أربع بلدات تختصر الصراع السياسي والانتخابيداني حداد

تختصر بلدات المتن الشمالي الأربع، ديك المحدي وبعبدات وبكفيا وبتغرين، الصراع السياسي في المتن منذ عقود. فقد شكّلت كلّ منها رمزاً لعمل سياسي ارتبط باسمها. لكن لم تفرض أي منها سيطرتها الكاملة على المتن، ما أتاح تنوعاً في الانتماء السياسي. وهكذا، فإن بعبدات ترمز إلى عائلة لحود بشقّيها، وبكفيا إلى حزب الكتائب وآل الجميّل، وبتغرين إلى آل المر. فيما تعتبر ديك المحدي المنطلق السياسي الأساسي للحزب القومي، عبر رئيس الحزب الراحل أسد الأشقر ثم ابنه غسّان.
ويلاحظ أن هذه الزعامات التاريخية، التي ترسخت منذ الاستقلال، وحتى ما قبله، جاءت كلّها من مناطق في وسط المتن وجبله. فيما خلا الساحل من زعماء سياسيين كبار، وإن خرج منه نواب وشخصيات بارزة ولكنهم لم يبلغوا حدّ الزعامة.
ارتبط حضور آل الجميّل في البرلمان بحزب الكتائب، إلا أن مؤسس الحزب، بيار الجميل، كان يترشّح عن المقعد الماروني اليتيم في بيروت، تاركاً شقيق زوجته موريس الجميّل أن يترشّح باسم الحزب والعائلة في المتن. بعد وفاة «الخال» موريس، خلفه «جميليٌّ» آخر، هو أمين، قاطعاً الطريق على «تلميذ» موريس الجميّل، منير الحاج، الذي كان يطمح إلى الترشح مدعوماً من غالبية أعضاء المكتب السياسي. لكن العائلة، التي تبدو الأقوى في الثالوث الكتائبي (الله، الوطن والعائلة) غلبت هذه المرة أيضاً. بعد ثلاثين عاماً تكرر المشهد، سقط رئيس الحزب منير الحاج، المرشح على لائحة «التوافق المتني»، في مواجهة بيار الجميّل الابن في عام 2000.
في بعبدات، تدرّج آل لحود في تولي المقعد الماروني في المتن الشمالي منذ انتخابات 1951 التي فاز فيها إميل لحود (عمّ الرئيس إميل لحود). ثم سليم لحود (والد نسيب لحود) عام 1954 و 1957. ثم تنافس مع اللواء جميل لحود (والد الرئيس السابق) عام 1960، ففاز الأخير. ثم فازا في انتخابات 1964، لكن جميل لم يفز في دورة 1968 التي نجح فيها سليم. إلا أن الأخير توفي عام 1972، قبل أربعة أشهر من موعد الانتخابات، ولم تجر دورة فرعية، إلى أن ترشح شقيقه العقيد فؤاد لحود (عمّ نسيب) في انتخابات 1972 وفاز فيها، وظلّ نائباً حتى وفاته في 1987.
حافظ نسيب لحود، في أول انتخابات بعد نهاية الحرب عام 1992 على مقعد العائلة مرشحاً على لائحة واحدة مع ميشال المر. وتكرر فوزه، بتحالفات أخرى، في دورة 1996، ثم في 2000، حين أصبح تمثيل العائلة مزدوجاً مع انتخاب النائب إميل إميل لحود. وفي 2005 أصبح آل لحود للمرة الأولى منذ عام 1951 خارج البرلمان. أما بعبدات فتمثّلت بالنائب سليم سلهب.
