في الأول من أيلول/ سبتمبر الجاري، عاد الطلّاب السعوديون إلى مدارسهم، في ظلّ تغييرات واسعة شملت إنشاء مدارس مختلطة للبنين والبنات، وإدخال تعديلات جذرية على المناهج استدعت التخلّي عن معظم الكتب الدراسية للعام الماضي. التعديلات، التي بدأ العمل عليها منذ قرابة عامين، ويُتوقع أن تواصل مسارها التصاعدي في السنوات المقبلة، تركزت على ثلاثة جوانب رئيسة: تهميش دور الوهابية في نشوء الدولة السعودية، إبراز «العمق الحضاري» للمملكة وإعلاء النزعة القومية لدى أبنائها، و«شيطنة» الدولة العثمانية التي كانت توصف في ما مضى بـ«الخلافة الإسلامية».«ترجمة كتب الفلسفة المنحرفة، وتشجيع دراستها والتعمّق فيها» هي ثاني الأسباب الخارجية للانحراف عن العقيدة الإسلامية، مثلما يرد في كتاب «التوحيد» للصفوف الثانوية في السعودية للعام الدراسي 2019. نصٌّ لا يُستبعد أن يتم الاستغناء عنه في السنوات المقبلة بما يشرّع الأبواب على تدريس الفلسفة وتعاطيها، وذلك على ضوء التعديلات الواسعة التي أدخلتها وزارة التعليم أخيراً على المناهج. هذه التعديلات تجلّي مجدداً، من بعد مظاهر كثيرة أخرى، مخاض التغيير الاجتماعي والثقافي الذي تعيشه المملكة، والذي لا شيء يضمن انتهاءه إلى حالة استقرار يتطلّع إليها العهد «السلماني»، في ظلّ الاضطرابات الكبيرة التي تثيرها التبدّلات السريعة والدراماتيكية في مجالات عدة، والتي لا تزال مقتصرة إلى الآن على التجاذبات الكلامية بين الشرائح الشعبية السعودية.
في الشكل، جاء تشريع اختلاط الجنسين في ما أُطلق عليها «مدارس الطفولة المبكرة»، والتي تمّ بموجبها أيضاً، للمرة الأولى في تاريخ المملكة، إسناد تدريس الصفوف الأولية من المرحلة الابتدائية (أول، ثاني، ثالث) إلى معلّمات (إناث) بعدما كان ذلك محظوراً، ليثير جدلاً واسعاً في أوساط السعوديين. جدلٌ بلغ مستوًى دفع النيابة العامة السعودية إلى إصدار بيان حذرت فيه من «إنتاج ما من شأنه المسّ بحرمة الحياة الخاصة للأطفال أو المرأة داخل المؤسسات التعليمية، أو إعداده أو إرساله أو تخزينه» تحت طائلة المعاقبة بـ«السجن لمدة تصل إلى خمس سنوات». وترافق ذلك البيان التحذيري مع حملة شرسة شنّتها وسائل الإعلام السعودية ضدّ من استغلّوا المشروع المذكور من أجل «زعزعة الأمن، ونشر الفتنة والفوضى، وإثارة الرأي العام»، على رغم أن من اعترضوا على «الطفولة المبكرة»، في المعركة حامية الوطيس التي شهدتها مواقع التواصل الاجتماعي، هم من أولياء الأمور الذين اعتبروا أن «القرار ليس له ما يبرره، بل ستنتج منه سلبيات كثيرة»، مستعينين في عرض آرائهم بفتاوى الداعية السعودي عبد العزيز بن باز، الذي كان قد رفض «تولي النساء تعليم الصبيان في المرحلة الابتدائية».
