مع التشيلو والكمان، وكانت خلاصة هذه التجارب أسطوانة «كونشيرتو العود» ثم أسطوانة «الثلاثي الوتري».
ويعترف نوري اسكندر الذي هجر حلب أخيراً بتحريض من صديقه التشكيلي أحمد معلا، ليستقر في دمشق، بأنّ حلب «فقدت روحها الموسيقية، وبالكاد تجد فيها موسيقياً مغامراً». لكن ماذا بخصوص القدود الحلبية؟ «القدود الحلبية جذورها سريانية، وبعدما دخل الإسلام المنطقة، تطورت القدود إلى موشحات ثم توقفت عند هذا الحد».
كانت حصيلة عمله في دمشق أسطوانة «تجلّيات» أنتجتها «دار الأوس». وقد جاءت تتويجاً لتوليفاته الموسيقية الشرقية على أرضية كلاسيكية، سبق أن اشتغل عليها قبلاً في «باخوسيات» عن نصوص من التراجيدي الإغريقي يوربيدس.
نجد في موسيقى نوري اسكندر مزيجاً من الألحان الكنسية والموالد والأذكار والنكهة الشعبية، تلك التي خبرها في مطلع شبابه في حلب... إضافة إلى تجواله في المقام الشرقي ومحاولاته الحثيثة تفكيكه نحو جدل موسيقي يضاهي التجارب العالمية.
أعوامه السبعون لم تثنهِ عن المغامرة والتجريب، والبحث في كنوز الموسيقى المحلية، والتراث الشفوي. هذه الموسيقى التي كادت أن تندثر بسبب غياب المحاولات الجادة في اكتشافها وتطويرها عن طريق إعادة بناء أشكال لحنية مغايرة بمضامين جديدة. وحين نسأله عن سبب تراجع الأغنية السورية رغم غنى تراثها وتنوّعه، يجيب محتداً: «كيف تنهض أغنية سورية جديدة على يد ملحنين أتوا من الكباريه إلى الإذاعة؟».
ويشبّه الغناء اليوم بفقاعات المياه الغازية، نظراً إلى غياب الثقافة الموسيقية لدى ملحني هذه الأغنيات «الهمجيّة»، وانبهار الموسيقيين الجدد بالحداثة الغربية من دون فحص أو معالجة: «الحداثة مطلب في الأغنية، شرط تأكيد جملة محلية في اللحن». وينبّه إلى تجارب عربية لافتة عاكست التيار بوعي موسيقي خلّاق، ويضرب مثلاً على ذلك ما فعله زياد الرحباني من كسر لأنماط المقام الشرقي والاستفادة من تيارات متباينة بعد «عجنها وتطويعها»، إضافة إلى تجارب منير بشير، ومحمد قدري دلّال، ومحمد عثمان، في العود... «تكمن أهمية هؤلاء بأنهم استغنوا عن الثرثرة في العزف».
العجوز ذو الشاربين الكثين، يحمل في داخله روح طفل مشاغب، وصعلوك قضى عمره متنقلاً بين الموالد والأذكار بين بيوت حلب وخماراتها، في انتظار فرصة يفرج فيها عن مؤلفاته الموسيقية، ويجسّد أمام الملأ أحلامه في تحطيم القواعد بجرأة تفوق ما أنجزه إلى اليوم. يقول «أحلم باستديو صغير أمارس فيه هواياتي، بدلاً من بيتي المستأجر، وهو على أي حال، لا يتسع لآلة موسيقية واحدة». ويتابع ضاحكاً «كان لدي بيانو، اضطررت إلى بيعه، واليوم أستعير آلات الآخرين».
يشرد قليلاً ثم يقول متحمساً: «أفكر في كتابة عمل موسيقي ضخم يحاكي طوفان نوح بكل أطيافه، وصولاً إلى ما يشهده عالمنا اليوم من فظائع وحروب ودمار... كأنه طوفان آخر».
عمله الأخير «حوار المحبة» كان استكمالاً لأعماله السابقة في مناوشة الشعر الصوفي، مثل «رؤية» و«الآهات»... لكنّه هنا يقتحم مناخات عدة بجسارة أكبر: الشعر الصوفي، والابتهالات، والترتيل السرياني في ارتجالات تمزج ببراعة بين قوالب موسيقية مختلفة، تنعتق فيها الأنغام من أسرها ويخرج المقام عن تقاليده المنمّطة. أمّا المحطة الأخيرة في مشاريعه المؤجلة، فهي الاشتغال على الأساطير المحلية في بلاد الشام، من موقع مغاير «الأساطير تحمل في طياتها أفكاراً موسيقية تتجاوز ما هو مألوف، وتردم المسافة بين مخزون تراثي غني، ولحظة حداثية غائبة».


5 تواريخ

1938
الولادة في دير الزور (سوريا) من عائلة مهاجرة من أورفة التركية

1959
درس الموسيقى في المعهد الموسيقي في القاهرة

1996
مدير المعهد العربي للموسيقى في حلب

2007
صدور أسطوانته «يا واهب الحب: مدخل إلى الصوفية» عن أشعار خير الدين الأسدي كما أعدها ياسر حمود

2009
تكريمه في «الملتقى الدولي الأول للموسيقى في سوريا» المقام حالياً في دار الأوبرا