بولس الخوري *كثيراً ما نسمع القول بتغيير النظام اللبناني، حتّى في صيغته «الطائفيّة» و«الدوحيّة»، عن طريق إلغاء الطائفيّة، إمّا في الوظائف وإمّا في مجمل النظام، أو عن طريق إرساء المجتمع المدني، أو مرحليّاً باعتبار اللاطائفيّين أو اللامتديّنين طائفةً قائمةً بذاتها، لها وعليها في النظام القائم ما لغيرها وعلى غيرها من الطوائف المعترف بها، أو عن طريق استبدال النظام العلماني بالنظام الطائفي... إلى ما هنالك من اقتراحات للتخلّص من نظام طائفي أخذ الكثير من غير الطائفيّين، بل من الطائفيّين أنفسهم (إن لم يكن ذلك منهم مناورة كلاميّة يظهرون بها مواكبين ركب التقدّميّين والإصلاحيّين)، يرون أنّه علّة العلل.
في المقابل، قلّ من ميّز بين المجتمع والدولة، على الرغم من التمييز بين القطاع العام والقطاع الخاص، وبين المؤسّسات الحكوميّة والمؤسّسات غير الحكوميّة. ذلك أنّ الاعتقاد السائد يقضي بأنّ الدولة تأمر وأنّ المجتمع ينصاع، أي بأن يكون الوطن منقسماً إلى طبقتين: الحاكمين والمحكومين، وذلك مع القول إنّ هذه الطبقيّة لا تنافي الديموقراطيّة لكون الحاكمين قد انتخبهم المحكومون أنفسهم. إذّاك كانت لدينا الديموقراطيّة والمجتمع والدولة.
غالباً ما تخدّر الناس بكلمة ديموقراطيّة، فيما ندر، بل امتنع، تطبيقها، كما امتنع تحقيق أيّ من المثل الأفلاطونيّة. قالوا إنّها حكم الشعب بالشعب للشعب. وقالوا بتزامن الديموقراطيّة وحقوق الإنسان والمواطن. ولم يتّضح المقصود بالشعب، الإنسان والمواطن، هل هو الشخص الفرد صاحب الحقوق، أي الحرّيّات، أو هو جماعات بشريّة على حسب ما كان يُعرَف قديماً بالشعب والقبيلة والعمارة والعشيرة والبطن والفخذ والفصيلة.
هذه الضبابيّة مردّها إلى الممارسة، حيث يتبيّن أنّ القوانين التي يضعها الحكّام لا تسري إلاّ على المحكومين، فيما الطبقة الحاكمة أو طبقة الذوات والنافذين مقرّها فوق القوانين «تسرح وتمرح».
وأغرب الديموقراطيّات إنّما هي اللبنانيّة التوافقيّة، حيث مبدأها تقاسم أجزاء الوطن المقطّع بالقسط لا بالمساواة. فكانت القسمة على الطوائف على حسب عدد أعضائها. ولعلّ اعتبار العدد هو ما جوّز القول والاعتقاد أنّ هذه الصيغة هي ديموقراطيّة الطابع. وإذا كان العدد هو المحكّ والمعيار، كانت الحقوق والحريّات لكلّ فرد من أفراد الشعب، أي لكلّ إنسان ومواطن.
ولمّا كان الإنسان والمواطن لا يتقوّم إلاّ بما له من بُعد فرديّ وبُعد جماعيّ، صار القول بالمجتمع. ولمّا أمكن تضارب الحقوق والحريّات الفرديّة، وجب إيجاد نظام يحمي كلّ الحريّّات من تعدّي بعضها على بعض، فصار القول بالدولة. لذا كان الفرق والربط بين المجتمع والدولة.
غلب الربط بينهما، على أن تهيمن الدولة على المجتمع، وتحدّ بالتالي من ممارسة الفرد حريّته وحقّه في الرأي والمعتقد والتجمّع. ففسدت الديموقراطيّة، وصار الشعب، أي كلّ إنسان ومواطن، محكوماً لا سيّداً، حيث وُضعت لحاجاته ورغباته حدود قد تكون اعتباطيّة أو استنسابيّة، بل هي غير نابعة من الحاجات والرغبات نفسها.
وقد بانت تلك الهيمنة في بعض البلدان الأوروبيّة في فترة الخصام بين الدولة والدين أو الأديان، حيث صار الأمر إمّا إلى إلغاء الدين في الدول المجاهرة بالإلحاد، وإمّا إلى تنحيته عن الشأن العام والحدّ من سيطرته على الضمائر في الدول القائمة على الفصل بين الدين والدولة.