وأما آل المر، فأصل أجداد الأسرة من صافيتا التي نزحوا منها إلى قرية إده في بلاد جبيل. ومنها جاء أحد الأجداد إلى بتغرين. وكان الحضور الأول للعائلة الأرثوذكسية في الحياة السياسية مع غبريال المر عام 1943. بعد 17 عاماً، ترشح العشريني ميشال المر في الانتخابات النيابية، لكنّه سقط في وجه ألبير مخيبر. ثم عاد ونجح في عام 1968. إلا أنه لم يفز في عام 1972، وعاد «الحكيم» إلى البرلمان، نتيجة صفقة على حساب المر تمّت مع أحد زملائه في اللائحة. أما في عام 1992، فعاد ميشال المر على رأس لائحة جمعته مع نسيب لحود وميشال سماحة وأوغست باخوس وحبيب حكيم وغسان الأشقر ورياض أبو فاضل وشاهي برصوميان، قبل أن تسوء العلاقة مع لحود وسماحة. وفي عام 1996 كانت المواجهة الأولى مع الرجلين اللذين انضمّ إليهما مخيبر، خصم المر التاريخي. عام 2000 اجتمع للمرة الأولى منذ أربعين عاماً اسما المر ومخيبر على لائحة واحدة، وابتعد حلفاء الأخير عنه، منضمين إلى لائحة لحود أو منسحبين من المعركة.
عام 2002 شهدت بتغرين أعنف مواجهة انتخابية بين رئيسة اتحاد بلديات المتن، ميرنا ميشال المر، وعمّها غبريال. بعد ثلاثة أعوام ستكون المواجهة مباشرة بين الشقيقين، وسيفوز ميشال.
على عكس آل الجميّل، لم تطغَ عائلة الأشقر على حضور الحزب السوري القومي الاجتماعي في المتن، فارتبطت العائلة والحزب بالعمل السياسي والنشاط المعارض للسلطات المتعاقبة أكثر منها بالسعي إلى التمثل في المجلس النيابي. فبعد أسد الأشقر، أحد أبرز وجوه الرعيل الأول من قيادة الحزب القومي، مثّل ابنه غسان المتن والحزب في المجالس النيابية أعوام 1992 و1996 و2000 على اللوائح التي ترأسها ميشال المر، رغم أن العلاقة بينهما لم تكن يوماً سمناً وعسلاً. وشكا المر يومها من إمرار القوميين أصواتاً إلى نسيب لحود، وذلك بإيعاز سوري تلبيةً لرغبة سعودية. وعام 2005 ترشح غسان الأشقر منفرداً، فعقد اتفاقات على تبادل الأصوات في بعض المناطق التي يملك فيها الحزب القومي حضوراً شعبياً، لكنّه لم ينجح. وتجدر الإشارة إلى أن التمثيل القومي في المتن ظلّ محصوراً بديك المحدي، رغم أن ضهور الشوير، مسقط رأس مؤسس الحزب أنطون سعادة، تضمّ الثقل القومي الأبرز متنياً.
يرتبط التاريخ السياسي للمتن الشمالي، إلى حدّ بعيد، بالتاريخ العائلي والجغرافيا المناطقية، وقد لا يختلف، من هذه الناحية، عن مناطق أخرى في لبنان، حيث تؤدي العصبية المناطقية والوراثة السياسية دوراً أساسياً في تكريس الزعامات التي، وإن خبت لسنوات، تعود لتبرز بفضل تجذّرها وسعة انتشار شعبيّتها. ولكن اللافت في المتن هو أن أصغر العائلات عدداً هي التي تعمّر زعاماتها أكثر وتكاد تحتكر التمثيل النيابي.


زعامة مختلفة

إذا كانت البلدات المتنية الأربع قد زخرت بالزعامات، فإن المتن شهد عبر تاريخه أيضًا زعامة لم ترتبط كغيرها من الزعامات بالبلدة، مسقط الرأس. كما أن لا صلة لها بأي وراثة سياسية قريبة أو بعيدة. فألبير مخيبر، ابن بيت مري، الطبيب الذي عرف بخدماته الطبية المجانية، والسياسي الذي التصقت به صفة العناد، يتميّز عن الزعامات الأخرى لناحية الارتباط المناطقي والعائلي. وقد انتخب ألبير نائباً عن المتن في دورات 1957 و1960 و1964 و1972 و2000. وجاء فوزه في الدورة الأخيرة بالتحالف مع ميشال المر، للمرة الأولى في تاريخ المتن الشمالي، ليكون خاتمة لعلاقة انتخابية وسياسية قديمة مع آل لحود، بدءاً من النائب الراحل سليم لحود ثم مع ابنه النائب السابق نسيب لحود.