يَعتقد تركي آل الشيخ، أو هذا ما تقوله والدته على الأقلّ، أن «عَليه عَيْناً». تُكلّمه أُمّه، نورة، «كلّ يوم وتقول لا تطلع صورك»؛ فـ«العَيْن حقّ». لكن هيهات، أنّى لتركي أن يَقنَع بما دون «الظُهور»؟ على أن نورة، المنتسِبة - للمفارقة - إلى إحدى أكبر العوائل المحافِظة في السعودية (إبنة الشيخ محمد بن عزاز المشرفي التميمي)، تبدو مبالِغةً في توصيفها؛ فإذا كان ابنها «المنظومُ» محسوداً حقاً، فهو - مثلما قالت العرب - كـ«الذئب يُغبَط وهو جائع». صحيحٌ أن تركي جمَع، في عهد «مولاه» محمد بن سلمان، من المناصب ما عَزّ على غِلمان كثيرين آخرين، وأن نجل «الملك العظيم» اصطفاه هو، دون سواه، لقيادة الأمّة نحو «سِدرة الترفيه»، وأن «الوزير الأثير» تعدّدت «مواهبه» حتى ملأت الآفاق (وَلَو غثّاً)، لكنّ «بو ناصر»، والحقّ يُقال، يكاد لا ينام إلّا دقائق في اليوم نوماً عميقاً، و«باقي الوقت افكر حتى وانا نايم»، وفق ما يتحدّث به عن نفسه. كيف لا والرجل يحمل لواء مَهمّة «مقدّسة»، عِنوانها قتْل النباهة الإنسانية والاجتماعية لدى ملايين البشر، وإلهاؤهم عمّا يُراد بهم؟قد لا يحتاج المتأمّل في هذه الشخصية إلى الاستعانة بمناهج علم النفس ومبادئه لاستكشاف بواطنها؛ ذلك أن تركي سطحيٌّ إلى حدّ الافتضاح، وبائنةٌ عيوبُه بدرجة مِشيته التي تحاول - لغايةٍ في نفْس صاحبها - استلهام هيئة الطاووس. غير أن تلك السطحية، المعادِلة للبلاهة، سرعان ما قد تُحيل إلى تركيبة معقّدة، عندما تقترن بنرجسية مدهشة أين منها أسطورة «نركسوس» اليوناني، وبحبٍّ فاقع للرياسة لا يُفسَّر بغيرِه وَلهُه بأمْر الناس ونهْيهم وأخذ السّمْع والطاعة منهم، مقابل انقياده حدّ الرِقّة الطوعية لـ«شخصية استثنائية» تعلّم منها الكثير كما يقول، واصِفاً بهذا ابن سلمان. هي إذاً خُلْطةُ عُقد وجد فيها الأخير ما يحاكي سريرته، ليُشكّل الرجلان، معاً، ثُنائياً نادراً، خصوصاً لناحية الترافُق في الانحدار إلى الأردأ، وكأن آل الشيخ ومُربّيَه أخذا على عاتقهما مهمّة ركْس نظرية التطوّر «الداروينية»، بنموذج حيّ لا يُدحض.
هذا التمازج هو ما يحلّل به تركي نفسُه، سرّ صيرورته «معالي الوزير» مبكراً، على رغم أن سيرة الشابّ المولود في مدينة الرياض في الرابع من آب 1981، لا تبدو خالية تماماً من عوامل الصعود. منذ أن كان ضابطاً صغيراً في وزارة الداخلية في الرياض، احتكّ تركي، عبر والده عبد المحسن بن عبد اللطيف آل الشيخ، بأمراء آل سعود، وفي مقدّمهم نجلا الملك الراحل فهد، فيصل وسلطان، لدى شَغْل الأخيرَين «الرئاسة العامّة لرعاية الشباب» (وزارة الرياضة حالياً) التي كان عبد المحسن موظّفاً متوسّطاً فيها. لكن القفزة الأكبر في حياة الرجل إنّما وقعت لدى زواجه من ابنة وكيل أمير الرياض السابق، الملك الحالي سلمان، ومدير مكتبه ناصر بن عبد العزيز الداوود، الذي وَجد الصهرُ «النَجيبُ» من خلاله طريقه إلى «أمير الديجيتال»، حتى قبل أن يصل الأخير إلى جنّة الحُكم. هكذا، أضحى تركي مُرافقاً (أمنياً) ورفيقاً لابن سلمان، يغذّي كلّ منهما خيال آخر بالسماجة، إلى أن ضحِك القدَر للأمير المترَف، وخطَف من وجهه عمّه، عبد الله، الذي كانت راوَدته فكرة قتْله، لتسريع بلوغه العرْش. ظنّ محمّدٌ، عندها، أن «ساعة حَظّه» قد حانت، بينما هو مُحاط بصِبية «أفذاذ» سيفتحون له طريق «المعجزات»، وعلى رأسهم تركي، الذي بدأ مذّاك يُعربِش على سُلّم السلطة، من مستشار في الديوان الملَكي، إلى مستشار برتبة وزير، وصولاً إلى تعيينه رئيس مجلس إدارة «الهيئة العامّة للرياضة»، وهاهنا تحديداً بدأت الملهاة في سيرة حياة آل الشيخ.