هذا الاحتدام الافتراضي، الذي دائماً ما يتكرر لدى صدور أي قرار يتصل بالحياة العامة في المملكة، تراهن السلطات ــــ على ما يبدو ــــ على اضمحلاله تدريجياً، فـ«الخطة واضحة، والمسيرة مباركة، وسنصل إلى تحقيق الأهداف بكل ما أوتينا من قوة» على حدّ تعبير أمير منطقة الرياض، فيصل بن بندر، في إجابته سؤالاً عن الانتقادات التي وُجّهت إلى مشروع «الطفولة المبكرة». رهانٌ يظهر واضحاً كمونه خلف كل القرارات التي اتخذها ولي العهد، محمد بن سلمان، ومسؤولوه، منذ اعتلائه سدّة منصبه، وآخرها إطلاقه عجلة تعديل المناهج الدراسية بما يتوافق مع الرؤية «السلمانية» ومُحدّداتها الغربية، وتحديداً الأميركية، في ظلّ توقعات بتصاعد ذلك المسار في خلال السنوات المقبلة، وصولاً إلى تقليص المواد الدينية التي لا يقلّ عددها عن خمس راهناً لتصبح مادة واحدة، وجعلها أكثر تسامحاً.
لا يرد ذكر ابن عبد الوهاب إلا في موضع واحد يَختزل بكلمات معدودات قدومه إلى الدرعية


حتى الآن، لا تعديلات كبيرة في هذا الجانب، لكن الملاحَظ بوضوح في طيّات المقررات الجديدة هو تراجع المكانة التي كانت تحتلّها الدعوة الوهابية في سرد تاريخ المملكة، لمصلحة أمراء آل سعود، بما يخدم النزعة القومية التي يحاول ابن سلمان خلقها لدى السعوديين. في كتاب التاريخ للصفوف الثانوية للعام الحالي، مثلاً، لا يرد ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلا في موضع واحد يَختزل بكلمات معدودات قدوم الأخير إلى الدرعية، حيث التقاه «الإمام» محمد بن سعود و«قدم له التأييد الكامل للدعوة التي توائم أهدافها الإسلامية الصحيحة أسس الدولة السعودية الأولى»، بينما في الكتاب نفسه للعام الدراسي السابق يسبق الحديثُ عن ابن عبد الوهاب الحديثَ عن ابن سعود، بالإشارة إلى أنه «بدأ في العيينة بطمس معالم البدع والخرافات الشائعة»، والتفاخر بانتقال مبادئ دعوته «الإصلاحية» إلى «السودان وسومطرة والهند»، فضلاً عن انتشارها في «العراق والشام ومصر والجزائر وجاوة وعمان وفارس». أما لدى الحديث عن تأسيس الدولة السعودية الأولى، فيرد من بين «جذور هذا التأسيس» «تأييده (أي محمد بن سعود) للدعوة الإصلاحية التي قام بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب من أجل نشر العقيدة الصحيحة المبنية على القرآن والسنة النبوية...»، قبل أن تُروى بالتفصيل وقائع اللقاء الشهير الذي جمع الرجلين في الدرعية، والذي تم فيه التعاهد المتبادل على النصرة والتمكين.
هكذا إذاً، يتم، شيئاً فشيئاً، تهميش دور الدعوة الوهابية في قيام الدولة السعودية واستمراريتها، تماشياً مع تطلّع ابن سلمان إلى ترويض «الجناح الثاني» للحكم في المملكة (أي الوهابية)، وحرف مسار الحوادث التاريخية بما يتلاءم مع السردية «السلمانية» التي تحاول لصق التطرف المتقادم في البلاد بالتيارات «الإخوانية»، مع ما يرافق ذلك من إعلان خصام للراعي الإقليمي لتلك التيارات، أي تركيا، بل والإيغال في المناكفة السياسية إلى حدّ نبش إرث الدولة العثمانية، وإحياء النزاعات التي دارت بينها وبين السعوديين بهدف التأصيل للعداوة الراهنة وترسيخها. صحيح أن إرجاع تسمية «الوهابية» إلى «الأعداء» الذين «شوهوا هذه الدعوة لتنفير الناس منها ومن الدولة السعودية» ليس جديداً، لكن الجديد هذا العام هو تحديد «الأعداء» بـ«الدولة العثمانية» (التي كانت توصف سابقاً بالخلافة الإسلامية) التي «أطلقت أوصافاً خاطئة لتشويه الدولة السعودية ومنها وصفها بالوهابية»، وفق ما يرد في كتاب «الدراسات الاجتماعية والوطنية» للمرحلة المتوسطة للعام 2019. تحديدٌ يتوسّع في الكتاب نفسه ليشمل تعداد «مظاهر الحكم العثماني في البلاد العربية» والتي يبرز من بينها «التسلط السياسي وزرع الفتن من أجل منع الجزيرة العربية من أن تكون موحدة»، فضلاً عن «مواقف الدولة العثمانية في شبه الجزيرة العربية»، والتي تشمل ــــ بحسب الكتاب ــــ «محاربة الدولة السعودية الأولى والدولة السعودية الثانية ومساندة بعض الزعماء المحليين ضد الملك عبد العزيز، تدمير الدرعية وما حولها من البلدات وأجزاء كثيرة من بلاد زهران وعسير، تعذيب الإمام عبد الله بن سعود آخر أئمة الدولة السعودية الأولى وقتله في إسطنبول...».
