هشام الأعورلم تكن ساحة المتن الأعلى بحاجة إلى الإعلان عن ولادة اتفاق طائف ليدرك القسم الأكبر من المتنيين مدى معاناة فريقهم بعد غياب قائدهم بشير الأعور، الذي نجح منذ دخوله المعترك السياسي في أن يحمي عائلات هذا الفريق وعناصره وكوادره. فالفريق الأعوري ولفيفه من العائلات، كآل حاطوم وسريّ الدين وصالحة والدنف وغيرها من العائلات اليزبكية الأخرى، نجح منذ أوائل الخمسينيات في خلق حالة درزية مستقلة عن الإقطاعين الأرسلاني والجنبلاطي، تؤمن بلبنان الكيان المنفتح على محيطه العربي الداعم للقضية الفلسطينية. فكانت بلدة قرنايل الحاضن الأساسي لتأسيس عصبة العمل القومي التي من خلالها شارك أبناء المتن في معركة تحرير فلسطين عام 1949. لينتظم من بعدها المتنيون من مختلف عائلاتهم الدرزية، الجنبلاطية واليزبكية، تحت زعامة بشير الأعور، النائب والوزير والحليف الأكبر للرئيس كميل شمعون.
لكن قبل الحديث عن الأزمة الحالية لزعامة آل الأعور، لا بد من أن نستعرض كيف ولدت هذه الزعامة وكيف دخلت في مرحلة من التقهقر الذي أدى في ما بعد إلى غيابها عن الساحة السياسية العامة.
تولّى بشير زعامة بيت الأعور التي ورثها عن خاله المرحوم محمد بيك صبرا، العضو في متصرفية جبل لبنان. وفي بداية رحلته مع العمل السياسي، استقطب بشير جزءاً مهمّاً من الجنبلاطيين واليزبكيين في المتن الأعلى، مستثمراً علاقته مع الطائفة المسيحية ورموزها السياسية ليدخل المعادلة السياسية الكبيرة التي حوّلت حركته إلى شبه تيار سياسي فاعل على الساحة الدرزية في الجبل.
تحالف بشير الأعور مع الرئيس كميل شمعون، إلا أن هذا التحالف القوي بين شمعون والأعور لم يصل إلى حد التماهي عند طرح مختلف القضايا السياسية، ولم يمنع بشير الأعور من الوقوف في موقع المناوئ للرئيس شمعون في ثورة عام 1958 التي كان كمال جنبلاط أحد قادتها. وخلال الثورة، أرسل بشير الأعور مجموعة من شباب المتن توجهت إلى الباروك لإيقاف محاولة شمعون التقدم باتجاه المختارة. وبعد هذه الواقعة التاريخية بدأ الكثير من الشباب اليزبكي والجنبلاطي في الستينيات والسبعينيات يبدي إعجابه بسياسة بشير الأعور الحكيمة التي نجحت في أن تحاكي الواقع السياسي في إطار من الخصوصية العائلية والمناطقية.
مع بداية الحرب اللبنانية عام 1975، كان الخلل قد أصبح واضحاً داخل البيت الأعوري لمصلحة خصمه السياسي، إلا أن الوضع لم يكن ميؤوساً منه في القاعدة، بعكس ما كان على مستوى القيادة الأعورية، وخاصة بعد محاولات التقرّب من القيادة السورية باتجاه بشير الأعور بقصد الحفاظ على كيانه وحماية أنصاره وكوادره أثناء الحرب الأهلية. وما كان من بشير الأعور إلا أن أطلق بيانه الشهير في أيلول 1976 الذي دعا فيه مناصريه إلى عدم الاقتتال الطائفي والوقوف موقف الحياد بين المتصارعين من أبناء الوطن الواحد، فتوجّه قسم كبير من شباب المتن إلى دارة المختارة طالبين السلاح، فردّ عليهم بالترحيب، مما جعل التيار الأعوري يدفع ثمن هذه السياسة طويلاً.