راهَن ابن سلمان على شغف «أبو ناصر» بالرياضة منذ أن كان غلاماً، لتكليفه بقيادة «ثورة رياضية»


راهَن ابن سلمان على شغف «بو ناصر» بالرياضة منذ أن كان غلاماً، لتكليفه بقيادة «ثورة رياضية»، لا في السعودية فحسب، وإنّما في العالم العربي أيضاً. لكنّ الشغف شيء، والدراية شيء آخر، فكيف إذا اجتمعت قلّة الدراية مع ما يُسمّيه تركي «حُبّ العمل والطموح» - والذي زرعه وعزّزه فيه «سيّده» بحسب قوله -، عانياً به، في حقيقة الأمر، حُبّ الغزْو والسيطرة. مَيلٌ سرعان ما تَرجمه نديمُ وليّ العهد بحملةٍ مركّزة على الأندية المحلية، لم يَطُلِ الوقت قبل أن ينتقل بها إلى مصر، بوصْف الأخيرة سوقاً كبرى للترفيه الرياضي، أراد تركي أن تكون بوّابته لتَسيُّد هذا المجال. غير أن القادم الجديد إلى حظيرة آل سعود، والذي تَرافق بروزه مع قرقعةٍ ممتدّةٍ تمجيداً له، لم يكن سلاحه في تلك الحملة سوى «الكيس»، «الكيس» ولا شيء غيره، حتى وصل الأمر بالمصريين إلى حدّ تلقيبه بـ«شْوال الرزّ». لم يفعل آل الشيخ - الذي يَنظر إلى معارِضيه باعتبارهم «حشرات» كما وصَفهم ذات مَرّة - في «الأرض السوداء» إلّا أن شَرى... شَرى رياضيين وإعلاميين وأندية ومناصب، وعداوات ومتاعب، فيما الشيء الوحيد الذي لم يستطع ابتياعه هو الودّ. أمّا النجاح، فقد لا يجد «شاغل الجيل» مثلما يسمّيه مريدوه، شاهداً عليه إلّا «أبو سلمان»، الذي تَكفي شكاسته الطفولية وحدها لإعادة إنتاج «بو ناصر»، و«دُليم» (سعود القحطاني)، وأحمد عسيري، وبدر العساكر، وغيرهم من الأزلام - الفضيحة، تماماً مثلما تُجترّ الأفلام عينها في الفِعل السياسي، وهو ما يدينه تركي نفسه في مطالعاته «الحِكَمية» على موقع «تويتر»، مفيداً إيّانا بأن «الأخطاء بحد ذاتها ليست مشكلة... المشكلة في أن لا تتعلم الدرس... وأن تستمر في تكرار نفس الخطأ... في انتظار نتيجة جديدة».
إلّا أن هذه الحكمة المبتذَلة لا يبدو أنها طرقت مُخّ ابن سلمان يوماً، أو أنها طرقتْه بالفعل من غير أن تجد لها مكاناً تَستوطن فيه. لم يَكَد «بو ناصر» يطلّق الرياضة ثلاثاً لا رجعة له فيها، حتى عاجَله أمر ملَكي بتعيينه رئيساً لـ«الهيئة العامة للترفيه»، من دون إلقاءِ بالٍ لحقيقة انتمائه إلى آل الشيخ، الذين لم تَقُم الدولة إلّا بسيْف دعوتهم التكفيرية على كلّ صغيرة وكبيرة. لكن ما همَّ وليَّ العهد إذا كان زعيم هؤلاء، عبد العزيز آل الشيخ، قد بدّل جلدته سريعاً إرضاءً لـ«صاحب الأمر»؛ فأضحت الموسيقى في نظره حلالاً، وأدلّةُ تحريمها ضعيفة، وتأخيرُ الصلاة - التي كان يُضرب مَن لا يغلق محلّه في وقتها - من أجل حضور حفل لأحد وجوهها جائزاً. أمّا كَوْن تركي غير منتمٍ إلى العائلة المالكة، و«غير مدعوم» إلّا مِن «ربّي وثقة سيدي»، فليس ذلك ممّا يضير ابنَ سلمان، الذي فَعَل بآل سعود ما لم يسبقه إليه أحد، على قاعدة تسكير نوافذ المنافَسة الداخلية، والاتّكاء على الوجوه الصاعدة في إنفاذ «رؤية 2030»، وبناء الدولة السعودية الرابعة. سريعاً، بدأ «بو ناصر» مُراكَمة ما تَوهّم أنها قوّة ناعمة سعودية، مُغرياً أميره بأن عملية «تجويد الحياة» في المملكة قد انطلقت على يديه، وأن الطريق إلى «التحوّل الوطني» الموعود إنّما سيشقّها هو بعصا الكرنفالات. «ڤيا رياض»، «بوليڤارد رياض سيتي»، «رياض سفاري»، «العاذرية»، «أُوايسس الرياض».... هي بعضٌ من «المعابد» التي أشرف آل الشيخ على تشييدها، ليَدخل فيها أتباع «طريقته» أفواجاً، ويبدأ موسم «إسهال» في استهلاك الترفيه لا يزال قائماً إلى اليوم، وسط علامات هذيان جماعي، جلّى بعضاً منها مهرجان «ميدل بيست»، حيث عبقت سماء عاصمة المملكة برائحة «الماريجوانا»، فيما كان التحرّش الجنسي على الأرض جارياً على قدَم وساق.