ولأن إخراس ألسنة «الطرابيش الحمر» (كما يسميها كاتب سعودي)، التي لا تفتأ تردّد: «ليس لكم حضارة»، يتطلّب التسلّح بثقل حضاري مضادّ، كان لا بدّ من إضافة وحدة إلى كتاب التاريخ بعنوان «المملكة العربية السعودية: العمق الحضاري»، لم تكن مدرجة في كتب التاريخ للأعوام الماضية. في هذه الوحدة التي يحويها كتاب التاريخ للتعليم الثانوي للعام 2019، يتمّ التطرق بالتفصيل إلى «الممالك العربية القديمة» التي قامت في الجزيرة العربية قبيل ظهور الإسلام كـ«دادان ولحيان» و«الأنباط» و«كندة» وغيرها، مع إضاءة بصرية على بعضٍ من آثار تلك الممالك، ومنها «آثار كندة» و«مدائن صالح». وحتى تكتمل عدّة «الزعامة»، لا تجد السلطات بدّاً من رفع مستوى استغلالها لاحتواء أراضيها مقدسات إسلامية، وهو المعطى الذي ما فتئت تشهره سلاحاً بوجه خصومها ومنتقديها. وفي هذا الإطار، يرد في كتب التاريخ الجديدة أن «هذه المكانة للجزيرة العربية ورثها وطني المملكة العربية السعودية وورثناها نحن أبناء الوطن؛ لنواصل خدمة الإسلام والمسلمين، والدفاع عن الحرمين الشريفين، وعمارة البلاد وتحقيق الريادة في التنمية والتطور؛ ليكون وطننا في أعلى المستويات التي تليق بمكانته ومكانة الإنسان السعودي الذي هو إنسان الجزيرة العربية». على النحو المتقدم إذاً، يعمل العهد «السلماني» على ترسيخ أسس هندسة اجتماعية جديدة تقوم على مبدأ «السعودية أولاً»، وتُعرّف سكان الجزيرة العربية بوصفهم «سعوديين أولاً» قبل أي بعد هويّاتي آخر، بما يخدم متطلّبات «رؤية 2030»، وأيضاً بما يتيح خلق عصبية وطنية في وجه «الأعداء» المفترضين، الأقربين (كاليمن) والأبعدين (كإيران)، وهو الأمر الذي لم يفلح في حالة قطر بالنظر إلى التداخل القبلي الكبير بين الدولتين. أما تركيا، الخصم الذي يبدو أنه يرتقي تدريجياً إلى مرتبة «عدو»، فالمطلوب تسعير التنافس معها إلى مداه، والانتقال بوجهها من مربع الدفاع إلى الهجوم، سعياً إلى فرض أحادية «زعاماتية» في المنطقة، في الوقت نفسه الذي تجرى فيه عملية «تطهير» شرسة لوجوه تيار «الصحوة» في المملكة، حتى داخل المؤسسات التعليمية التي كان ابن سلمان نفسه قد ادعى أنها «مغزُوَّةٌ» من جماعة «الإخوان المسلمون»، متوعّداً بالقضاء على الأخيرة.