دخلت إسرائيل لبنان ووصلت إلى بيروت، واتُّهم بشير الأعور بانحيازه إلى بشير الجميل، وقيل أثناءها إنه شارك في انتخابه وتوقيعه على اتفاقية 17 أيار على الرغم من نفي أقرب المقربين إليه من السياسيين ذلك، في وقت كانت المختارة تخوض معركة الجبل وتسقط 17 أيار.
لم يتمكن بشير الأعور من رؤية نهاية الحرب، فتوفي في تموز من عام 1989، وبرز اسم الدكتور غالب الأعور وريثاً لزعامة عمّه، فما كان من الأخ الأصغر لبشير المهندس عارف، إلا أن اعترض على هذه التسمية، وخاصة بعدما علم الأخير بسلسلة من الاتصالات جرت بين ابن أخيه والنائب وليد جنبلاط.
نجح عارف الأعور في كسب تأييد ما بقي من الإرث العائلي، بعدما انتسب عدد من شباب المتن إلى الحزب الاشتراكي والحزب السوري القومي الاجتماعي وغيرهما من الأحزاب الأخرى، لكنه كان يعرف أن تثبيت وضعه لا يتم إلا من خلال حصوله على مقعد نيابي يشرعن فيه حركته السياسية والخروج بها إلى الإطار الأوسع، بعدما جاءت تعيينات عام 1991 بأيمن شقير نائباً عن المقعد الدرزي في بعبدا، فخاض الانتخابات النيابية عام 1996، إلا أنه مُني بخسارة حينها زادت من تصلّبه ومناوأته للحزب الاشتراكي.
وما حصل في عام 1996 تكرّر في عام 2000 و2005، ولكن هذه المرة بالوريث الثالث الدكتور غالب الأعور الذي تأمّنت له كل ظروف النجاح، لا سيما في الانتخابات الأخيرة التي خاضها على لائحة الجنرال عون في قضاءي بعبدا ـــ عاليه. إلا أن تردّده وعدم خبرته السياسية وعدم قيامه بأي جهد من أجل إعادة لملمة ما بقي من القاعدة الأعورية، دفعته إلى اعتزال العمل السياسي والسفر مجدداً لمتابعة أعماله في الولايات المتحدة.
هل هناك أزمة قيادة عند آل الأعور؟
بالتأكيد هناك أزمة قيادية، وخاصة أن المحاولات المتعددة قد فشلت في إنتاج قيادة جدية ومتحركة قادرة على توحيدهم وانتشالهم من واقعهم الذي طغت عليه الانقسامات الجِبَبيّة والقَبَليّة بين مَن يدّعون تمثيله اليوم وما أكثرهم، إلا أنهم عجزوا عن ابتداع آفاق يمكن فتحها بهدف تجاوز بعض المخاطر والتبعات السلبية لهذا الوضع السياسي المتردي، وطرح الممكنات أو البدائل التي ينبغي العمل على اجتراحها من أجل إعادة ترتيب البيت الداخلي لآل الأعور.
إلا أن تطلعاتهم انحسرت في شرنقة التمسك الشديد بالمصالح الشخصية، ولو بدون خلفية فكرية موجّهة، حتى لو جرّهم ذلك في أحيان كثيرة إلى السقوط في سلوكيات مريبة وتحالفات مشبوهة وغير مبررة، وهي إن دلّت على شيء، فعلى غياب القيادة المؤهلة لإدارة الشأن السياسي والاجتماعي للأعوريين وتوجيههم نحو المزيد من المناعة والوحدة.
في ظل هذه الظروف المجتمعة من التآكل التنظيمي والبنيوي لآل الأعور بفعل هشاشة محاولات التجديد لقياداتهم وأُطرهم وهياكلهم، لم يعد بالإمكان التنكّر إلى أننا نعيش الآن مستجدات زمن جديد ونحن على أبواب انتخابات عام 2009، تطرح معه مفاهيم جديدة من التمثيل السياسي، ليس من أجل البحث عن مواقع مصلحية أو أدوار سياسية أو اجتماعية، بل من أجل الدفاع عن أفكار ومعتقدات سياسية وقيم نضالية لفاعلين عضويين، في ظل مرحلة يسود فيها كثير من التطبيع السياسي في العلاقة بين الإقطاعَين الدرزيين.