حفلةُ جنون عارم استثارت حتى مَن كانوا لا يزالون بالعي ألسنتهم، لتَعود الحقائق المكنوسة تحت البساط إلى الظهور مُجدّداً، مُذكِّرةً ابن سلمان بأن هذه البلاد لا تزال هي السعودية، ولمّا تُضحِ لاس فيغاس؛ وأنه خارج سحابة «موسم الرياض»، لا تفتأ الكثير من أوجه الحياة كما كانت: عاداتٌ اجتماعية محافِظة في العديد من أنحاء المملكة، ورفْضٌ محلّي حتى لِمَا باتت القوانين المُطوَّرة تسمح به مِن مِثل الاختلاط بين الجنسَين؛ وأن «التحوّل» لن يتحقّق لمجرّد أن آل الشيخ أذّن في الناس بالترفيه، فيما مجرّد تصوير فيلم في صحراء محافظة العلا لا يجد «كومبارساً» سعودياً مستعدّاً للقيام بواحدة من الوظائف التي ظلّت تاريخياً حكراً على الوافدين، وفي وقت تكاد فيه شوارع المدينة وجدة «تُصفّر» لقلّة المستثمرين فيها، بفعل «التطبيق القاسي والمتسرّع والمتناقض» للأنظمة الجديدة، وفق ما يقرّ به عتاة مؤيدي النظام السعودي (راجع مثلاً: الحرب على القطاع الخاص لخالد محمد باطرفي، صحيفة مكة الإكترونية). فـ«هل هذا هو المؤشر الذي نودّ أن نرسله» في شأن «نجاح وطني يحفّز المستثمر الأجنبي على المشاركة والإسهام»؟ يتساءل باطرفي، ليأتي الجواب من ابن سلمان على لسان أبيه (خطاب الملك الأخير أمام مجلس الشورى)، بأنه في 2030 سيحصل كذا وكذا، أمّا ماذا يحدث في الرحلة إلى العام الموعود، فلا جواب عن أسئلة «حائرة، مقلقة، ومحبطة»، كما يصفها باطرفي.
وحده آل الشيخ يعبّئ الفراغ بكلام «ملعوص» (لا قيمة له ولا فائدة منه) على «قوْلة» اليمنيين، مغترّاً بما يلقاه من نفْخ من قِبَل «النجوم»، الذين يَبدون في الذلّ - وصِنوهِ النفاق - سواسية كأسنان المشط، بل ويتسابقون على إظهار هَوْنهم، الذي ألِفوه حتى «صار عندهُمُ طبْعاً»، مثلما يقول الشاعر. والشعر هنا ليس «خرابيط» من النوع الذي يخطّه «بو ناصر»، محاوِلاً إقناعنا بأنه متنبّي عصره أو هوميروس زمانه أو شكسبير حقبته، بل إن التنطّح بلغ به حديثاً حدود الرواية، حيث يسعى في تقديم نفسه بوصْفه واحداً من العباقرة الذين كانت لهم بصماتهم في تَحوُّل أُممهم من طَوْر إلى طَوْر، كما ثربانتس. على أن النبوغ، يا «معالي المستشار»، لا يمكن أن يُستنبت بالمال، وإن استطاعت غيلان «العُوجا»، بالفعل، الهبوط بالذائقة الفنّية إلى درَك يكون فيه تركي مثلاً، منارتنا التي نُباهي بها الأمم.
«تقول لي والدتي: يا ولدي، إن شئت أن تنجو من النحس،
وأن تكون شاعراً محترَم الحسّ،
سبّح لـ(ابن سلمان)، واقرأ آية الكرسي».
(تعويذة شعرية متصرَّف بها)