يخالف ولي العهد الشاب نجل أسلافه في إدارة الشؤون الداخلية للمملكة (ومنها التعليم) بالتذبذب والمناورة والتسويات، سالكاً سبيل فرض «التغيير» من فوق، بالبطش بكلّ من يخالفه، سواء كان من داخل المؤسسة الدينية، أو من دائرة النضال في سبيل الحريات والحقوق. هدفه من ذلك ذو وجهان: الأول تلبية المعايير الأميركية لعملية «التطوير» الجارية على قدم وساق، والتي باركها وزير الخارجية الأميركي السابق، ريكس تيلرسون، أواخر عام 2017، عندما أبدى رضاه عن بدء السعودية بمواجهة الدعاية المتطرفة من خلال إدراج مواد جديدة وسحب أخرى من المناهج، في وقت أعلنت فيه وزارة التعليم السعودية نيّتها التعاون مع «الرابطة الأميركية الوطنية لتعليم الأطفال الصغار» (نايك) من أجل إنضاج بعض من التعديلات التي أبصرت النور عام 2019. أما الهدف الثاني، فهو تطويع المجتمع بين يديه، وخلق التفاف تامّ حول شخصيته، باللعب على عواطف الشباب المكبوت، والمتطلّع إلى الانعتاق، بما يسمح تالياً بإنجاح مشروعه لحكم المملكة 50 عاماً أو أكثر، إلا إذا أوقفه الموت. لكن ابن سلمان، في مخطّطه هذا، لا يزال يغضّ الطرف عن حقيقتين خطيرتين: أولاهما، أثر الخضّات الاجتماعية التي يحدثها التحول المفاجئ والعنيف من التشدد الديني إلى التطرف القومي، وخصوصاً لدى شريحة من الجيل الشاب نشأت وتربّت على أيدي علماء «الصحوة» و«الوهابية»، وثانيتهما غياب الاستقرار (إلى الآن) عن حكم ولي العهد، الذي لا تزال تتهدّده احتمالات التمرد والانقلاب، على رغم كل ما يوحي به المشهد المرتسم راهناً من تمكّن وسطوة لـ«السلمانيين».



جدل «التعليم» قديم قِدَم المملكة
ليس ابن سلمان الأول في مشروع تعديل المناهج الدراسية في السعودية؛ فقد سبقه إلى الفكرة أسلافه لاعتبارات متعددة تنوعت ما بين داخلية وخارجية، من دون أن تبلغ تطبيقاتها المستوى الذي وصلت إليه اليوم. منذ أيام الملك المؤسس، عبد العزيز آل سعود، بدأ الصراع بين سيل الأفكار الجديدة القادمة من الخارج وبين البنى الاجتماعية التقليدية في الداخل، وهو الصراع الذي أدى اكتشاف النفط لاحقاً إلى تغذيته وتسعيره. أيّد عبد العزيز، مثلاً، إدراج مواد مثل الرسم الهندسي واللغة الأجنبية والجغرافيا في المناهج الدراسية، ليتبعه نجله سعود في تزكية ابتعاث السعوديين للدراسة في الغرب (على رغم أنه حاول ابتداءً فرملة هذا المشروع بضغط من المؤسسة الدينية)، وهو ما واصل مساره التصاعدي في عهدَي فيصل وفهد. في عهد عبد الله أيضاً، طرأت تغييرات أساسية على المناهج، مدفوعةً بتداعيات «زلزال» 11 أيلول 2001، والضغط الأميركي الذي أعقبها لتخفيف حدّة لغة التكفير التي تحتويها الكتب. هكذا، تم إلغاء باب «الولاء والبراء» من كتب التوحيد، الأمر الذي أثار موجة ردود غاضبة من قِبَل علماء ومشائخ يقبعون اليوم في السجون، على رأسهم سفر الحوالي وناصر العمر. كذلك، زيدت، في عهد عبد الله، الجرعة «الوطنية» في الحياة العامة، بخطوات عدة كان أبرزها تحويل «اليوم الوطني» الذي تحتفل به السعودية في الـ 23 من أيلول/ سبتمبر من كل عام (تاريخ توحيد البلاد وتسميتها المملكة العربية السعودية) إلى إجازة رسمية للدولة.