لكنّ هذا الفصل كان في أوّل أمره ضرباً من التسامح المشفوع برقابة هي أقرب إلى التدخّل في شؤون الدين. الفصل المنشود قد يكون أعمّ، فيكون بين الدولة والمجتمع، ويكون لكلّ واحد من الطرفين صلاحيّاته وحقوقه وحدوده.
يمكن تصوّر الوضع على النحو الآتي: أن نقول بالدولة وبالمجتمع قد يؤدّي إلى التمسّك بمفاهيم مجرّدة، بل بألفاظ. لذا وجب «اللجوء إلى الأشياء نفسها»، على حسب قول هوسّرل واضع الفلسفة الظواهريّة أو الفينومينولوجيّة.
والأشياء هذه إن هي إلاّ الناس في حال الفرادة وحال التجمّع الطبيعي أو الاختياري. وللناس حاجات ورغبات ومطالب، حسب التصنيف الذي وضعه عالم التحليل النفسي لاكان Lacan، منها ما هو مشترك، ومنها ما اختلف باختلاف الأفراد والأوضاع. ومن حاجات الناس الغريزيّة التجمّع طلباً للأمان، ومن ثَمّ تجاوز الغريزة إلى ضرب من عقلنة التجمّع، من دون أن تعني العقلنة الإعراض عن الأساس الغريزي.
فقد تكون العقلنة على وجهين: الأوّل وجه الناس المتجمّعين، فلا إكراه بل توعية. ولا إكراه في الدين ولا في التزاوج ولا في الانتساب إلى أحد الأحزاب ولا في المبادرة أو المشاركة في عمل مؤسّسات إنسانيّة، وما شابه. بل توعية بمعنى أن لا يكون شيء من ذلك انجراراً لا دخل للتعقّل فيه.
هذا الصعيد الأوّل تصحّ تسميته باسم المجتمع المدنيّ متى ساد بين الأفراد والجماعات الفهم والتفاهم وقبول الآخر على اختلافه، بل متى أمكن أن تتألّف جماعة من أفراد ينتمون إلى مراجع دينيّة ومذهبيّة وحزبيّة وغيرها مختلفة.
وذلك ما أطلق عليه المجتمع المدني باعتباره خطوة أولى من المسيرة المتوقّع منها أن تفضي في آخر المطاف إلى مجتمع أو نظام علمانيّ. هذا الافتراض، أو الرهان أن يكون المجتمع المدنيّ مدخلاً إلى العلمانيّة، يقول به بعض من حظيت بصداقتهم. إلاّ أنّي لا أرى الانتقال من مجتمع مدني إلى مجتمع علماني. ذلك أنّ العلمانيّة، في نظري، يتّصف بها الوجه الثاني من العقلنة، هو وجه الدولة.
أهلاً بالمجتمع المدني بما كان وجهاً من وجوه عقلنة غريزة التجمّع البشري. لكنّ هذا المجتمع نفسه يفرز أداة، هي صيغة أو هيئة أو صورة (بالمعنى الأرسطيّ للكلمة) يكتمل بها كيان مادّة المجتمع. هذه الأداة هي ما يمكن تسميته بالدولة، بمعنى أنّ الدولة إن هي إلاّ وظيفة تقوم بها هيئة من أفراد المجتمع أوكل إليها المجتمع صلاحيّة الحَكَم المحايد العدل، المؤتمن على انسجام الحقوق والحريّات، فلا يتعدّى بعضها على بعض، وعلى تأمين الوسائل لتلبية الحاجات المشتركة والمختلفة، وخصوصاً حاجات الناس الأقلّ حظّاً. ذلك أنّ التفاوت بين الناس أمر طبيعي، على العقل البشري أن يحدّ من تداعياته، فيكون لكلّ فرد وتجمّع من المجتمع المدني حقّه في العيش الإنساني.
لا يدّعي هذا التصوّر للفرق والارتباط بين المجتمع المدني والدولة أنّه «شال الزير من البير»، بل قد يكون ذلك دعوة إلى بعض التوضيح في الأمور والمعاني والتعابير. ذلك أنّ الديموقراطيّة وحقوق الإنسان والمواطن والمجتمع المدنيّ والعلمانيّة والعقل إن هي إلاّ كلمات يشار بها إلى مثُل يمتنع تحقيقها في واقع بشريّ تسوده الأهواء، منها النزعة إلى السيطرة والإكراه على أنواعه، بالإغراء والخداع والقوّة. إلى ذلك أرى أنّ العقل عقول، والديموقراطيّة ديموقراطيّات، وحقوق الإنسان والمواطن مجرّد إعلان، ومدنيّة المجتمع مدنيّات، والعلمانيّة علمانيّات. ولعلّ هذه جميعها لا تتعدّى كونها كلمات اتُّفق عليها، فصارت كائنات اصطلاحيّة.
* كاتب لبناني